المثقفون وأصحاب القرار أمين هويدي

العلاقة بين المثقف وصاحب القرار علاقة شائكة. فصاحب القرار يعتبر نفسه صانعا للتاريخ. أما المثقف فهو دارس له خائف من عواقبه، ومع ذلك فهو قادر على التأثير فى عملية تشكيل القرار السياسي فهل استطاع المثقف العربي القريب من السلطة أن يقوم بهذا الدور؟

في إحدى الندوات التي عقدت في تونس "منذ ثلاث سنوات، اجتمع حوالي مائة من المثقفين العرب لبحث موضوع يتعلق بالمستقبل العربي، وخلال تلك الفترة لم أستمع إلى فكرة واحدة جديدة، أو خطة محددة لمعالجة موضوعات البحث، إذ أكد البعض أنه ليس من واجبهم إيجاد حلول للمشاكل المطروحة، فهذا واجب الأجهزة التنفيذية، بينما اقترح أحد الحاضرين- وقد ملأته النشوة- أنه قد آن الأوان لإعلان "جمهورية المثقفين" ، ولما صفق الحاضرون زادت نشوته، ورشح أحد الحاضرين من المثقفين لرئاسة "الجمهورية الوليدة".. وأذكر أنني علقت على ذلك في "مذكراتي اليومية" بأنني غادرت القاعة وقد غلبني اليأس وضربت رأسي في أقرب حائط ثلاث مرات.!!

هذا الذي رأيته في تونس وغيرها يؤكد أن هناك فجوة حقيقية بين المثقفين وأصحاب القرار، تقع مسئولية وجودها عليهم جميعا، وقولنا هذا هو وضع مقلوب للحديث، إذ إننا بدأنا بالنتيجة قبل استرسالنا في البحث. وهذا وضع للعربة أمام الحصان أو للحصان خلف العربة. فالعلاقة بين الطرفين معقدة أشد التعقيد خاصة أن صاحب القرار في أغلب الأحيان قد يكون من غير المثقفين، أو قد يكون أحد المثقفين استطاع أن يقترب من السلطة أو أن يقفز عليها رافضا المكوث في برجه العاجي، كما يفعل كثير من المثقفين، ربما لينفذ أفكاره وربما لينفذ مطامعه من السلطة، فإذا سلك السبيل الأول فإنه يعتبر ثائرا لأنه يريد تغيير الأمر الواقع إلى الأفضل كما يتخيل، وإذا سلك السبيل الثاني، فهو انقلابي اكتفى بأن يحك محل غيره دون أن يقدم على تغيير الأمر الواقع.

القلم خادم والسيف شريك

وعلى أي حال فإن "ابن خلدون" في الفصل 35 من مقدمته يصور العلاقة بين صاحب القلم والحاكم تصويرا دقيقا يكاد ينطبق على ما يحدث في بعض دول العالم الثالث الآن "اعلم أن السيف والقلم كليهما آلة لصاحب الدولة يستعين بها على أمره، إلا أن الحاجة في أول الدولة إلى السيف مادام أهلها في تمهيد أمرهم أشد من الحاجة إلى صاحب القلم، لأن القلم في تلك الحال خادم فقط منفذ للحكم السلطاني، والسيف شريك في المعونة. كذلك في آخر الدولة حيث تضعف عصبيتها. وأما في وسط الدولة فيستغني صاحبها بعض الشيء عن السيف لأنه قد تمهد أمره ولم يبق همه إلا في تحصيل الثمرات من الجباية والضبط ومباهاة الدول وتنفيذ الأحكام، والقلم هو المعين له في ذلك فتعظم الحاجة إلى تصريفه وتكون السيوف مهملة في أغمادها، إلا إذا أنابت نائبة أو دعيت إلى سد فرجة وما سوف ذلك فلا حاجة إليها، فيكون آرباب القلم في هذه الحالة أوسع جاها وأعلى رتبة وأعظم نعمة وثروة وأقرب من السلطان مجلسا وأكثر إليه ترددا وفي خلواته تحيا، لأنها حينئذ آلته بها يستظهر على تحصيل ثمرات ملكه والنظر إلى أحكامه وتثقيف أطرافه والمباهاة بأحواله.

