من المكتبة الأجنبية.. رباعيات عمر الخيام

من المكتبة الأجنبية.. رباعيات عمر الخيام
        

          في صيف عام 1947 كنت أعمل في بيت الوكيل كاتب تنزيل على ظهور البواخر التجارية التي كانت تصل إلى الكويت وهي محملة بالبضائع المختلفة من جميع أنحاء العالم، وعلى ظهر الباخرة الإنجليزية (سَرِنْثوس) قضينا أسبوعين كاملين، وكان في الباخرة مكتبة عامرة بالكتب الإنجليزية في كل فنون العلم والمعرفة والأدب، وكنت في أوقات الفراغ أغشى المكتبة لاستعارة ما أراه مناسبا للقراءة، وكان يشاركني في عشق الكتب شاب من طاقم السفينة وهو نرويجي مهاجر إلى بريطانيا اسمه (أود كَركِبَري) وفي أحد الأيام رأيته يحمل كتابا شعريا فلما سألته عنه قال: إنه من شعر (أَمر كْيام) ولما ألقيت نظرة على الكتاب وجدته رباعيات الخيام ترجمة فيتز جيرالد، وقد أخبرني أنه يحلم بأن يكون في المستقبل مثل ذلك البحار الإنجليزي الذي كان بولندي الأصل ثم أصبح بعد ذلك من كبار أدباء الإنجليز في القصة والرواية وهو جوزيف كنراد (1857 1924) الذي تجاوزت مؤلفاته العشرين.

          وكان صاحبي النرويجي يراسل الصحف في بلاده وينشر فيها ما يكتبه من قصة وشعر وخواطر في الأدب والفن وبقينا نتراسل إلى أن توقفت بيننا الرسائل بعد سنوات.

          رويت هذه الحكاية لتأكيد أن الخيام (1040 1123) كان معروفاً في العالم برباعياته منذ زمن بعيد وقد قال عباس محمود العقاد في أحد كتبه (عمر الذي فتح الغرب) إذن هذا هو عمر الذي فتح الغرب والشرق أيضا.. وهذا هو عمر الذي طلع علينا بتحفته الفنية د.محمد صالح القرق المواطن الإماراتي ليكون هو آخر من ترجم هذه الرباعيات إلى اليوم.

          أقول إلى اليوم لأن الخيام متجدد الذكر على مر العصور.

          وقد أثبت المترجم أسماء وصور أربعين مترجما من عرب وغيرهم كنت أعرف بعضهم وما كنت أعرف أكثرهم، فهل كانت دنيا الأدب في حاجة إلى هذه الترجمة الجديدة؟! وأقولها نعم وبكل ثقة لأن الخيام هو الخيام - الذي ملأ الدنيا وشغل الناس كما فعل أبو الطيب المتنبي منذ ألف عام وإلى الأبد وستبقى الساحة الأدبية مسرحا خصبا لهذا الشاعر العالمي الذي دخل كل بيت وتغلغل في كل قلب وترددت رباعياته على كل لسان.

          وكنت على وشك أن أكون أحد مترجميه، وأصل الحكاية أن صديقا أفغانيا كان يعمل منذ سنين في القسم الفارسي في إذاعة الكويت وهو علي شريفي وكان من عشاق الخيام وعنده عدة مجموعات لشعر الخيام باللغة الفارسية، وكل مجموعة تختلف عن الأخرى فمن مجموعة فيها سبع عشرة رباعية فقط إلى مجموعة فيها أكثر من ذلك بعشر مرات، واتفقنا على أن يختار هو من الرباعيات ما هو أقرب إلى الحقيقة نثراً وأقوم بصياغتها شعراً باللغة العربية، وسافر في إجازته السنوية فأدركته رحمة الله وهو هناك بين أهله ووطنه... وانتهى المشروع.

