عودة جان بول سارتر

عودة جان بول سارتر

برحيل جان بول سارتر اختفت صورة (المثقف الشامل) الذي يحرص على أن يترك بصماته على كل الفضاءات المتصلة بأسئلة المجتمع والأدب والسياسة والفكر.

منذ شهر أبريل الماضي، تشهد فرنسا عودة صاخبة إلى فكر سارتر وكتاباته المتنوعة، ومواقفه المعتبرة، وذلك بمناسبة مرور عشرين سنة على غيابه. ولم يتردد برنارد - هنري ليفي - أحد الفلاسفة (الشباب) البارزين - بأن يختار لكتابه الضخم عنوان (قرن سارتر) معتبراً هذا الفيلسوف، الروائي، الناقد، الصحفي، المجادل، كاتب السيناريو...، علامة مميزة وملخصة للقرن العشرين!

ولعل تحمّس برنارد ليفي لسارتر وهو المعروف بتشيّعه لألبير كامو مردّه إلى ذلك التشابه القوي في الممارسة الثقافية بينهمـا، رغـم الفروق الكبيرة، والتي تجعل من الفيلسوف (الشاب) صورة للمثقف الحاضر باستمرار في وسـائط الإعلام! لكن هذا موضوع آخر يبتعد عن الملاحظـات والتأملات التي استوحيناها من قراءة بعض الكتب والدراسات المنشورة بمناسبة (عودة) سارتر والعودة إليه.

إن ما يلفت النظر في ما يُكتب اليوم عن سارتر، هو الحرص على تقديم صورة دقيقة عن فكره وحياته وتحوّلاته بعيداً عن التقديس أو الاختزال المتجنّي. صحيح أن سارتر شغل ناس عصره، وملأ الأسماع في العالم، وكان شجاعاً في نُصرة المستضعفين والمستعمرين، ولكن الصحيح أيضاً هو أنه لم يكن مبتدعاً أصيلاً في فلسفته الوجودية وفي أشكاله الروائية والمسرحية، بل (اقترض) الكثير من هيدغر، ونيتشه وهيجل، ومن أندريه جيد، وسيلين، وفولكنر، ودوس باسّوس... لدرجة أن الكثير من الدارسين يجمعون على أن موهبته تتجلى في قدرته الخارقة على (امتصاص) ما يقرأ، لإعادة استثماره فيما يكتبه ويبتدعه. فكأن ميزة سارتر تنحصر في كونه اسفنجة هائلة تتشرّب وتلتقط أهم ما كُتب وأنتج في الثقافة العالمية ليؤلف منه أوبرا متعددة الشخوص والألوان والأفكار، وهو منتصب على رأس الأوركسترا القائدة لتلك الأوبرا المجسّدة لأفكار القرن العشرين ومشاعره وتناقضاته.

ويخيّل إليّ أن صورة سارتر في الثقافة العربية هي صورة مختزلة تكاد تنحصر في أصداء متداولة عن وجوديته، وعن دعوته إلى الالتزام في الأدب واهتمام المثقف بقضايا عصره، لذلك أودّ أن أذكّر بالملامح الأساسية لمساره الفكري والفلسفي قبل العودة إلى علاقة الثقافة العربية بسارتر.

المرحلة الثالثة

يميل الذين كتبوا عن سارتر إلى إبراز مرحلتين اثنتين فقط ميّزتا مساره الفلسفي والفكري، وهما مرحلة الوجودية ثم مرحلة النضال مع الماركسيين المتطرفين. وهذا تقسيم يغفل السنوات الأخيرة من حياته التي ارتبط خلالها بزعيم التيار الماوتسي بيني ليفي الذي تحوّل إلى متشبّع بفلسفة إمانويل ليفيناس وبالصوفية اليهودية، والذي حمل سارتر على نُكران ما كتبه من قبل. لذلك أريد أن أتوقف، باختصار، عند المراحل الثلاث لمغامرة سارتر الفكرية:

من أسئلة الوجود القلق إلى الحرية المسئولة: حتى حدود قيام الحرب العالمية الثانية، كان سارتر قد نشر كتابين هما (الكينونة والعدم) ورواية (الغثيان) ورغم اختلاف شكلي الكتابين، فإن السمة الجامعة بينهما هي انشغال الكاتب برصد تفاصيل الحياة اليومية في تماسّها وعلائقها بالكينونة المغيّبة وراء ما هو كائن. ومن خلال آليات المنهج الظاهراتي (الفينومينولوجي) الذي تعرّف عليه سارتر عند هيسرل (Husserl) راح سارتر يلتقط المشاهد والأفكار والسلوكات ليفتّتها بحثاً عن ذلك الوجود المتواري خلف المواضعات والقوانين والماهية الجاهزة الملغية لإمكانات الوجود وقدراته الاحتمالية. وبعد قيام الحرب واحتلال ألمانيا النازية لفرنسا وانخراط الكـُتّاب في المقاومة، بدأ سارتر ينتبه إلى علاقة الحرية بمسئولية الفرد في الدفاع عنها خارج الوصايا والتعاليم الدينية والطروح الفلسفية المثالية. كان قد كتب، إبّان الحرب، مسرحيات لها أبعاد مقاومة (خاصة مسرحية (الذباب)) وأدرك، من خلال نجاحها، أهمية القيم الغيرية التي تمنح المتلقي والقارئ حرية ملموسة لازمة للدفاع عن الحرية بالمطلق. وهذا ما جعل سارتر يقول، فيما بعد: (ما من فن إلا من أجل الآخر وبواسطته). وتكللت هذه المرحلة بالمقالات الشهيرة التي كتبها سارتر بمجلته (الأزمنة الحديثة) يصوغ تصوّراته عن الالتزام في الأدب، والتي نشرها في كتاب بعنوان (ما الأدب؟) (1947).

واللافت للنظر في هذه المقالات الجدالية، هو اتخاذ سارتر للأدب منطلقاً لطرح أسئلة وقضايا تمسّ مجموع أسئلة الثورة والتغيير في فرنسا الغائصة في خرائب ما بعد الحرب العالمية الثانية.

بعد تجربة المقاومة والحرب، تبدّى سارتر بوجه مغاير لما عبّر عنه في (الغثيان) الحاملة لرؤية نهيلية وجودية تقتنص كل ما هو سالب في حياة الطبقة البورجوازية ذات المواضعات المتكلّسة. في (ما الأدب؟) نجده يسعى إلى التركيب بين السلب والإيجاب، بين نقد الاستلاب ولاغائية الأدب الحداثية، وبين المراهنة على الكونيّ الملموس الذي سيقود إلى تشييد (مدينة الغايات). والطريق إلى ذلك تبدأ بالإيمان بأن القارئ هو حرية قبل كل شيء، وهو الذي يضفي المعنى على ما نكتبه ويوجد له سبلاً تربطه بواقع الحياة. من ثم تغدو الحرية قيمة مشتركة تشغل الكاتب وتلزمه بالدفاع عنها: (.... إنه لا يكفي أن نمنح الكاتب حرية قول كل شيء، بل يجب أن نكتب من أجل جمهور يتوفّر على حرية تغيير كل شيء. وهذا معناه، فضلا عن محو الطبقات وإزالة كل دكتاتورية، التجديد المستمر للأطر، والقلب الدائم للنظام بمجرد ما ينزع إلى التجمّد. بكلمة واحدة، الأدب هو، في جوهره، ذاتية مجتمع يعيش ثورة دائمة) (ص. 195 من النص الفرنسي لـ: ما الأدب؟).

من هذا التصوّر للحرية المسئولة عن تغيير الإنسان والمجتمع، استوحى سارتر أجوبته عن الأسئلة القديمة - الجديدة: ما الكتابة؟ لماذا نكتب؟ لمن نكتب؟ ويمكن أن نلخص أجوبته، مع ما في ذلك من خلل، بالقول بأنه يعتبر الكتابة تفسيراً وكشفاً للحاضر وتحديداً لموقف الكاتب منها: وأن الدافع إلى الكتابة هو التعبير عن الذات وعن العصر، وأن الذين نكتب لهم هم العدد الكبير، الواسع من القرّاء، الملموسين الذين يشاركون معنا في تغيير الوعي.