ولكن من هو المثقف؟ هناك تعاريف كثيرة ننتقي منها أسهلها، فالمثقف هو أحد المتعلمين الذين لهم اهتمامات سياسية ويسعى إلى صياغة ضمير المجتمع والتأثير على السلطة السياسية في اتخاذ القرارات الكبرى، أو هو ذلك المتعلم الذي يتعرض للمشاكل ويؤصل أسبابها ويشير إلى البدائل الممكنة لحلها وفقا لرؤية شاملة وعلى أي حال فلابد أن يتوفر للمثقف المعرفة العامة المتنوعة، ووعي اجتماعي بكل المسائل العامة التي تهم المجتمع حتى ولو كانت خارج تخصصه، وقيامه بالبحث والتعبير عن معتقداته ومفاهيمه للتأثير على المجتمع والسلطة، وكذلك القدرة على طرح البدائل والحلول لمشاكل المجتمع. قدرة المثقف على طرح البدائل والحلول لمشاكل المجتمع لها - في تقديري - أهمية خاصة ينساها المثقفون كصاحبنا في تونس الذي صرح - مؤيدا من غيره - بأنه ليس من واجب المثقف البحث عن حلول. هذه الحتمية المهمة هي التي يتسبب عنها جفوة أو فجوة حقيقية بين صاحب القرار والمثقفين، وفي رأيي أن مسئولية مد الجسور لتجسير هذه الفجوة تقع في غالبيتها على المثقفين. فصاحب القرار لديه مشاكل كثيرة ومتعددة تنتظر قراره اليومي والقرار اختيار من جملة خيارات صعبة ورديئة، وبناء على ذلك فرغبته في إيجاد من يساعدونه على اتخاذ قراراته سواء من المثقفين أو غيرهم أكيدة ويتوق في الوقت نفسه إلى الدراسات المركزة التي تزوده بالبدائل والحلول، ولكن كثيرا من المثقفين يميلون إلى الدراسات النظرية المستفيضة مع العجز في أغلب الأحيان عن الوصول إلى بدائل واقتراحات وحلول. فهم يميلون إلى الإفاضة في توصيف المشكلة وربما إلى تحليلها والرجوع بها إلى أصولها التاريخية، وهذا جيد، ولكن صاحب القرار ربما لا يريد ذلك لأنه يعيش المشكلة ويواجهها ويريد حلا.

وفي تقديرنا فإن على المثقف وهو يحاول التأثير على صاحب القرار أن يساعده على إيجاد حل لمشاكله ومن واقع تجربتي الشخصية فإن عرض أي موضوع على صاحب القرار شفاهة أو كتابة- يمكن أن يكون بالصورة الآتية:

1 - المشكلة بمنتهى الاختصار.

2 - البدائل المختلفة لحلها مع ذكر مزايا وعيوب كل بديل.

3 - اختيار البديل الأكثر صلاحية لحل المشكلة القائمة من وجهة نظر المثقف أو المستشار.

4 - فكرة عامة عن وسائل تنفيذ البديل والإمكانات المتاحة لذلك.

بين عبدالناصر والسادات

وفي دوائر اتخاذ القرار في الولايات المتحدة ترفض أي مذكرة كتابية لا تنتهي بحل للمشكلة موضوع البحث. وكان عبد الناصر في حالة المذكرات الطويلة يبدأ بقراءة آخرها، فإن لم يجد اقتراحات مقدمة يتصفحها ثم يردها دون تعليق، أما الرئيس السادات فلم يكن يقرأ إلا في القليل النادر، ويفضل الاستماع، وقد يكتشف المستمع في اخر الأمر أن الرئيس كان في واد آخر غارقا ربما في التفكير في موضوع مختلف كل الاختلاف عن الموضوع المطروح، وربما يعرض عليه اقتراحان متعارضان في وقت واحد فيوافق على كليهما بهز الرأس، فهو منصرف ربما إلى البحث عن حل موضوع آخر.

