اللغة حياة.. بين اللَغْو والمبالغة

اللغة حياة.. بين اللَغْو والمبالغة
        

          من طبائع اللغة الفصيحة ترك الفضول والتكرار إلاّ لحاجة بلاغيّة أو إيقاعيّة، أو لزيادة معنويّة، فإذا انتفت الحاجة والزيادة المشار إليهما، عِيب التعبير باللغو. ويكثر اللغو في كتاباتنا الحديثة، ومن ذلك تكرار الظرف لفظاً أو معنىً، نحو قول بعضهم: ثَمّةَ هناك مشكلةٌ، يعنون: يوجد هناك مشكلة، أي أنّهم يجعلون للظرف معنى فعل «وُجد» أو «كان». وغنيّ عن التوضيح أنّ للظرفين: «ثَمّةَ» و«هناك» معنىً واحداً، هو الإشارة إلى البعيد، وأنّ أحدهما يغني عن الآخر.

          ومنه الجمع بين الظرف وما يؤدّي معناه، نحو قول أحد الكتاب: «في أعمال فلانٍ ثَمّةَ حَدَثٌ، الخ». يعني: يوجد في أعمال فلان حدثٌ، والحقيقة أنّ «ثَمّةَ» تدلّ على الظرفيّة المكانيّة، كما هو معروف، وحرف الجرّ «في» يفيد تلك الظرفيّة، بل إنّ الظروف كلّها تتضمّن معناه، فكلٌّ مِن «في» و«ثَمّةَ» يغني بعضه عن بعض، ولذلك ينبغي أن نقول ببساطة: «في أعمال فلانٍ حدثٌ»، ليس إلاّ. على أنّه يصحّ الجمع بين الجرّ بفي والظرف، إذا دلاّ على مكانين مختلفين، نحو: في بيت فلانٍ هناك، شرفةٌ بحريّةٌ. فالمكانان هما البيت والمنطقة التي يقع فيها، وقد أُشير إليها بهُناك.

          قد يقال: لكنْ بين «ثَمّةَ» و«هناك» فرق، وليس في اللغة مترادفات تؤدّي معنى واحداً. والردّ على ذلك أنّ هذا، إذا صحّ، سبب إضافيّ لترك الجمع بين الظرفين، أو بين الظرف و«في»، لأنّه لا يجوز الإيماء إلى مكان واحد بظرفين لهما دلالتان مختلفتان.

          ومن لغوهم عبارة: أُهْبة الاستعداد (وبعضهم يقول: أَهُبّة، وهو خطأً). واللغويّون يعرفون أنّ الأُهْبة والاستعداد شيء واحد، ولا يضاف الشيء إلى نفسه، ولذلك يجب الاكتفاء بإحدى الكلمتين. ومن المؤكّد أنّ بعضهم سيعترض بكون عدد من اللغويّين أجازوا إضافة الشيء إلى نفسه إذا اختلف لفظا المتضايفين، بمعنى إذا كانت الإضافة بين مترادفين. وعندنا أنّ ذلك غير مجمع عليه، وهو يجافي طبيعة اللغة لما يؤدّيه من سخف ويُشعر به من ثقل، نحو قولنا: عَدْو الركضِ. لكن إذا كان في أحد المترادفين معنىً خاص ليس في الآخر، جازت الإضافة، نحو: رِحْلة الذهاب أو الإياب، فالذهاب يدلّ على عامة معنى السير، مشياً أو ركوباً، والإياب يدل على العودة، أمّا الرحلة فتختصّ بالذهاب إلى مكان بعيد، وتحوج غالباً إلى مطيّة أو مركب، وهذا الفرق يجيز إضافة الرحلة إلى الذهاب والإياب، بغض النظر عن دقّة التعبير أو التباسه.

          ومن لغوهم عبارة: وفاةُ الموتِ، على أنّ الوفاة، كما يفهم من القرآن الكريم، نوعان: وفاة النوم، ووفاة الموت. لكنّ ذلك غير مستعمل اليوم، ولا يفهم من الوفاة إلاّ الموت.

          ومن لغوهم الذي يبدو ترجمة فاسدة لبعض العبارات الأجنبيّة، تكرار ظرف الزمان «كلّما» في نحو قولهم: كلّما حَسُنَ الإصغاء كلَّما صَحَّ الفهم. والحقيقة أنّ ظرف الزمان إمّا أن يدلّ على زمن فعل واحد أو ما يجري مجراه، نحو: استيقظ فلانٌ صباحاً، أو يدلّ على زمن فعلين معاً، نحو: حين تزورني أُسمعكَ شعري، ويكثر ذلك في أسماء الشرط الزمانيّة أو المكانيّة وما هو بمعناها. أمّا إذا أريد توضيح الظرف بظرف آخر، فإنّ أحدهما يُعطف على الآخر عطف بيان، نحو: يعود العمالُ مساءً، وقتَ المَغِيب. فإذا أريد التعبير عن زمنين لفعلين مختلفين، عطفت الجملتان الفعليتان عطف نسق، نحو: يَقرأ فلانٌ عَصْراً، ويكتب فَجْراً. و»كلّما« ظرف يدلّ على زمن فعلين معاً، ولذلك لا يجوز تكرارها، والجملة الصحيحة للمثل المذكور هي: كلَّما حَسُنَ الإصغاء صَحَّ الفهم.

