الأمويون بين دمشق وقرطبة.. مقارنات في الحكم والإدارة

الأمويون بين دمشق وقرطبة.. مقارنات في الحكم والإدارة
        

          حظيت أول أسرة ملكية في العالم الإسلامي وهي الأسرة الأموية بفرصتين ذهبيتين لتولي إمارة المسلمين، التي تمثل السلطتين الروحية والسياسية في الفهم الإسلامي من موقعين متباعدين جغرافيا، الفترة الأولى في دمشق والثانية في قرطبة، وفي حين أن الأولى كانت قصيرة (662م- 750م ) لم تتعد القرن فإنها شهدت تحقيق الاتساع الأضخم لديار المسلمين، أما الفترة الثانية فشارفت على الثلاثة قرون (756م 1031م) وشهدت ثورة في مختلف المجالات العلمية والفكرية، نافست بغداد العباسيين الذين ورثوا كل ما كان في حوزة الأمويين في المشرق.

          ويهدف هذا الموضوع إلى عقد مقارنة بين الأمويين في دمشق وقرطبة من حيث أنماط الحكم والإدارة ومواصفات رئيس الدولة.

          أمسك مروان بن الحكم بخيط الخلافة الأموية بعدما أوشك على الإفلات من يد تلك الأسرة بأسرها، وكان الخليفة معاوية بن يزيد بن معاوية قد آثر وهو على فراش الموت أن تعود خلافة المسلمين لأمر الشورى بعد أن حولها جده معاوية إلى ملك عضوض قائلا: «إني لا أجد نفراً كأهل الشورى فأجعلها إليهم ينصبون لها من يرونه أهلاً لها» ومات دون أن يسمي وليا للعهد، وانقسم المسلمون ما بين مروان بن الحكم وعبدالله بن الزبير وتمكن بن الحكم خلال فترة حكمه القصيرة من السيطرة على الشام ومصر قبل أن يتوفاه الأجل، ليكمل ابنه عبدالملك (685م 705م) المهمة الصعبة التي انتهت ببسط نفوذ الأمويين على العراق واليمن والجزيرة العربية.

          وابتكر ابن الحكم نظاما جديدا في ولاية العهد عندما عقد لاثنين من أبنائه هما عبدالملك وعبدالعزيز، وبعد أن مات ابن الحكم تولى عبدالملك خلافة المسلمين وطمع بتولية ابنه الوليد إلا أنه وفي خضم تفكيره بعزل أخيه، وافى الأجل عبدالعزيز وهو في مصر التي كان واليا عليها، وعلى نفس المنوال الذي ابتكره أباه عقد عبدالملك لولديه الوليد وسليمان بولاية العهد، وقيل إنه عرض على ابن أخيه عمر بن عبدالعزيز منصب ولي العهد الثاني، إلا انه نأى بنفسه عنها فذهبت لسليمان، وسار الأمويون على هذه الطريقة وهي المبايعة لاثنين لولاية العهد مع بعض الاستثناءات المتعلقة بتولية أمويين من غير أبناء عبدالملك بن مروان، كما حصل عندما ألقى سليمان بن عبدالملك بعبء الخلافة على كاهل عمر بن عبدالعزيز، وعندما قفز مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية وهو من بيت محمد الابن الثالث لمروان بن الحكم إلى الحكم بحجة الثأر لدم الخليفة الماجن الوليد بن يزيد.

أبناء الحرة وأبناء الجارية

          لم يتول من أمويي دمشق خليفة أمه جارية، حيث حصر هذا المنصب على أبناء الحرات، ولعل أكثر أبناء عبدالملك ابن مروان فروسية وحنكة في شئون الحرب والسياسة وهو مسلمة بن عبدالملك لم يتطلع إلى هذا المنصب احتراما منه لتلك القاعدة وخشية من أن يدب الخلاف داخل البيت الأموي.