وعلى المثقف أن يتذكر دائما أن العمل الوحيد لصاحب القرار هو إصدار القرارات لمواجهة المشاكل اليومية أو الكبيرة، ولذلك فهو يفضل الابتعاد عن الدراسات المطولة ويميل بلى أن يستمع إلى من يقتحم المشكلة مباشرة طارحا البدائل والاقتراحات، كثير من المثقفين يصاب باليأس حينما يظن أنه أقدم على فعل ممتاز بكتابته مذكرة من مائة صفحة، ثم لا يجد أي رد فعل لها، وهذا شيء طبيعي من جانب صاحب القرار، فعشرات الأجهزة تعرض عليه مشاكلها، وفي انتظار قراره، والوقت لا يتسع لقراءة مائة صفحة عن موضوع واحد لأن آلاف الأوراق في الانتظار.

ومن واقع تجربتي الشخصية أيضا فإن الغرض من أي مؤتمر يحضره صاحب القرار هو البت في موضوع معين، ولذلك فقبل الاجتماع بفترة معينة معقولة ترسل إلى حاضري المؤتمر "أجندة لما يقترح أن تكون بالصورة الآتية:

أجندة (أو برنامج عمل) مؤتمر

1 - الموضوع (موضوع البحث، ويستحسن ألا تتجاوز موضوعات البحث اثنين أو ثلاثة موضوعات)

2 - الحاضرون

3 - الوقت والتاريخ من الساعة.. إلى الساعة... يوم...

( لا يزيد المؤتمر على ساعتين أو ثلاث).

4 - تقدم المذكرات أو الاقتراحات قبل الساعة... يوم...

وقبل الموعد المحدد بوقت كاف تورع المذكرات على من سوف يحضرون المؤتمر لتكوين آرائهم فيها، فالمؤتمر ليس للدراسة، ولكن لاتخاذ قرار، وكل وقت المؤتمر عدا الدقائق العشر الأخيرة ملك للحاضرين، أما الدقائق العشر الأخيرة فهي ملك لصاحب القرار ليعطي قراره ووقت تنفيذه وطريقة التنفيذ وتوزيع الواجبات، ثم يحدد موعدًا لمتابعة التنفيذ وتذليل العقبات.

وقد يريد المثقف إذا اقترب من صاحب القرار أن يؤثر عليه وهذا من حقه، بل من واجبه، ولكن كثيرا من المثقفين لا يعرفون السبيل إلى ذلك لنقص في التجربة أو الممارسة، أو لأن الأغراض الشخصية تعميهم عن السير في الطريق السليم فيجدون أنفسهم وهم يحاولون الاقتراب من مركز القرار واقعين في شباك السلطة، وحينئذ بدلا من أن يحاولوا التأثير عليها يجدون أنفسهم يسرفون في كسب رضاها، ويصبح لا هم لهم إلا ترديد ما يقوله صاحب القرار، وهذا هو الطريق الأسهل والأضمن، وحينئذ يفقدون احترام وثقة صاحب القرار وكذلك الجماهير في الوقت نفسه.

أربع فصائل للمثقفين

والمثقفون الذين يصلون إلى دائرة المستشارين لصاحب القرار يندرجون تحت فصائل أربع: الفصيلة الأولى وهي نادرة وتشمل هؤلاء الأفراد الذين يعطون مشورتهم الصادقة ويتركون لصاحب القرار حق الاختيار حتى من مشورات أخرى. والفصيلة الثانية تشمل هؤلاء الأفراد الذين يظنون أنه من المحتم أن على صاحب القرار الأخذ بتوصياتهم وأفكارهم. والفصيلة الثالثة وتشمل هؤلاء الأفراد الذين يدونون الاقتراحات لإثبات المواقف خوفا من حكم التاريخ أو ترددا في تحمل المسئولية. والفصيلة الرابعة والأخيرة وتشمل هؤلاء الأفراد الذين يداهنون وينافقون صاحب القرار فيحاولون قراءة فكره وتحديد ما يدور في ذهنه ليسردوا له أفكاره في صورة اقتراحات مقدمة منهم ولا يحملون إلا الأنباء الطيبة والمشورات الرديئة.

وصاحب القرار يرتاح إلى النوع الأول ويرفض محاولات النوع الثاني في إملاء آرائهم عليه، لأنه إن قبل ذلك أصبح أسيرا لهم وأصبحوا هم الذين يحكمون من وراء ستار ولا يتعامل صاحب القرار مع النوع الثالث، أما عن النوع الرابع فبالرغم من أن أغلب الرؤساء يحبون المداهنة إلا أنهم يملونها بمضي الوقت، خاصة أن البدائل من هذا النوع متوافرة في السوق.

