هل الثقافة وراء تأخر المشي المبكر عند الأطفال؟

هل الثقافة وراء تأخر المشي المبكر عند الأطفال؟
        

          من المؤكد أن الأغلبية الساحقة من قراء هذا المقال وأيضا من الناس جميعا لا تكاد تثير السؤال المطروح في عنوان المقال فضلاً عن الإجابة عليه رغم أهمية هذا السؤال بالنسبة لكل من الفضول البشري والعلم. وليس من المبالغة القول إن عنوان المقال غريب لمعظم هؤلاء.

          لا يقدر الأطفال عموما على المشي إلا قبل أو بعد احتفالهم بالذكرى الأولى لميلادهم بقليل بينما تمشي صغار الحيوانات عند الولادة أو بعدها بساعات أو أيام قليلة فقط. فهذه الملاحظة البسيطة والمحيرة في نفس الوقت تبدو لمعظم بني البشر أمرا ساذجا أو فلسفيا لا يحتاج إلى اهتمام جاد وكبير. وبغياب روح الفضول الجامحة، يعجز الناس في الغالب عن البحث والتعرف على الأسباب أو السبب الذي يعيق الأطفال عن القدرة على المشي مبكرا مثل صغار الحيوانات الحديثة الولادة. وفي الواقع، فلقد وجدت شخصيا أن طرح سؤال عنوان هذا المقال على الأطباء وعلماء علم الحياة/البيولوجيا كثيرا ما يكون محرجا لهم. ويأتي هذا الإحراج أساسا من عدم امتلاكهم لمعرفة حقيقية حول الموضوع. إذ إن زادهم العلمي الذي يكسبونه في دراساتهم الجامعية وما بعد الجامعية يحرمهم في الغالب من النظر إلى الإنسان على أنه في المقام الأول كائن ثقافي (اللغة المكتوبة والمنطوقة والفكر والدين والمعرفة /العلم والأساطير والقيم والمعايير الثقافية وغيرها من الرموز الثقافية) إلى جانب كونه كائنا بيولوجيا وفيزيولوجيا. فهم يقتصرون، إذن، على دراسته كمجرد كائن يتكون فقط من عناصر بيولوجية وفيزيولوجية. وبعبارة أخرى، فالجانب الثقافي في كينونة/هوية الإنسان لايكاد يتم التطرق إليه في البرامج التعليمية الأكاديمية والتدريبية لخريجي التخصصات الطبية والبيولوجية والفيزيولجية. ونتيجة لهذا الوضع، فإن من يحاول منهم تقديم إجابات على السؤال المطروح فإنه يدلي بتفسيرات بيولوجية وفيزيولوجية ضعيفة المصداقية العلمية بالنسبة لذلك السؤال المثير والمحير في عنوان هذا المقال. وهذا ما يفسر تكليف المجلة العلمية الأمريكية الشهيرة Scientific American Mind) Sept/oct.2009:74) عالم أنثروبولوجيا لا عالم بيولوجيا أو فيزيولوجيا للإجابة على سؤال عنوان هذا المقال الذي بعثت به إليها.

          ويفيد التحليل لطبيعة الناس أن ما سميته أعلاه بالرموز الثقافية/الثقافة هي سمات خاصة أيضا بالجنس البشري وفي طليعتها هبة اللغة المنطوقة والمكتوبة التي يتميز بها الإنسان عن غيره من الكائنات المعروفة لدى بني البشر.فهذا النوع من اللغة هو أهم ما يميزالجنس البشري عن سواه.ولذا سمى الفلاسفة القدماء الإنسان حيوانا ناطقا. ولكنه في الواقع ليس بالحيوان الناطق فقط وإنما هو أيضا حيوان كاتب.

          والسؤال هو: هل من علاقة بين السمات الخاصة بالجنس البشري الواردة في تساؤلين اثنين مشروعين: أ - هل التأخر في المشي سمة ينفرد بها أطفال البشر فقط؟

          ب - وهل هناك سمة أو سمات أخرى ينفرد بها أيضا هؤلاء الأطفال ومن ثم البشر بصفة عامة؟