التباعد عن الأدب والالتحاق بالسياسة: إذا كانت ميزة المرحلة الأولى هي انطلاق سارتر من الفلسفة والأدب لصوغ فكره النقدي ورسم آفاق الالتزام الثوري المتحرر من قيود وحسابات الأحزاب والمنظمات، فإن مرحلته الثانية تتسم بالابتعاد أكثر فأكثر عن الإبداع الأدبي (لم يكمل الجزء الرابع من روايته (دروب الحرية))، وبانغماره في الفعل السياسي والكتابة عن القضايا المتصلة به، بل إنه شارك في تأسيس حزب اشتراكي قبل أن يستقيل ليعود إلى الممارسة السياسية خارج الإطار الحزبي. هكذا نجده، خلال هذه المرحلة، يكتب عن الشيوعيين الفرنسيين كحلفاء قبل أن يعود ليخاصمهم منتقداً الستالينية، ثم يكتب منتقداً بعنف الجنرال دوكول وسياستـه، ويسافر إلى كوبا ليكتب عنها استطلاعاً صحفياً طـويلاً، ويناصر الثورة الجزائرية، ويسافر إلى إسرائيل ومصر ليناصر الإسرائيليين ويسكت عن حقوق الفلسطينيين، ويعانق ثورة الطلبة بفرنسا سنة 1968، ثم يلتحق بالجماعات الماركسية المتطرفة في السبعينيات ليطالب بالثورة الجذرية وتحطيم الرأسمالية.

ويذهب كثير من المتخصـصين في سيرة سارتر، إلى أن نشر سيرته الذاتية (الكلمات) (1964) إنما هو تعبير منه عن كراهيته للأدب ولنفسه وإشادة بالعشيرة الواسعة التي حلم بالانصهار داخلها. من ثم تغاضى عن حبّه للأدب لينخرط بقوة في العمل السياسي مع جماعات متطرفة لم تدرك طبيعة الآليات المتحكمة في تطور المجتمع الفرنسي خلال الثورة التكنولوجية، وطوال هذه المرحلة، أغرق سارتر في التحليلات السياسية الخاطئة التي لم تخلّف حصاداً يذكر. والغريب في هذه المرحلة هو أن (التزام) سارتر إلى جانب الماركسيين المتطـرفين أخضعهم لدكتاتوريتهم التي كانت تمنعه من الكتابة الأدبية. وهذا ما جعله يكمل كتابه الضـخم عن فلوبير (ألفا صفحة) (عبيط الأسرة) في سريّة تامة عن أصدقائه الماركسيين الشباب الذين كانوا يحتقرون الأدب!

العودة إلى الميتافيزيقا:

قبل موت سارتر في 15 أبريل 1980، كان قد فقد بصره، وأصبح معتمـداً في قراءاته واستجواباته على بيني ليفي، وهو يهودي، مصري الأصل، كان زعيماً لفصيلة الماوتسيـين بفرنسا منذ هبّة 1968، ثم تحوّل إلى دارس ومـحلل للنصوص التوراتية، متشبّعاً بفلسفة إيمانويل ليفيناس. وأسفرت هذه العلاقة عن استجواب طويل نشرته الأسبوعية الفرنسـية (الأوبسرفاتور) قبيل موت سارتر، فكان بمنـزلة قنبلة فكرية أقلقت أسرة سارتر ومحبّيه وأصدقاءه، وفي طليعتهم رفيقة حياته سيمون دوبوفوار. ذلك أن سارتر في حواره مع ليفي، عمد إلى نقـض وتحطيم مجمـوع أطروحاته وكتـاباته، مصرّحاً بأنه لم يعرف قط القلق، وبأن روايته (الغثيان) هـي اختـلاق وكذب لا علاقة لها بالحياة، وأنه لا يوافق علـى ما ورد في كتابه (الكينونة والعدم) من مـفـاهيم وتحليلات. بدلاً من ذلك، صارح سارتر ليفي بأنه منذ اكتشف الصوفية اليهودية (نصـوص القبلانية) أخذ يجد في ثناياها أجوبة لأسئـلة حيّرته طويلاً. وعرض بيني ليفي على سارتر أطروحـات ليفيناس فتجاوب معـها سارتر ووجدها أقرب إلى نفسه من فلسفته الوجودية. هكذا تكون المسيحية - اليهودية - على حد تعبير أحد الدارسين - قد استطاعت أن تهبّ لنجدة سارتر وشفائه من سارتريّته!