من هو الخيام؟

          فمن هو الخيام؟! وهل هو شاعر فقط؟! إن الخيام في الحقيقة كان ينظم الشعر في لحظات التجلي إذ كان فيلسوفا وعالما في الرياضيات والفلك واللغة والفقه والتاريخ ويكتب الشعر بالفارسية والعربية في كل فنون الشعر ومن هذه الأشعار كما جاءت في مقدمة مترجمنا الثبت:

          سبقتُ السائرينَ إِلى المعالي
                                        بثاقب فكرة وُعُلوِّ هِمَّه
          فلاح لناظري نورُ الهدَى في
                                        ليالٍ للضلالةِ مدلِهمَّه
          يريد الحاسدونِ ليطفئوه
                                        ويأبَى اللهُ إلا أن يُتِمَّه

          إذن لم يكن الشعر همه الوحيد، بل كان موسوعيا في علمه وأدبه ومن كتبه التي سلمت من الضياع على مر الزمان شرح ما يشكل من مصادرات إقليدس، والاحتيال لمعرفة مقداري الذهب والفضة في جسم مركب منهما، والخلق والتكيّف، ورسالة في الموسيقى، ورسالته جوابا لثلاث مسائل.

          وفي كتاب الكامل لابن الاثير: كان الخيام أحد المنجمين الذين عملوا الرصد للسلطان ملك شاه السلجوقي سنة 467 هـ وقال القفطي في نعته: إمام خراسان وعلامة الزمان ويعلم علم اليونان، ونقل القمي ان الخيام كان أحد الحكماء الثمانية في عصر السلطان جلال الدين ملكشاه وهم الذين وضعوا التاريخ الذي مبدأه نزول الشمس أول الحَمَل وعليه كان بناء التقاويم. لقد كان الخيام إذن فيلسوفا ولم يكن الشعر إلا وسيلة عابرة للتنفيس عن بعض هموم الحياة ينظمه في أوقات فراغه، وخير دليل على هذا رباعيته هذه التي تؤيد ما قلناه في هذا الصدد وهي كما ترجمها الدكتور محمد صالح القرق في تحفته الفنية هذه:

          أيَادَ هْرُ قلبي بالهموم ملأته
                                        وألبستني ثوبَ المهانةِ والبؤسِ
          وشَقَّقْتَ بل مَزَّقتَ كلَّ مُمَزّقٍ
                                        قميصَ سروري بعد جِدَّتِه أَمْسِي
          وصِيَّرتَ لِي هَبَّ النسيم َوبَرْدِه
                                        لهيبا تَلظَّى في ضَرامتِه نفسِي
          وأصبح في حَلقي الشَّرابُ وماؤه
                                        تُراباً وفي الآهاتِ أُصْبِحُ أو أُمسِي

          وقد يتبادر إلى الذهن أحيانا أن هذه الرباعية وغيرها فيها شيء من التشاؤم، وبالفعل ذكر بعض الباحثين ان الخيام شاعر القلق والتشاؤم، لأن الشكوى مبثوثة هنا وهناك في رباعياته، وهناك فرق بين الشكوى والتشاؤم، فالمتنبي كان كثير الشكوى ومن قوله في مدح كافور الاخشيدي منذ أكثر من ألف عام:

          ألا ليتَ شِعري هل أقول قصيدةً
                                        فلا أشتكي فيها ولا أتعتَّبُ

          فالشكوى نوع من فنون الشعر يتميز به الشعراء المبدعون والتشاؤم هو مرض نفساني يجعل الشاعر في دوامة من القلق والحيرة وقد قال العقاد في كتابه (مطالعات في الكتب والحياة) وهو يتحدث عن التشاؤم عند الشعراء وغيرهم من أهل الفكر:

          «فكلهم شكا في الحياة أمرا ثم ألف ذلك الأمر، وكلهم ذاق من مائدة التشاؤم فاستعذب طعمه واستمرأ سمه، ثم تغير له ذوقه وتنكرت له معدته، ولكنا نريد أن نتريث هنا منتبهين لئلا نحسب الشكوى العارضة تشاؤما فلسفياً أو نجاري أولئك الذين يخالون أنفسهم من المتشائمين وما هم في الحقيقة الا من الشاكين والمتذمرين فالشاب يشكو ولكنه قل ان يتشاءم والشيخ يرضى ولا يلزم من ذلك أن يكون متفائلا، فلربما قنع المرء لقلة ما يطلب وضعف ما يحرك نفسه من بواعث الحياة، ويثير سخطه من ثوائرها، ولربما شكا ونفسه مكتظة بالشعور، طافحة بالحياة لكثرة مطالبها في قلبه، وشدة دفعتها في عروقه، وقوة اضطرابها في عواطفه، فهل يسمى هذا متشائما وان حسب نفسه كذلك، كلا فليس هذا تشاؤما بالمعنى الصحيح، وما أجدر التشاؤم أن يكون دليلا على نضوب معين الحياة، وشح في نفس صاحبه من التخيل والشعور والنفس والحواس والوجدان».