وصاحب القرار هو صانع للتاريخ، أما المثقف فهو دارس له ولا يميل في العادة إلى الخلق والإبداع وابتكار الأفكار الجديدة حتى لا يكون ضحية لأفكاره، ويميل كثير من المثقفين إلى النقل والمحاكاة، متأثرين بمصادر ثقافتهم الأجنبية في حين أن صاحب القرار يعمل في بيئته وبين جماهير تطالبه بالحلول الواقعية للمشاكل التي يعيشونها. ومن السهل أن ننقل ونقلد، ولكن إن نحن اكتفينا بذلك نكون كمن يرقص في منتصف السلم لا يراه سكان الطوابق العليا ولا السفلى، لأن صاحب القرار يرفض التعامل مع الأفكار المستوردة التي لا تواجه التحديات التي تؤرقه.

وعلى المثقف أن يدرك تماما- خاصة إذا كان في دائرة صدور القرار- أنه لا يشارك في الحكم ولا يشارك في إصدار القرار، ولكن عليه أن يدرك أنه أحد المشتركين في صنعة القرار، لأن القرار يصدره صاحب القرار فهو سيد داره، فقراره ليس قرارا توفيقيا بين اقتراحات متعددة، وهو بذاته ليس قائدا لفريق عمل بل هو قائد للسفينة وسط العواصف والأمواج، عليه أن يرسو بها إلى شاطئ السلام، وهو الذي يقف في ردهات التاريخ كشاهد تحفر عليه كل هزائم وانتصارات عهده رغما عن أن الانتصار له أكثر من أب، في حين أن الهزيمة يتيمة يتنصل الكل منها.

العلاقة المعقدة

ويقول هنري كيسنجر عن المثقف وكأنه يتحدث عن نفسه: "تظل معظم الأفكار حبيسة في رءوس أصحابها إلا إذا أقحمت في رءوس وقلوب الرجال الأقوياء الذين في قدرتهم تحويل الدراسات إلى سياسات والتصورات إلى قرارات، وعلى حملة الأفكار أن يسعوا إلى رجال السلطة، فإذا اقتنع هؤلاء بالفكرة دبت فيها الحياة فأصبحت حقيقة ملموسة، وبدون ذلك تظل الأفكار مجرد وهم، وعلى صاحب القرار- من جانب آخر- أن يقترب من المشاكل القومية، وأن يعرف العلاقة الحقيقية بين القوى التي تؤثر فى إصدار القرار وتنفيذه، وأن يجعل العلاقة في خدمة الأغراض التي يريدون تحقيقها، لأن السياسي لا يقيم بأفكاره بل بقدرته على تنفيذ تصوراته وإلا أصبح كالفيلسوف، وعلى المثقف من جانب آخر ألا يقف عند حد معين من المعرفة، بل عليه أن يسير في دروبها المتشعبة، وأن يرجع بين وقت وآخر إلى مكتبه أو معمله ليعيد شحن بطاريته، وأنه إذا أهمل ذلك فسوف يتحول إلى مجرد إداري في جهاز بيروقراطي كان أساس اختياره له أنه كان أحد المثقفين يوما ما".

فالعلاقة إذن بين الطرفين معقدة والفجوة موجودة، يمكن أن نجسدها بالتمعن فيما قلناه، وإن كثيرا من أصحاب القرار يسطحون المسائل ولا يشعرون أصلا بوجود المثقفين أو من يساعدونهم في لا مطابخ، إصدار القرار، إذ يكتفون بالإلهام الذاتي في تسيير الأمور، وهنا تقع كوارث كثيرة يعاني منها الشعب بمثقفيه، ويبقى صاحب القرار في مكانه على القمة.

كتب. الرئيس " هاردنج" وهو من رؤساء الولايات المتحدد الأقدمين "إنني أصغي لأحد الجانبين فأجده على صواب ثم أصغي إلى الجانب الآخر فأجده لا يقل صوابا عن الأول، فأجد نفسي من حيث بدأت.. يا إلهي ما أسوأها من وظيفة"!! وسبب سخط الرئيس هاردنج هو أنه لم يدرك أن الرئيس غير ملزم بتنفيذ ما يسمع، فهو سيد داره بلا.. منازع.