إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي

الشعر هذا الحصان الجامح

بوجه من الوجوه، قد يكون الشعر الأجنبي الحديث الذي تنشره بعض الصفحات الثقافية العربية منقولاً إلى العربية، مسئولاً عن حالة الفوضى والانحطاط التي أصيب بها الشعر العربي في الربع الأخير من القرن الماضي والتي لا تزال تتراخى إلى اليوم. ذلك أنه شبه للكثير من شعرائنا الشبان أن هذا الشعر الأجنبي، وعلى صورته التي نُقل بها إلى العربية، نموذج قابل للاحتذاء. أليس هو الشعر السائد الآن في بلدان الحضارة والحداثة؟ وهل يعقل أن يكون قد نُقل إلى العربية لو لم يكن شعراً عالي المقام في بلاد الإفرنج؟ ولأن حظ هؤلاء الشعراء الشبان محدود في إجادة اللغة العربية وكذلك في بقية الأدوات كما ينظرون إلى الشعرية العربية الكلاسيكية، وكذلك إلى موجتها المستحدثة المتمثلة بشعر التفعيلة، على أنها بقايا من الماضي، فقد تعاملوا مع هذه النماذج الشعرية الأجنبية، وتماما كما هي منقولة إلى العربية، بورع وإجلال على أنها نموذج الشعر الجديد، أو نموذج الحداثة الشعرية. ولأن عبارات الريادة والتأسيس والطليعية من أكثر العبارات شيوعاً في النادي الأدبي العربي منذ سنوات بعيدة، فقد ظن هؤلاء أن استيراد هذه النماذج الشعرية السائدة في فرنسا وسويسرا والدنمارك وسواها من بلدان الغرب، كفيل بحل أزمة الشعر العربي، وبحل أزمتهم هم قبل سواهم. وكفيل قبل كل شيء بأن يهبهم صفات الريادة والتأسيس والطليعية.

ويبدو أنه سها عن بال هؤلاء الشعراء الشبان، وهم في فورة الحماسة للتجديد (أو للحداثة على الأصح وعلى أساس أن عبارة التجديد قد استخدمها السلف) عدة نقاط نظام أولها أن هذا الشعر الذي يقرؤه الأجنبي بلغته الأصلية ليس هو عين الشعر الذي وصل إلينا. فهو أولا شعر مكتوب بأساليب شعرية سائدة في لغته الأصلية، وهي أساليب تستعصي على الترجمة. ثم إنه شعر يواكب مجتمعه وحضارته وقد يكون له ما يبرره أمام قارئه. فلا يمكننا والحالة هذه أن نعتبره القدوة أو النموذج لأن لكل أمة طرائقها في كتابة الشعر، ناهيك عن أن الترجمة تفقد الشعر جوهره. فإذا ترجم بدت عليه وعثاء السفر ووصل منهكاً متعباً فاقداً الكثير من مواصفاته الأصلية.

مرت ترجمة الشعر الأجنبي إلى اللغة العربية بمرحلتين. في الأولى كان الشاعر العربي ينقل القصيدة الأجنبية شعرا. هذا ما فعله على سبيل المثال الأخطل الصغير في قصيدة (المسلول) لألفرد دي فينيي، وهذا ما فعله إلياس ونقولا فياض في قصيدة (البحيرة) للامارتين.

وكانت المرحلة الثانية هي المرحلة التي نتحدث عنها والتي جلبت شقاء ما بعده شقاء للشعر العربي. لقد نقل هذا الشعر الأجنبي، التجريدي حتى في لغته الأصلية، إلى العربية على أساس أنه الشعر الجديد، أو شعر الحداثة. وهنا وقعت الكارثة التي انعكست على مجمل الوضع الشعري العربي. فهذا الشعر الأجنبي ليس مفهوماً أصلاً في بلد المنشأ، وربما غير معترف به من قبل النخب فيه.

وفي اعتقادنا أن ما صلح في الأمس مازال صالحا اليوم. أول الطريق إلى الشعر هو إجادة أداته الأولى وهي اللغة والاطلاع على روائع الشعر العربي قديمه وحديثه. وهو أيضا إجادة اللغة الأجنبية والاطلاع على آداب الأجانب بلغاتهم. والشعر بطبيعته موهبة وخبرة وتجربة. ولا يمكن امتلاك كل ذلك بسهولة أو من دون تكلفة.

 

 

جهاد فاضل