بين الشكوى والرجاء

          إذن وكما قال العقاد فالخيام وغيره من الشعراء والنقاد والكتاب في كل مكان يتأرجحون بين التشاؤم والشكوى فتختلط الأوراق بينهم على مر العصور، فالشعر مصدر تسلية كبقية وسائل التسلية كالشراب وكالطبيعة وكالمرأة، ومن المعروف ان المنطقة التي عاش فيها الخيام وهي نيشابور كانت من أجمل المناطق ومن أغناها بالطبيعة الساحرة. وقد روى النظامي احمد بن علي وهو أحد تلاميذ عمر الخيام هذه العبارة حينما قال:

          «كنت كثير التحدث إلى أستاذي عمر الخيام في بعض البساتين فحدثني ذات يوم فقال: سيكون قبري ان شاء الله حيث تنثر الصَّبا والشمال على رفاتي الورد والياسمين، ففكرت حينذاك فيما قال لاعتقادي انه لا يرسل الكلام لغواً ولا يقوله عبثا، واتفق أني تركت نيشابور ثم عدت اليها بعد مدة طويلة فما راعني الا قبر الخيام بجوار بستان كبير كثير الأيك والأدواح، يانع الجنى داني القطوف، وقد مدت أغصانه ظلالها فوق ذلك الضريح، وذوائبها تنثر عليه الزهور والأوراق الناضرة حتى غطته عن أعين الناس».

          وإذا كانت رباعيات الخيام فيها شيء قليل أو كثير من الشكوى ففيها شيء كثير أيضا من الرقة والجمال والأمل البسام والروح المرحة، وهذا يرجع إلى الظروف التي تصاحب الشاعر، فتارة تمر عليه حوادث تدعو إلى القلق والشكوى، وتارة تمر عليه حوادث أخرى تشيع في نفسه شآبيب البهجة والسرور، فالعالم من حول الشاعر يعج بالحب والخير والتفاؤل فتمسح عن النفس ما علق بها من آلام ومنغصات. فلننظر إلى هذه الرباعية:

          هذه الازهار ناغتها الصَّبا
                                        فغدت تيجانها ذات انفتاحْ
          طرب البلبل من منظرها
                                        فغدا جذلان يشدو في انشراحْ
          صاحِ لا تجلسْ بساعات الهنا
                                        ما عدا في ظِلٍ أزهار البطاحْ
          فالازاهير نمت من تُربة
                                        وإلَى التُّرب ستذروها الرياحْ

          وهذه الرباعية:

          في نسيم الربيع تحلو الورودُ
                                        والنَّدى في جمالهنَّ يزيدُ
          ما أُحيلَى الرياض وهي تحاكي
                                        غانياتٍ تزينهنَّ القدودُ
          فاهنأ اليوم ان يومك هذا
                                        لجميل وما عليه مزيدُ
          وانسَ أمس الذي مضَى وتولَّى
                                        ليس في الأمس من جمالٍ يعودُ

          هذا وقد كتب الدكتور يوسف حسن بكار أستاذ النقد الأدبي بجامعة اليرموك الأردنية مقدمة ضافية وضع فيها بعض ملاحظاته الصائبة وأعطى المترجم حقه من الإبداع والابتكار، وكان في مقدمته مثال الباحث المدقق الذي عرف المترجم وعرف الخيام حق المعرفة وسوف تكون هذه المقدمة مثالا يحتذى في دراسة الخيام وفلسفته وحياته المثيرة للجدل على مر الأيام.

          وهذه الرباعيات التي بين أيدينا لها مزايا عديدة بين الرباعيات التي سبقتها سواء أكانت على المستوى العربي أم على المستوى العالمي وهي:

          1 - تحوي هذه الطبعة الجديدة أربع مزايا جديرة بالاهتمام فقد أثبت المترجم النص الفارسي لكل رباعية ثم الترجمة الإنجليزية ثم الترجمة الفرنسية لكي يقارن القارئ بين الأصل والترجمات الأخرى.

