الجدال بين الكرخي وباسكال: حسبنة الجبر

الجدال بين الكرخي وباسكال: حسبنة الجبر

...وجاء زمان كان قتل الرياضي فيه حلالاً، والاشتغال بالرياضيات كفراً..!!

خلال عهد الخليفة العباسي المنصور كان ضمن الوفد القادم من الهند إلى بغداد عالم هندي متخصص في علم الفلك. وكان للفلك أهمية كبيرة عند خلفاء الدولة العباسية لأنهم لم يكونوا يفرقون بين الفلك والتنجيم، أو استطلاع نجوم السماء لمعرفة أوقات السعد وأوقات النحس لتجنب أي عمل فيها.

ولقد قام هذا العالم الهندي بمساعدة الفزاري على ترجمة نص فلكي مكتوب باللغة السنسكريتية، وكان نتيجة هذا العمل، (زيج السند هند) الذي يحتوي على معلومات فلكية ورياضية عديدة.

ولقد أمر الخليفة المنصور ـ الذي بنى بغداد عاصمة جديدة له ـ أن يبدأ العمل في وقت معين من يوم من أيام يوليو عام762م، قال عنه المنجمون إنه وقت سعد. ولابد أن المنجمين قد أحسنوا عملهم، إذ إن بغداد قد ازدهرت فعلا كمركز ثقافي وتجاري.

وخلال حكم هارون الرشيد تم بناء مكتبة كان من الممكن أن تجد بها أصولا وترجمات أعمال علمية مهمة باللغات السنسكريتية والفارسية واليونانية، وهي الأعمال التي حفزت العلماء المسلمين الأوائل على العمل والإنتاج البحثي.

ثم أعطى الخليفة المأمون دفعة قوية للنشاط العلمي عندما أسس معهدا للترجمة والبحث عرف باسم (بيت الحكمة). وفي هذا المعهد كان يعيش المترجمون ومساعدوهم الذين قاموا بترجمة أمهات الكتب اليونانية والسريانية والفارسية والسنسكريتية إلى اللغة العربية. واستخدم هؤلاء المترجمون ـ الذين احتضنتهم عائلات ثرية بالإضافة إلى الخليفة ـ الطاقات الكامنة في اللغة العربية باستخدام تفريعات مختلفة للجذر الأصل للكلمة، وبهذا خلقوا ما أصبح لغة مشتركة للعلماء من شمال إفريقيا إلى الصين.

وفي بغداد كان هناك مرصد فلكي، وكان من العاملين في هذا المرصد، وفي بيت الحكمة بعض من أعظم علماء ذلك العصر.

رحلات بحث

وبالإضافة إلى ذلك أرسل الخلفاء الأوائل من العباسيين بعثات إلى الأراضي الأجنبية للحصول على نسخ من الكتب المهمة لترجمتها. ومن الأمثلة على هذا البحث المضني عن الكتب الأجنبية، المتاعب التي واجهها مترجم من القرن التاسع الميلادي ـ حنين بن اسحاق ـ في بحثه عن كتاب جالينوس في الطب. وهو يقول حسب النص الذي أورده روزنتال: (لقد بحثت بنفسي عن الكتاب في العراق وسوريا وفلسطين ومصر حتى وصلت إلى الإسكندرية ولم أجد شيئا باستثناء دمشق التي وجد بها نصف الكتاب، لكن ما وجدته لم يكن فصولا متتالية).

والغريب أنه بعد ذلك بنحو 400 سنة تكرر هذا البحث عن العلم الأجنبي، ولكن هذه المرة كان الأوربيون هم الذين يسافرون إلى الأراضي العربية بحثا عن النصوص العلمية العربية الثمينة. حدث هذا أيام الحروب الصليبية التي دارت طوال القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين والتي انتهت بإخراج الصليبيين من المشرق العربي والقضاء على ممالكهم.

مد وجزر

ومثل كل حضارة لم تكن الحضارة العربية الإسلامية ثابتة في دعمها للعلم والعلماء. فبعد عهد المأمون بوقت غير طويل تضاءل الدعم الممنوح لبيت الحكمة ثم اختفت تلك المؤسسة العلمية. وفي القرن التالي كتب السجزي شاكيا من أحد الناس يعتبرون الاشتغال بالرياضيات كفرا وأن قتل الرياضي حلال! وربما كان السبب في هذا أن معظم الرياضيين كانوا أيضا فلكيين وبالتالي منجمين. والسبب الآخر هو أنه عند بعض المتزمتين فإن الاشتغال بالرياضيات يغري بالاشتغال بالفلسفة، وهي عند هؤلاء طريق الكفر.

الحكمة الثانية

على أن السبب الأهم هو أن الازدهار الذي صاحب العصر العباسي الأول قد ذبل في العصر العباسي الثاني ، عندما كان العسكريون من الأتراك السلاجقة هم الحكام الحقيقيين، وكان الخليفة مجرد رمز في معظم الأحيان.