          وفي قرطبة التي أسس فيها ملك جديد للأمويين كسرت قاعدة ابن الحرة ولم تعد ذات أهمية نظرا لأن الأمير المؤسس عبدالرحمن بن معاوية كانت أمه جارية بربرية، كما أن الأرض الجديدة ومكوناتها العرقية المتباينة لم تكن لتنسجم مع تفكير عرب المشرق، وكرس عبدالرحمن بن معاوية أو صقر قريش القاعدة الجديدة بعد أن جعل منصب الأمير متاحا لابنه هشام وهو ابن جارية قشتالية.

          وعلى عكس نظام التولية الثنائي الذي طبق في دمشق، اكتفى أمويو قرطبة بعقد ولاية العهد لولي عهد واحد لتلافي تكرار حالة التنازع بين الإخوة كما حصل في دمشق وهو ما ساهم في تآكل البيت الأموي من الداخل، فالخليفة هشام بن عبدالملك حاول مرارا وتكرارا خلع ابن أخيه الوليد بن يزيد دون جدوى، وعندما حاول الأخير تولية ابنه من جارية ولاية العهد ثار عليه أبناء عمومته وخلعوه بعد أن طفقوا من سياسته الطائشة وسيرته الفاحشة فوجدوا في مسعاه الأخير العذر الكافي لخلعه.

          وترك صقر قريش منصب ولاية العهد شاغرا حتى مات لشدة حيرته أو ربما لسعة دهائه، فابنه الأكبر سليمان المولود في الشام كان أقل كفاءة في إدارة الحكم ويحظى بقبول واسع داخل أوساط الجيش الشامي الذي مازال يتمتع بحضور واسع، أما ابنه الثاني هشام المولود في قرطبة فهو الأكفأ والأقدر على تسيير الدولة بنفس كفاءة الأب.

          ووجد صقر قريش الحل بترك خاتم الإمارة لدى ابنه الثالث عبدالله وتكليفه بمبايعة من يصل أولا من أخويه بالإمارة، وكان سليمان واليا على طليطلة، وهشاماً كان واليا على ماردة وهي أقرب إلى قرطبة منها الى طليطلة، وما أن وصل سليمان لتولي مقاليد الحكم في قرطبة حتى وجد أخاه الأصغر في مكان أبيه.

          ومن الأب للابن ظلت الإمارة تنتقل بين الأمويين، مع بعض الاختلافات التي لا تمس الجوهر وهو العدد فالأمير السابع عبدالله بن محمد تولى الحكم بعد أخيه المنذر، وعبدالله نفسه سلم ولاية العهد لحفيده عبدالرحمن بعد أن تهرب منها جميع أبنائه الذين لم يجدوا في الحكم أي منفعة وهم يرون أن الدولة الأموية في ذلك الوقت على شفير الانهيار، وفي المرحلة التي سبقت ظهور ممالك الطوائف وأعقبت زمن الدولة العامرية، انهار الكثير من قواعد الحكم الأموي بعد أن تنازعوا سرير الحكم وتحالفوا ضد بعضهم بعضاً وهو ما أدى في النهاية لتفكك الدولة واستئثار كل والٍ بالولاية التي يحكمها بحجة حاجة الناس للهدوء والأمان بعد أن ضجوا من انعدام الأمن في المدن والقرى على حد سواء.

شوكة الدولة

          كانت الخلافة الأموية في دمشق عربية صرفة على مستوى الولاة والوزراء وقادة الجيوش وكبار المسئولين ونسجت علاقات متوازنة في أغلب الأوقات مع جميع القبائل العربية وإرضاء شيوخها واستمالتهم بالمصاهرة والأموال والمناصب المهمة كل حسب وزنه وتأثيره.

