ثـورة طـبـيـة على الدم
ثـورة طـبـيـة على الدم
في وقت من الأوقات اعتبرت عمليات نقل الدم ثورة كبيرة في مجال الطب، ساعدت على إنقاذ العديد من المرضى، اليوم هناك ثورة مضادة تطالب بالتوقف عن نقل الدم للمرضى وإيجاد بدائل أقل خطراً وتكلفة. في شتاء سنة 1667، جيء برجل مجنون وعنيف يدعى أنطوان موروا إلى الطبيب البارز جان باتيست دني - طبيب ملك فرنسا لويس الرابع عشر - ليعالجه. وكان لدى الطبيب دني "العلاج" المثالي للمس المصاب به موروا، إذ نقل له دم عجل ظنا منه أن له تأثيراً مهدئا، لكن موروا لم يتحسن. صحيـح أن حالة هذا الرجل قد تحسّنت بعد إجراء ثان لنقل الدم، لكن الجنون ما لبث أن عاوده ومات بـعد فترة قصيرة. ورغم أنه تحدد لاحقاً أن سبب وفاة موروا هو في الواقع التسمم بالزرنيخ، فقد أثار علاج الطبيب دني بدم الحيـوان جدلاً حامياً في فرنسا، التي ما لبثت أن حظرت هذا الإجراء سنة 1670. ومع الوقت، حذا حذوها البرلمان الإنجليزي، والبابا أيضاً. وغاب ذكـر إجراءات نقل الدم طوال المئة والخمسين سنة التي تلت. بين مدّ وجزر خلال الحرب العالمية الأولى، نقل الدم بكثرة إلى الجنود المصابين، في السابق كان نقل الدم إلى ساحة المعركة مستحيلاً تقريباً لأنه يتخثّر بسرعة، لكن في أوائل القرن العشرين نجحت تجارب الطبيب ريتشار لوسن - من مستشفى جبل سيناء في مدينة نيويورك - في إيجاد مادة تمنع تخثّر الدم تدعى سترات الصوديوم. واعـتبر بعض الأطباء هذا التقدم المثير أعجوبة. كتب برترام برنهايم وهو طبيب بارز في أيامه: "كان ذلك أشبه بجعل الشمس تتوقف". وشهـدت الحرب العالمية الثانية طلباً متزايدا على الدم. ويقدر أن أكثر من 260 ألف لتر جمع ووزع في لنـدن وحدها. بعد الحرب العالمية الثانية، قطع التقدم الطبي أشواطاً كبيرة أدت إلى إجراء عمليات جراحية لم تكن تخطر على بال. ونتيجة لذلك نشأت تجارة عالمية تدر بلايين الدولارات سنوياً لتزويد المستشفيات بالدم من أجل إجراءات نقل الدم، التي بدأ الأطباء يعتبرونها إجراء روتينياً في العمليات. ولكن، في السنة 1996 - بعد أكثر من خمسين سنة من الاعتماد على نقل الدم - أصدرت الكلية الملكية للجراحين في إنجلترا كتيباً يذكر فيه الجراحون: "إن أخطار نقل الدم تدفعنا إلى أخذ إجراءات بديلة بعين الاعتبار كلما كان ذلك ممكنا". أي أخطار؟! مخاطر كبيرة وتعليقاً على "مأساة الدم الملوث" التي حدثت في كندا في الثمانينيات، ذكر تقرير كندي في السنة 1998: "هنالك على الأرجح 60 ألف كندي أصيبوا بفيروس التهاب الكبد C عن طريق الدم الملوث، وهذا يعني أن 21 ألفا قد يموتون بسبب التهاب الكبد المحمول بالدم". ويقدر أن عدد الذين خمجوا بـ HIV في فرنسا عن طريق نقل الدم بما يتراوح بين ستة آلاف وثمانية آلاف شخص. واليوم، بسبب تحسن عمليات النقل، صار انتقال HIV نادراً في البلدان المتطورة، ولكن، تذكر منظمة باونس الإعلامية في لندن أن إجراءات نقل الدم "تسبب 10% من حالات الخمج الجديدة بفيروس HIV في البلدان النامية". ومن بين كل عشرة آلاف مريض تلقى نقل دم في أحد بلدان أمريكا اللاتينية، أصيب 220 بأمراض خمجية. ومع أن إجراءات النقل الحديث قللت كثيراً من الخطر، فقد قال القاضي هوراس كريفر للمؤتمر المنعقد في وينيبيغ: "لم يكن مخزون الدم في كندا آمناً مئة في المئة، ولن يكون أبداً. إن استعمال الدم ينطوي حتماً على مخاطر". وفي الواقع، بعد اكتشاف فيروس جديد في دم المتبرعين الأوربيين، قررت السلطات الصحية الفرنسية تأسيس "فريق مراقبة علمي دائم"، كما تذكر الصحيفة الفرنسية لوموند. وقد حددت هوية هذا العامل الخامج المعروف بالفيروس المنتقل بالدم Transfusion transmitted virus، سنة 1997 في اليابان، حيث إن 10% من المتبرعين بالدم مخموجون. ولا يعرف الأطباء حتى الآن الدور المرضي الفعلي لهذا الفيروس، ولكن أظهرت دراسات في بريطانيا وجود هذا الفيروس في 25% من المرضى الذين يعانون أخماجاً خطرة في الكبد آتية من مصدر غير