وعندما انقسمت الدولة العربية الكبيرة إلى ممالك وإمارات مستقلة ـ أو شبه مستقلة ـ حرص الحكام والأمراء الجدد على أن يكون لديهم فلكيوهم ومراصدهم. ولذلك شجعوا العلماء ودعموهم. فمثلا عندما استولى الفاطميون على السلطة في مصر، واستقلوا عن بغداد أسس الحاكم بأمر الله مكتبة عام 1005م وسماها (دار الحكمة) كان بها قاعات للمطالعة وللتدريس ومنح العاملين بها رواتب وضمن معاشا للباحثين حتى يتفرغوا لدراستهم.

وبالطبع لا ننسى أنه عندما فتح العرب الأندلس وأقاموا سبعة قرون أسسوا بها حضارة زاهرة، كانت الرياضيات من العلوم التي وجدت تشجيعا خاصا من الملوك والأمراء.

ويمكن أن نقول دون مبالغة إنه خلال الفترة من 750 ـ 1450م أنتجت الحضارة العربية الإسلامية سلسلة من الرياضيين الكبار، وليس صحيحا أن العلماء العرب كانوا مجرد ناقلين لإنجازات الحضارات القديمة ـ كما ادعى بعض الأوربيين ـ بل إنهم كانوا مطورين ومضيفين إضافات جوهرية فإليهم يرجع الفضل في ابتكار النظام العشري وفي تأسيس علم الجبر، وفي إثارة قضية المسلمة الخامسة من مسلمات إقليدس، وفي الحلول البيانية لمعادلات الدرجة الثالثة التي كانت مجهولة لدى اليونانيين تماما. وإليهم يرجع الفضل في مشروع (حسبنة الجبر) أي معالجة التقارير الجبرية وفق قواعد حساب، وهو أمر كان مجهولا تماما في الحضارات القديمة.

حسبنة الجبر!

ولقد قاد هذا المشروع (حسبنة الجبر) الكرخي ـ المتوفى في بغداد في القرن الحادي عشر الميلادي ـ ومن بعده السمؤال الى اكتشاف قوانين الأسس وقواعد الإشارات وبحث العمليات الجبرية على كثيرات الحدود لأول مرة في التاريخ من جمع وطرح وضرب وقسمة، واستخدمت لأول مرة طريقة الاستنتاج الرياضي في جمع المتواليات الحسابية، وإن كان الأوربيون لايزالون يدعون أن الفضل في اكتشاف هذه الطريقة يعود إلى الرياضي الفرنسي باسكال.

وليس هذا الادعاء غريبا على الأوربيين المحدثين، الذين لايزالون يرون تاريخ الجبر الكلاسيكي كتتابع لثلاثة أحداث منفصلة: (أ) صياغة معادلات الدرجة الثانية، (ب) الحل العام لمعادلات الدرجة الثالثة، (ج) إدخال وتوسيع الرمزية الجبرية.

ويقترن الحدث الأول عندهم غالبا بالخوارزمي، ويقترن الحدث الثاني برياضيي المدرسة الإيطالية في القرن السادس عشر، ويرتبط الحدث الثالث بعالمين: فنيت وديكارت.

يقال هذا بينما برهنت أعمال ويبل حول الكرخي والخيام في القرن التاسع عشر، وأخيرا أعمال لوكي عن الكاشي أن الصورة السابقة غير دقيقة إلى حد كبير، إذ كشف الأول من خلال ترجمـته لجبر الخيام ـ بصورة خاصة ـ أنه قبل القرن السادس عشر بكثير حققت نظرية معادلات الدرجة الـثالثة تقدما كبيرا على يد الخيام، كما يستـشف من أعمال ويبل ولوكي أنه لا يمكن كتابة تاريخ الجبر بمعزل عن مشروع (حسـبنة الجـبر) الذي بدأه الكرخي.

إن الناظر في كتاب الخيام في الجبر سوف يرى أنه يؤكد على أن العلماء العرب لم يصلهم أي شيء يتعلق بحل معادلات الدرجة الثالثة من اليونان. وأول من طرح هذه المهمة هو الماهاني وأن استخدام القطاعات المخروطية في الحل إنما يعود إلى أبي جعفر الخازن.

وأخيرا فإن تاريخ الاستنتاج الرياضي ـ عند الأوربيين المحدثين ـ إنما يعود في رأيهم إلى القرن السابع عشر الميلادي وينسبونه إلى باسكال الذي يسمونه (المكتشف الأول للاستنتاج الرياضي)، بينما أوضحنا نحن في هذا المقال أن الكرخي، ومن بعده السموأل ،هما أول من صاغ هذه الطريقة في البرهان، وإن لم تسمَّ بهذا الاسم.

 

عبدالعظيم أنيس