أسطرة سارتر

بدأت الثقافة العربية تتعرف على أفكار وبعض أعمال جان بول سارتر منذ الخمسينيات، ولاشك أن المبادرة في ذلك تعود إلى الدكتور سهيل إدريس مؤسس مجلة (الآداب) الذي سارع إلى ترجمة بعض روايات سارتر ومسرحياته، وعمل على ترويج مفهوم الالتزام والحرية المسئولة، لأنها مفاهيم تستجيب لما كان يتطلع إليه المثقف العربي لتدعيم تطلعاته القومية ذات الأفق التحرّري والمضمون الاجتماعي، الاشتراكي. بتعبير آخر، فإن لحظة المثاقفة التي عاشتها الثقافة العربية في الخمسينيات، قد وجدت في الوجودية ما يستجيب لأفق انتظارها ويستكمل الأبعاد الغائبة عن الأيديولوجيا القومية (الاعتراف بالفرد والفردانية، نقد الموروث، استيحاء الذات في الإبداع الأدبي...).

لكن ما نريد إبرازه، هنا، هو أن الانفتاح على ثقافة وفكر الآخر قلّما يقترن، عندنا، بالدقة والمتابعة ونسبية التقييم لذلك الإنتاج الفكري، وحتى لا نبتعد عن الموضوع، نشير إلى تعامل د.سهيل إدريس مع إنتاج سارتر، علماً بأنه لم يكن الوحيد الذي ترجم سارتر وعرّف به، يذكر سهيل إدريس، في أكثر من مناسبة، أن ما يعنيه في إنتاج سارتر هو الجوانب (الإيجابية) المتصلة بالدفاع عن الحرية والالتزام المسئول، وما عدا ذلك فهو لا يلتفت إليه، أو أنه يلغيه من التحليل حتى وإن كان في ذلك اختزال لفلسفته. يتبيّن هذا الموقف واضحاً في الحوار الذي نشرته مجلة (الآداب) مع مؤسسها أخيراً (العدد9/10، سبتمبر، أكتوبر 2000) حيث يقول: (... ولاشك في أن هذا الموقف هو الذي أملى عليّ حين ترجمت كثيراً من أعمال سارتر والوجودية، أن أضرب صفحاً عن النزعة الإلحادية في المذهب الوجودي، لأن اجتهادي آنذاك، كان يميل إلى الاعتقاد بأن الإلحاد ليس من أركان الفكر الوجودي الأساسية. والحق أني كنت أعتقد أن هذا الفكر ينحصر في الجانب الأخلاقي منه بفكرتي الحرية والالتزام، وهما الفكرتان اللتان قصدت إليهما حين ترجمت (دروب الحرية) لسارتر بأجزائه الثلاثة، وحتى حين ترجمت (الغثيان).

هذا الموقف التجزيئي، الانتقائي في الترجمة والتعريف بفكر الآخر، نجده شائعاً وحاضراً بكثرة، وهو الذي يفسّر منهج تعاطينا مع ثقافات العالم. وغالباً ما ينتج عن ذلك أمران: أمثلة بعض المفكرين والمبدعين، أو تقديمهم بكيفية ناقصة ومشوّهة. فبالنسبة للدكتور سهيل إدريس، لا يهمّه التعريف بتحوّلات سارتر وبتناقضاته الفكرية والسياسية، لأنه يريد أن يحتفظ له بصورة الثوري المناصر للمستضعفين، وبالمثقف الشامل الداعي إلى الالتزام.

وفيما يتصل بالعديد من الفلاسفة والكتّاب العالميين، فإن صورتهم في ثقافتنا - وعند الذين لا يقرأون بلغة أجنبية - تظل مضطربة، ناقصة، ومفتقرة إلى ربطها بسياقاتها وبالتحوّلات المشروعة التي يعيشها كل مفكر وكل مبدع، ويعزّز هذا النقص، غياب مؤلفات يكتبها النقّاد والمفكرون والفلاسفة العـرب عن أسـماء بارزة فـي الثقافة العالمية تستحق أن نتحاور مـعها، وأن نسائلها في سياقها المعرفي، وعلى ضوء الأسئلة التي تشغلنا.

إنني لا أعرف كتباً جيدة ألّفها عرب عن شكسبير، أو سرفانتس، أو فلوبير، أو بروست، أو هيجل، أو هيدغر، أو سارتر، أو دولوز... تعتمد الدقة والنسبية والحوار المخصب.

لأجل ذلك، أعتقد أن سيرورة المثاقفة التي نعيشها في غير قليل من العشوائية والارتجال، تحتاج إلى أن نستحضر تساؤلاً عن: كيف تستطيع الثقافة العربية الحديثة أن تتخلص من أسطرة فكر الآخر وإبداعه، وأن تتابع إنتاجات الثقافة العالمية على أساس من التقييم النسبي؟

 

محمد برادة

 
 




جان بول سارتر