معروف. وفي الوقت الحاضر، لا توجد عملية مسح كشفي موحّدة لهذا الفيروس. كما تذكر لوموند. وفي مدينة ريغا، خلص الدكتور جاجن مارك ديبو - من مستشفى ديموسان في باريس - إلى القول: "وجب علينا نحن الأطباء أن نعيد النظر في أسلوبنا العلاجي المعتاد. صحيح أن نقل الدم أطال عمر مرضى كثيرين، لكنه سمم أيضاً حياة مرضى آخرين بنقله إليهم أمراضاً مستعصية". الدم الطازج وعن الجراحة دون دم استنتج الطبيب دايتش: "من الواضح أنها تجعل نتيجة المريض أحسن بمراحل وبكلفة أقل. ولذلك هي الرابحة على جميع الأصعدة". ورغم أن الإصابة بالمرض عن طريق نقل الدم هي الخطر الأعظم، فهنالك مخاطر أخرى. أوضحها الطبيب الجراح أريي شاندر: "إن الدم المودع في بنك، لا يملك، بعد تبريده وتخزينه، قدرة الدم الطازجة على نقل الأكسجين". وأضاف "لقد بدأنا الآن فقط نفهم ماذا يحدث حين نجري عملية نقل دم". فلا عجب أن يصير أطباء كثيرون حذرين عند نقل الدم. يقول الطبيب ألكس زابو لانسكي، من سان فرانسيسكو، كاليفورنيا: "إن نقل الدم ليس سليماً من حيث الأساس ونحن نكافح من أجل إبعاده عن الجميع". ويقول الطبيب الجراح جفري ماكلو: "لو كانت كريات الدم الحمراء اليوم عقاراً جديداً، لكان من الصعب جداً الترخيص لها". فاتورة الدم وتقول شارون فرنون، مديرة مركز الطب والعمليات الجراحية دون دم في مستشفى فينسنت الخيري في كليفلند، أوهايو، عن معالجة المرضى دون اللجوء إلى دم. "إنها تنتشر لأن الأطباء يعترفون بأن الطب دون استعمال دم هو قاعدة الذهب في بيئة تقتصد في النفقات، وقد أظهر اختبارنا أنه حتى شركات التأمين التي لا تتعامل عادة معنا، ترسل إلينا الأشخاص، لأن ذلك يوفر المال عليها". ويجري توفير المال أيضاً في حالة المرضى الذين تجرى لهم عمليات دون دم، إذن فإن معدلات الخمج تكون أدنى، وفترات البقاء في المستشفى أقصر. وقد صرّح درهاين ونغ - ريغر، من جمعية الناعور الكندية، عن الجراحة دون دم: "نرى أنها ضرورية لأنها توفر مالاً أكثر وتحسن بالتأكيد صحة المرضى". ووفقاً للطبيب آرييه شاندر - أستاذ سريري في طب التخدير من الولايات المتحدة - فإن: "كلفة المعالجة دون دم هي أقل بحوالي 25%". ويؤيد أطباء كثيرون الاستمرار في تطوير أدوية وتقنيات تقلل كثيراً الحاجة إلى استعمال الدم المنقول. ويؤكـدون أنه يجب اللجوء إلى نقل الدم في الحالات الطارئة فقـط. ومن ناحية أخرى، يوجد حالياً أطباء لا يلجـأون عموماً إلى نقل الدم في عملهم. وهم يتحـدثون عن عمليات صعبة جداً، مثل استبدال الورك والجراحة العصـبـية المعـقـدة وعمليات القلب المفتوح للأطفال والراشدين، وكلها عمليات أجريت دون نقل دم، وبعد ذلك تحسنت صحة المرضى تحسنا سريعا. وفي العام 1998عقدت أربعة مؤتمرات طبية - اثنان في الولايات المتحدة، وواحـد في كل من كـندا، ولاتفيا - حضرها أكثر من 1400 اختصاصي من 12 بلداً اعـتبرت الجـراحة دون دم "تقنية المستقبل". تقنيات حديثة وطبّق الأطباء حتى الآن بنجاح التقنيات التي تغني عن اللجوء إلى نقل الدم خلال العمليات، والحالات الطارئة التي كانت تتطلب تقليدياً نقل دم. يذكر الدكتور د وانغ، في مجلة طب التخدير الكندية، أنه: "يمكن إجراء أهم العمليات الجراحية النسائية وجراحة القلب، الأوعية الدموية، العظم، والجهاز البولي، دون استعمال الدم أو منتجاته". نعم، لقد دفع التقدم في الحقل الطبي كثيرين إلى أخذ المعالجة دون دم بعين الاعتبار. يقول الدكتور دونات شبان، أستاذ سويسري في طب التخدير: "غالباً ما نعالج أساتذة الجامعة وعائلاتهم دون استعمال الدم، حتى الجراحون يطلبون أن نتجنب إجراءات نقل الدم! مثلا أتى أحد الجراحين إلينا ليناقش حالة زوجته التي كانت بحاجة إلى عملية. قال (عليكم أن تتأكدوا من أمر واحد، ألا ينقل إليها دم!)". فإلى أين سيقـودنا ذلك؟ يقول البروفيسور لوك مونتاييه، مكتشف فيروس الإيدز: (إن توسع آفاق فهمنا في هذا الحقل يظهر أن نقل الدم ينبغي أن يزول يوماً ما).
|