إزدواجية النمو عند الأطفال وتأخر مشيهم

          يتطلب التحقق من صدقية أو بطلان العلاقة بين «أ» و«ب» في هذه الفرضية دراسة الدور العام للرموز الثقافية في حياة وهوية بني البشر. إن بطء النمو الجسدي البشري ومن ثم تأخر القدرة على المشي المبكر عند الأطفال يمكن تفسيرهما بسبب أن عملية النمو الكامل/الكلي عند بني البشر تتكون من جبهتين: الجبهة الجسدية/البيوفيزيولوجية وجبهة الرموز الثقافية. وفي المقابل، فإن النمو الجسمي الكامل لدى الحيوانات يقتصر أساسا على الجانب الجسدي الأمر الذي يجعل عملية النمو الحيواني الكلي عملية سريعة تمكن صغار الحيوانات من المشي المبكر جدا مقارنة بتأخر عملية المشي لدى مواليد/أطفال بني البشر. ويرجع هذا الفرق تبعا للفرضية المطروحة هنا ـ بين سرعة القدرة على المشي عند صغار الحيوانات وتأخرها لدى الأطفال إلى غياب منظومة الرموز الثقافية، بمعناها الواسع والمعقد عند الجنس البشري، في عالم الحيوانات. وللتوضيح أكثر، يجوز القول بأن نمو كل جبهة من الجبهتين عند الأطفال يعمل بطريقة ما على تأخير سرعة عملية النمو بالنسبة للجبهة الأخرى. وبعبارة أخرى، فانشغال الأطفال ببداية عملية نمو بذور الرموز الثقافية/الثقافة التي يولدون بها تأخذ منهم جهدا وطاقة يؤخران نضج مقدرتهم وتأهلهم للمشي المبكر كصغار الحيوانات.

التأثير الشامل للرموز الثقافية

          وبالإضافة إلى ما رأينا من تأثير للرموز الثقافية على تأخير القدرة على المشي المبكر عند الأطفال، فإن تأثيرها يتجاوز ذلك بكثير عند البشر بحيث يتصف تأثير الرموز الثقافية على حياة البشر بالشمولية الواسعة والقوية إلى درجة أنه يجوز القول إن الإنسان هو في المقام الأول وفي الصميم كائن رموزي ثقافي بالطبع.

          تستند هذه المقولة إلى ملاحظات رئيسية حول خمسة معالم ينفرد بها الجنس البشري عن سواه من الأجناس الحية الأخرى:

          1 - يتصف النمو الجسمي لأفراد الجنس البشري ببطء شديد مقارنة بسرعة النمو الجسدي الذي نجده عند بقية الكائنات، كما رأينا أعلاه.

          2 - يتمتع أفراد الجنس البشري عموما بأمد حياة (سن) أطول من عمر الكثير من أفراد الأجناس الأخرى.

          3 - ينفرد الجنس البشري بلعب دور السيادة في هذا العالم بدون منافسة حقيقية له من طرف باقي الأجناس الأخرى.

          4 - وكما ذكرت من قبل، يتميّز الجنس البشري بطريقة فاصلة وحاسمة عن الأجناس الأخرى بمنظومة ما أطلقت عليه مصطلح الرموز الثقافية: اللغة، الفكر، الدين، المعرفة/العلم، القوانين، الأساطير، القيم والمعايير الثقافية...

          5 - يختص أفراد الجنس البشري بهوية مزدوجة تتكوّن من الجانب الجسدي، من ناحية، والجانب الرموزي الثقافي (المشار إليه أعلاه في4)، من ناحية ثانية. بينما تتصف هوية الكائنات الأخرى ببعد واحد يتمثل أساسا في الجانب البيولوجي الفيزيولوجي.

          إذن، فالتساؤل المشروع الآن هو: هل من علاقة بين تلك المعالم الخمسة المميّزة للإنسان، من جهة؟ وهل تستطيع تلك العلاقات أن تبرهن أن الإنسان هو في المقام الأول كائن ثقافي بالطبع، من جهة ثانية؟

          أولا: هناك علاقة مباشرة بين المعلمين 1 و2. إذ أن النمو الجسمي البطيء عند أفراد الجنس البشري يؤدي بالضرورة إلى حاجتهم إلى معدل سن أطول يمكنهم من تحقيق مراحل النمو والنضج المختلفة والمتعددة المستويات. فالعلاقة بين الاثنين تغلب عليها سمة العلاقة السببية.

          ثانيا: أما الهوية المزدوجة التي يتصف ويتميز بها الإنسان فإنها أيضا يغلب عليها نوع العلاقة المباشرة بين العنصر الجسدي (المعلم 1) للإنسان، من ناحية، والعنصر الرموزي الثقافي (المعلم 4)، من ناحية أخرى.