          2 - جاءت هذه الرباعيات أو هذه الموسوعة في حلة قشيبة من الفن المطبعي الذي يلفت نظر القارئ ويشيع في النفس الراحة والطمأنينة وهو يتصفح الكتاب الجميل فيشجعه على الاستمرار في قراءته حتى النهاية.

          3 - الرباعيات مزدانة بالتشكيل أو الحركات التي تساعد القارئ على فهم كل كلمة بدون أي معاناة سواء أكان القارئ أخا أدب وفن ومعرفة في القراءة أم كان من عامة القراء كطلبة المدارس او من هواة الأدب الذين هم في حاجة ماسة إلى من يرشدهم إلى النطق الصحيح بدون عناء. وقد قال الدكتور مصطفى جواد «الحروف العربية إذا أزيلت عنها الحركات زالت منها البركات».

          4 - جاءت الرباعيات في ورق جميل مصقول كبير الحجم ذي نقوش مطرزة ورسوم جميلة تراثية، ورموز فنية تزيد الكتاب جمالا فوق جمال ولا بد من الإشارة إلى الكلمات الطيبة التي جاءت في صدر الكتاب وهي بقلم وزير خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان ومقال البروفيسور حسين صادقي باللغة الإنجليزية، وكذلك المقال الذي دبجه باللغة الفرنسية الدكتور اعتصام زادة عن رباعيات الخيام التي ترجمها الأديب الإنجليزي فيتز جيرالد، تلك الترجمة التي مكنت الجماهير المثقفة في اوربا وأمريكا واستراليا وكندا والهند وكثيراً من قراء اللغة الإنجليزية في شتى أنحاء العالم من اكتشاف دنيا الخيام.

          وقد أهدى الدكتور القرق الكتاب «إلى الذين حفتهم السعادة برغد العيش وصفائه فرأوا الحياة ضوءا ساطعا ونورا لامعا.. ثم إلى أولئك الذين ضاق بهم العيش وتقطعت بهم السبل، فرأوا الحياة ظلاما دامسا ووحشة ولاهامس... إلى هؤلاء وأولئك أهدى هذه النفحات».

          وقد أثبت المترجم الدقيق قول العماد الأصفهاني الذي سار ذكره مسير الضياء في الديجور على مر العصور بهذه الكلمات المنيرة:

          إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا في يومه إلا قال في غده: لو غير هذا لكان أحسن ولو زيد كذا لكان يستحسن ولو قدم هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر.

          أما قصيدة الدكتور القرق التي صدر بها الرباعيات فقد جاءت من عيون الشعر ولا بد من عرضها هنا في نهاية هذه الخواطر الخيامية وهي:

          خَبَرتَ خيامُ دنيانا بكل رُؤىً
                                        فصغتَها فكَراً شَمَّاءَ... كالقِممِ
          ذهبتَ تكشف عن أسرارها حُجُباً
                                        حارتْ عقولٌ بها في غابرِ الأممِ
          هي الحياة خيالات ومُضْطَرَبٌ
                                        لا تستقيم على حالٍ.. ولم تَدُمِ
          كم غاص في بحرها اللُّجُيّ نابغةٌ
                                        فهاله أن رأى الدنيا بلا ذِمَمِ
          هذا بعيشٍ رغيدٍ ظلَّ يقطعها
                                        وذاك يذرعها بالهم والألمِ
          فكان رأيك إيضاحا وَمَعلَمَةً
                                        وكان قولك نِبراساً بذي الظُّلمِ
          فاهنأْ بذكرٍ جميل ظل مؤتلقا
                                        عبر الزمان.. وعبر الطرسِ والقلمِ
          هو الخلود.. خلود الذكر ما طلعت
                                        شمسُ النهار على الآجامِ والأَكمِ

          ولا بد لي قبل أن أودع ساحة الخيام الخضراء أن اذكر ما أورده الدكتور القرق من كلمات قالها الخيام وهو يودع هذه الدنيا بعد أن سجل اسمه في صفحة الخالدين.

          «يذكر المؤرخون أن الحكيم عمر الخيام في آخر حياته انشغل بالعبادة بعد أن حج البيت الحرام، وذات ليلة صلى صلاة العشاء ودعا في سجوده قائلاً: اللهم إني عرفتك على مبلغ إمكاني فاغفر لي فإن معرفتي إياك وسيلتي إليك... ثم فاضت روحه».

 

 

 

ترجمة: د. محمد صالح القرق