جمال العربية
جمال العربية
في الذكرى السبعين لميلاد أمل دنقل يهدي أمل دنقل ديوانه الأول «مقتل القمر» إلى الإسكندرية: سنوات الصبا. لكن غرامه بالإسكندرية: مدينة وبشراً، وصيغة حياة، وإطلالة حضارية، يمتدّ إلى ما هو أبعد بكثير من المرحلة العمرية الباكرة التي شهدت قصائده الأولى، وينسحب على ديوانيه: الثاني «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» والثالث «تعليق على ما حدث». وهو ما يترك انطباعًا قويًّا بعمق تأثير هذه المدينة الأوسطية، الجامعة بين هويتين: مصرية وأوربية، في وجدان أمل، وبخاصة حين ابتعد عنها، وارتبطت حياته في بقية سنوات عمره بالقاهرة. فأصبحت الإسكندرية الغائبة الحاضرة تمثل النقيض الأجمل والأصفى لصخب القاهرة وطغيانها الجغرافي والبشريّ، وامتلائها بكل ما هو مثير للانشطار بين عالمين مصطرعين. وسنوات الصبا، في عمر أمل دنقل الشعري، هي سنوات التكوين والتشكُّل والإفصاح، والنبوءة التي تقدمها قصائده لما هو آتٍ من شاعرية مغايرة وموقف غير مهادن من الحياة، في كل صورها وأبعادها، صحيح أن الطابع العاطفي هو السائد والمسيطر والمفجّر، وأن الحنين الرومانسيّ الغائم، والشجن الغامض، واللغة الشعرية التي يستغرقها عالم الصور والإيحاءات والتفاصيل الصغيرة، هي مكونات هذا العالم الشعري ومادته وخميرته، لكنه يفصح في إطار ما يفصح عنه عن مزاجه الحاد الشديد الحدة، وقدرته الفذَّة على المواجهة مع النفس، وتعريتها، وجلْدها أحياناً، الأمر الذي يؤهِّله لجلْد وطنٍ بكامله في مقبل عمره الشعري، بعد انكساره عام 1967 التي سُمّيت بالنكسة. في مستهل قصيدة عنوانها «إجازة فوق شاطئ البحر» يقول أمل: أغسطسُ، *** طفولة «مايو» تشيخُ، ويقول في المزمور الأول من قصيدته الطويلة «مزامير»: أعشقُ إسكندريةَ *** كلّ أمسية، تتسلل من جانبي وفي قصيدته «رسالة من الشمال» والشمال هو الإسكندرية، بالنسبة لأمل «الجنوبي» نقترب من صورة الإسكندرية الأولى في عالمه الشعري، عندما كانت مستقرّه ومقامه في سنوات الصبا بتعبيره هو -، لم تكن قد أصبحت بعدُ ذكرى، ولا هو امتدّ به العمر ونضج بحيث يرى فيها مَطْهَرًا من سوءات الحياة في القاهرة، ولم تختلط صورتها بصور معشوقاته اللاتي رآها فيهن ورآهن فيها، بحيث تصبح الإسكندرية هي المعشوقة، والمعشوقة بدورها هي الإسكندرية، هنا المشاعر البكر الطازجة، والحنين الأول إلى ساكنة الجنوب التي يبعث إليها بأشواقه مصوِّرًا مدى احتياجه إليها، وهو يعاني الوحدة والاغتراب في المدينة الشتائية القلب والمَحْضَن، مؤمِّلاً أن يجيئها قادمًا ذات يوم من شمال الشمال لأن في عينيها موطنه الحقيقي في موطنه. يقول أمل: ملاكي: أنا في شمال الشمالِ وصولاً إلى قوله: هي اسكندرية بعد المساءِ باستثناء قصيدته «مقتل القمر» التي حمل ديوانُه الأول اسمها، يصبح الديوان كلّه ديوان الحب الأول في شعر أمل دنقل، وديوان الإرهاصات الشعرية القادمة التي ستُغيّر المجرى وتعصف بالبدايات، مُفسحة لقصيدة مغايرة، ونسيج شعري مغاير، ودور شعري يختلط فيه الذاتي بالوطني والقومي، والإنساني والوجودي والكوني، عبر مراحل متتابعة من رحلة الشاعر الإبداعية، التي جعلت منه رأس الحربة في جيل شعراء الستينيات، وطليعة شعراء التمرد والرفض والخروج في ديوان الشعر المصري العربي المعاصر كلّه.. وبقدر ما هو ديوان الحب الأول، فإنه ديوان الإسكندرية: وجدانيًّا وإنسانيًّا بكل ما يحمله من تنويعات على لحن التوحّد والاغتراب واللاانتماء، ومواجهة طقْس الإسكندرية السحري ومفردات عالمها القابع في العيون الخضراء، وعزيف المطر، وفتيات الحانات، ودوامات العواصف والزوابع التي تجسّدها نوّات الإسكندرية، وصخب البحر حين يفور ويثور، واتساع الوقت للحظات التذكّر وقسوة الذاكرة، والأماكن التي اقتحمت فضاء الحب وذكرياته، ومن بينها مكان فريد تسلّلت إلينا صورته وحكاياه من خلال قصيدة أمل البديعة «الملهى الصغير»، ختام قصائد الديوان الأول، وأكثرها امتلاءً واحتشادًا بمعزوفة الشجن المبكرة في شعر أمل، وأكثرها تكثيفًا لمشاعر الأسى المنكسر والحلم المحبط والرهان الخاسر. وهي القصيدة التي أدعها تتحدث عن نفسها بنفسها، بدون أن أقترب منها بمحاولة نثرها على عادة كثير من النقاد المحترفين فشعريتها أروع بكثير مما يمكن لناقد عاكف عليها أن يقول، حتى تظل في كيميائها ووهجها الإبداعي بعيدة عن النثرية وثرثرة الكلام: لم يعد يذكرنا حتى المكان! *** نحن كنا ها هنا يومًا *** ما الذي جاء بنا الآن؟ *** قَبْلَنا يا أختُ في هذا المكان ولايزال الماءُ يدور في شعر مبدع كبير، سنحتفل دومًا بذكرى ميلاده، وبإبداعه المتجدد فينا، حيًّا، شامخًا، لا يموت. ----------------------------------- كان يفكّر في صمت ويداه مصفّدتان : محمد القيسي
|