          ثالثا: عند البحث عن علاقة سيادة الجنس البشري بالمعالم الأربعة الأخرى، فإن المعلمين 1 و2 لا يؤهلانه حقا، على مستوى القوة المادية، لكسب رهان السيادة على بقية الأجناس الحية، إذ الإنسان أضعف جسديا من العديد من الكائنات الأخرى. ومن ثم يمكن الاستنتاج بأن سيادة الجنس البشري ذات علاقة قوية ومباشرة بالمعلمين 5 و4: الهوية المزدوجة والرموز الثقافية. والعنصر المشترك بين هذين المعلمين هو منظومة الرموز الثقافية.

          وهكذا يتجلى الدور المركزي والحاسم لمنظومة الرموز الثقافية في تمكين الإنسان وحده من السيادة في هذا العالم.

          رابعا: إن الرموز البشرية تسمح أيضا بتفسير المعلمين 1 و2. فالنمو الجسمي البطيء عند الإنسان يمكن إرجاعه، كما شرحت سابقا، إلى كون أن عملية النمو عنده تشمل جبهتين: الجبهة الجسمية والجبهة الرموزية الثقافية. وهذا خلافا للنمو الجسدي السريع عند الكائنات الأخرى بسبب فقدانها منظومة الرموز الثقافية بمعناها البشري الواسع والمعقد.

          إن إهمال علمي الحياة والتشريح العصريين ومن ثم علم الطب الحديث الأخذ بعين الاعتبار عناصر الرموز الثقافية في دراسة الإنسان لا يقتصر فقط على نموه البطيء الأمرالذي جعل الأطفال غير قادرين على المشي المبكر كصغار الحيوانات. وإنما يتجلى ذلك الإهمال أيضا في دراسة المختصين في تلك العلوم للمخ البشري نفسه. فهم يدرسونه كمجرد عضو بيولوجي فيزيولوجي نورولوجي بينما تقر العلوم الاجتماعية الحديثة أن المخ البشري هو مركز عالم الثقافة/الرموز الثقافية لدى الإنسان. وبعبارة أخرى، يدرس أطباء وعلماء الحياة والتشريح في العصر الحديث المخ البشري بدون إعطاء اهتمام يذكر لوجود الرموز الثقافية التي تحتل مكانا مركزيا في هوية الإنسان وتلعب دورا بارزا في تمكين الإنسان وحده من السلطة والهيمنة على بقية الأجناس الأخرى على وجه الأرض، كما رأينا.

          وفي مقابل موقف تلك العلوم المسماة بالصحيحة، فإن العلوم الاجتماعية وفي طليعتها علوم الإنثربولوجيا والاجتماع والنفس المعرفي Cognitive Psychology تعطي أهمية كبرى إلى دور الرموز الثقافية في التأثيرعلى سلوكات الناس كأفراد وعلى السلوكات الجماعية وحركية المجتمعات والحضارات البشرية. ومن ثم، يجوز القول بأن العلوم المسماة بالصحيحة هي في الواقع ليست كذلك بالمعنى الدقيق والموضوعي لكلمة صحيح. إذ هي تدرس الإنسان كأنه خال بالكامل من الرموز الثقافية ذات المكانة المركزية في هوية الإنسان، وهي بالتالي التي تضفي عليه صفة الإنسانية وتمنحه التفوق والسيادة على بقية الكائنات في هذا العالم. وهكذا يتضح أن الرؤية القاصرة للإنسان من طرف هذه العلوم تتضمن الكثير من الأخطار التي تعيق كسب رهان فهم كامل وموضوعي لبني البشر. يدعو منظور العلوم الاجتماعية كما وقع شرحه هنا إلى وضع حد للنظرة الدونية التي تتعرض لها تلك العلوم في المجتمعات المتخلفة والنامية على الخصوص. فالأمر يتطلب إعادة النظر في قيمتها حتى تعطى هذه العلوم الحضور المشروع والمصداقية العلمية المحترمة بين شعوب العالمين المتقدم والنامي على حد سواء. ومن هذا الواقع، تأتي مشروعية الحاجة الماسة لاستعمال منهجية معرفية/علمية تجمع بين رؤى العديد من العلوم والتخصصات Interdisciplinarity كبديل ضروري وحكيم ينبغي تبنيه من طرف العلوم الصحيحة والاجتماعية الحديثة على حد سواء من أجل الظفر بالفهم والتفسير الأفضل لما يسعى الباحثون والعلماء إلى دراسته.

 

 

 

محمود الذوادي