          ومن لغوهم جرّ الواحد بـ «مِن» الدالّة على التبعيض، نحو: مِن أحد أسباب الأزمة الاقتصاديّة التبذيرُ. والحقيقة أنّ التبعيض يقتضي أن يدلّ المجرور على متعدّد أو على كلٍّ مركّب، يُستخرج منه جزء أو أجزاء، كقول الآية الكريمة : مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقوا   إلخ . ويغلب أن يكون المتعدّد جمعاً، كالذي في الآية، أو اسماً دالاًّ على الجمع، نحو: مِن الأسرةِ أولادٌ أذكياءُ وأولادٌ أغبياءُ، ونحو: مِن الشَجَرِ ما هو مثمر، ومنه ما هو عقيم، أو اسماً دالاً على ما له أنواع متعدّدة، نحو: مِن الجهل ما ينفع ومِن العلم ما يضرّ، فالعلم والجهل أنواع. ولذلك ينبغي اختيار صيغة من اثنتين للجملة المعترض عليها، الأولى: من أسباب الأزمة، إلخ. والثانية: أحدُ أسباب الأزمة، إلخ.

          لكنّ التكرار قد يكون مفيداً، ويؤدّي معنىً زائداً، كالتوكيدين اللفظيّ والمعنويّ، اللذين يراد بهما ترسيخ المعنى في نفس المتلقي، أو المبالغةُ في الصفة، نحو: هذا هو الرَّجلُ الرَّجلُ، أي الرجل الجامع لصفات الرجولة الحقّة، ونحو: سار سيراً ولم يطر طيراناً، أي أنّ السير قصاراه، فهو متوسّط السرعة، ونحو: هذه هي اللوحة نفسها، أي هي اللوحة المقصودة وليس غيرها. وأكثر التوكيد اللفظيّ توكيد بلاغيّ، كما هو واضح من الأمثلة السابقة.

          وممّا يشْبه إضافة الشيء إلى نفسه، نسبة الفعل إلى نفسه، كقول المتنبّي:

          تَمَرَّسْتُ بالآفاتِ حتّى تَركْتُها
                                        تَقولُ: أَماتَ الْمَوْتُ، أَمْ ذُعِرَ الذُّعرُ؟

          فهو يتحدّث عن موت الموت، وذُعْر الذُعْر، وذلك ليس لغواً بل هو غلوٌّ في المبالغة موحٍ. ومن غير الدخول في التحليل البلاغيّ حسبنا القول إنّ في البيت استعارة تأنيسيّة جميلة، جعلت الآفات تتساءل عن انتفاء الموت، بعد أن قهرها الشاعر، وذلك مفهوم، لكنّ عبارة «ذُعِرَ الذُّعْرُ» مما يجلّ عن الشرح، ويبدو، من ناحية، استجابة لحاجة القافية، ومن ناحية أخرى، إيغالاً في المبالغة والإيحاء.

          وممّا يشْبه إضافة الشيء إلى نفسه، جعل الشيء متاعاً لنفسه، كما في هذا البيت المنسوب إلى الفرزدق:

          فِدىً لَهُما حَيّا نِزار كِلاهُما
                                        إذا الْمَوْتُ بالْمَوْتِ ارْتَدَى وَتَأَزَّرا

          حيث جعل الشاعر الموت رداء للموت وإزاراً. ولتوضيح هذه الصورة يحسن أن نلجأ إلى صورة شبيهة بها، لكن مرئيّة، هي: ارتدى الشَّجَرُ شَجَراً، وهو ما يوحي كثافة الأشجار والتصاق بعضها ببعض. فالشاعر يريد، إذاً، أن يصوّر كثرة الموت، واتّصال بعضه ببعض، ومجيئه من كلّ جهة، فاستعار الرداء والإزار للميتات، وجعل بعض الموت لباساً لبعض، فكان بذلك شديد الإيحاء.

          وفي النتيجة، إنّ في التكرار وإضافة الشيء أو الفعل إلى نفسه قبحاً إذا كان لغواً لا طائل تحته، وإنّ فيه فائدة معنويّة بلاغيّة أذا زاد المعنى تفصيلاً أو وضوحاً، وإنّ فيه تصويراً رائقاً إذا أوحى صورةً شعريّة غريبة.

 

 

 

مصطفى علي الجوزو