          وعلى العكس انتهج الأمير عبدالرحمن بن معاوية سياسة مغايرة فرضتها طبيعة الجغرافيا السياسية في الأندلس، حيث قام بتقسيم طبقات نظام الحكم الأموي في الأندلس على نحو جديد، إذ جعل من الموالي وهم من العرب الذين يدينون بالولاء المطلق لبني أمية في أعلى مراتب الدولة، كما استكثر من المولدين والصقالبة والبربر ليكونوا هم عناصر جيشه وقادته وإبعاد قبائل العرب التي أدمنت الصراعات الدموية، والذين ثاروا على ابن معاوية في أول أيام عهده وتحالفوا مع دعاة الدعوة العباسية عندما حاولوا ضم الأندلس تحت السيادة العباسية وفشلوا، وربما كانت تلك الفواتح السيئة التي ابتدأ ابن معاوية بها حكمه مع العرب، الذين كانوا هم شوكته في الوصول إلى الإمارة، إضافة إلى ماضي تلك القبائل مع الحكم الأموي في المشرق والمليء بالتقلبات، بلور في عقل الأمير عبدالرحمن بن معاوية ذلك التقسيم الجديد لشوكة الدولة وعمادها.

          وبمعنى آخر قام صقر قريش بكسر العصبيات القديمة واستبدال عصبيات جديدة بها يكون ولاؤها ومصيرها مرتبطا بالدولة التي هو شيخها وكبيرها.

          وقد سار أبناء وأحفاد صقر قريش على المنوال نفسه، وحتى خلال ما عرف بالفترة العامرية سار الحاجب المنصور على السياسة نفسها، التي ثبتت صحتها خلال عصر ملوك الطوائف التي تمزقت فيها أرض الأندلس بين قبائل العرب والبربر، الذين سرعان ما عادوا للتناحر فيما بينهم دون أن تثمر فيهم مئات السنين من الاندماج والتصاهر والتثاقف مع الأرض الإسبانية.

الإدارة السياسية

          اتفق أسلوب الأمويين في دمشق وقرطبة على طريقة الإدارة المركزية لشؤون الحكم كافة، وتركز القرار النهائي بيد صاحب الدولة، إلا أن الدمشقيين تفوقوا بإمساكهم بالأسلوب المركزي حتى اللحظة الأخيرة من وجودهم في السلطة، عندما هزم آخر خلفائهم مروان بن محمد في معركة الزاب الفاصلة أمام جيش العباسيين بقيادة عبدالله بن علي، أما نظام الإدارة الأموي في قرطبة فظل صامدا على النهج الدمشقي حتى تولي الخليفة الصبي هشام المؤيد بالله مقاليد الدولة، ليصبح نظام إدارة الدولة شبيها بالنظامين العباسي والفاطمي خلال فترة الضعف واستبداد الوزراء وقادة الجيش بجميع القرارات المهمة، حيث لم يتبق للخليفة سوى الدعاء في المساجد وسك اسمه على العملة.

          وفي قرطبة حدث التحول بعد عقود طويلة من الحكم المركزي بعد أن انفرد الحاجب محمد ابن أبي عامر الذي اختلس السلطة من الخليفة هشام وحبسه في قصره واختط لنفسه مدينة ملكية اسماها الزاهرة على غرار الزهراء التي شيدها الخليفة الناصر لدين الله في قرطبة، كما ولى ابنه ولاية عهده، ليبدأ عهد الدولة العامرية والحكم الأموي مازال قائما، وبالرغم من أن الحكم الأموي تمكن من الوثوب من جديد إلى سدة الحكم فإن أي خليفة أموي لم يستطع إحكام السيطرة على الثورات والفتن التي تفجرت في جميع أرجاء البلاد وهو ما مهد لبداية عصر ملوك الطوائف.

-----------------------------------

شارع يتفرّع من شارع,
ويعود الطريق
حالة مبهمة
والأواني تضيق
لا الأغاني أغاني,
لا البريق بريق

***

شارع يتفرّع من شارع,
والزحام
نجمة مظلمة
في هشيم الكلام
وأرى جثّتي وأرى
وأنا أبدأ القهقرى
زهرة في الحريق وأفيق...

محمد القيسي

 

 

 

إبراهيم المليفي