رواد الثقافة والفكر في الكويت:أحمد البشر .. عـاشق البحر والتراث

رواد الثقافة والفكر في الكويت:أحمد البشر .. عـاشق البحر والتراث

إذا كانت الطبيعة تكتسي بأبهى الحلل وأجملها هذا الشهر، والدنيا تحتفل بربيع زاه، فإن الكويت - وهي تعيش أفراح العاصمة الثقافية - تشهد ربيعاً آخر هذا العام، ربيع الثقافة التي توزعت غراسها في كل مكان، فمنها ما هو في طور النمو وبعضها ينشر ظلاله، والكثير منها اكتمل نموّه وبدأ يعطي الثمار التي يستمتع بها أرباب الثقافة وروّادها داخل الكويت وخارجها.

وتتوالى هذا الشهر - كما في سابقيه - الأنشطة الثقافية التي تجعل من عاصمة الثقافة العربية بستاناً ربيعياً خلاّباً للثقافة، كل ما فيه يسر الناظر ويدهش المتأمل.

وكما هو الحاضر الثقافي بديع ووارف الظلال، كذلك فإن الماضي لم يخل من محطات بديعة أسسها رجال استطاعوا رغم صعوبة الواقع وقلة الأدوات، وشظف العيش، أن يسطّروا صفحات خالدة في السجل الثقافي للبلاد، فالشاعر والكاتب أحمد البشر الرومي الذي عرف بعشقه للبحر والتراث، استطاع من خلال صبره ومجالدته أن يدقق في ثنايا التاريخ ويعايش واقعه معايشة خوّلته تسجيل الكثير من التراث الشعبي الكويتي.

ومن الأمس إلى اليوم حيث تحتضن الكويت معرضاً لمقتنيات معهد العالم العربي القادمة من باريس وكأنها بذلك تثبت مجدداً أنها عاصمة الثقافة العربية قاطبة بمجالاتها وجنسياتها القطرية.

وبين الأمس الثقافي في الكويت واليوم خيوط محبوكة النسيج ومزخرفة كما الواقع الثقافي، فمنذ أكثر من عقد ونصف العقد، كانت الخطة الشاملة للثقافة العربية التي تطلعت إلى الواقع واستشرفت آفاق المستقبل الذي نعيش جزءاً منه.

إنه واحد من عشاق التراث الشعبي، ليس في الكويت فقط، ولكن في كل بلاد الخليج العربي، التي عاش أهوال بحرها وعانى من شظف أرضها.

أحمد البشر الرومي أحد رجالات الكويت القدماء، أسهم في البحث عن تراث بلده باحثاً في تاريخها وماضي ما يجاورها من بلدان الخليج العربي، والجزيرة العربية. حرص على كل كتاب قرأه حتى حوت مكتبته قرابة سبعة آلاف كتاب بخلاف المخطوطات وكتب التراث التي جمعها، وكانت حجته ومنارته في كتابه الكبير الذي حمل اسم: (الأمثال الكويتية المقارنة) ولقد حمل كتابه في الأجزاء الأربعة التي صدرت 2293 مثلاً شعبياً مع ما يقابلها من الأمثال في البلاد العربية.

كان كاتباً وشاعراً في مناسبات بلده، بالإضافة إلى دوره الإيجابي في جمع المصطلحات البحرية وشرحها وإعدادها في كتاب كان في طريقه إلى النشر قبل وفاته. كان يسعى طوال سنوات عمره للقاء كل بحار قديم - نواخذة - ليسجل حياته وتجاربه، والمخاطر التي اعترضت حياته بحثاً عن اللؤلؤ في أعماق الخليج. ولد أحمد البشر الرومي في عام 1324 هجرية، وتوفي عام 1402 هجرية، وكان مشوار حياته جزءاً من تاريخ الكويت عن أصالة واقتدار.

(إن الباحث في أعماق التاريخ إنسان صابر وصبور، صابر على المشقة التي يعرف قدرها ومقدارها، وصبور وهو يبحث عنها حتى يصعد بها فوق السطح، ليقوم بتحويلها إلى حقيقة تُعينه أو تكون سنداً له في بحثه أو الدراسة التي يقوم بإعدادها). هذه الكلمات كان يرددها على أسماعي المؤرخ الكويتي الراحل الأستاذ أحمد البشر الرومي كلما جلست معه في أيام الجمعة التي كان يفضلها على سواها من الأيام الأخرى. كانت الجلسة الواحدة تتعدى الساعتين وربما زاد عددها لتصل إلى ثلاث ساعات داخل مكتبته التي كانت تحوي 7 آلاف كتاب ومخطوط.

كان يقول أيضاً في صوت خافت متماسك الألفاظ وواضح المعاني: (إن تاريخ العرب، والبحث في هذا التاريخ يحتاج إلى دقة ورقّة في آن واحد، دقة في ربط الفروع بالأصول، ورقّة في التعبير حتى لا يتحوّل الباحث إلى مجرد ناقل للوقائع والشروح، دون معرفة أسبابها ومسبّباتها، وما إذا كان صاحب الحديث أو الواقعة أو الرواية من أهل البادية أو الحضر. إنه كثيراً ما نرى مؤلفاً أو راوياً من أهل الحضر يتطرق إلى أمور أو موضوعات وحوادث لا يملك ناحية المعرفة الحقة فيها غير واحد من أهل البادية).

أمثال شعبية

لم يكن الراحل أحمد البشر الرومي مجرد قارئ يردد ما جاء في قديم الكتب، ولكنه كان في الوقت ذاته يملك المنهج التحليلي، الذي يقيس بواسطته مدى تطابق الأقوال على الواقع والحقيقة. هذه النظرة، وتلك الملكة جعلته يصل إلى حقائق ثابتة لا تقبل الجدل أو النقاش. لقد عُرف عن مؤرخ الكويت الراحل أحمد البشر الرومي، أنه يدوّن كل معلومة يسمعها مادامت مرتبطة بتاريخ بلده الكويت. قال لي مرة في إحدى جلساتي معه: (لقد جمعت قرابة ثلاثة آلاف من الأمثال الشعبية التي تخص الكويت على مدى (40) سنة، جمعتها في أربعة أجزاء تحت عنوان: (الأمثال الكويتية المقارنة). صدر منها الجزآن الأول والثاني)، وشاء القدر أن تصعد روح أحمد البشر الرومي إلى خالقها في يوم الأربعاء الموافق (6) من يناير عام 1982 قبل أن يصدر الجزآن الآخران، فقد صدر الجزء الثالث بعد وفاته بأيام قليلة، أما الجزء الرابع فقد صدر في عام .1984

ويقول الراحل أحمد البشر الرومي: إن جمع هذه الأمثال الشعبية الكويتية له حكاية، والإعداد لنشرها بصورتها الحالية له حكاية أخرى، ويواصل حديثه قائلاً: كان الكويتي أيام زمان يُقرن حديثه ببعض الأمثال الشعبية التي ترتبط دائماً بالحديث المطروح للنقاش، أو بالحديث العابر بين الصديق وصديقه، أوالأب وابنه،أو البائع والمشتري، أو بين الرجل - الساكن - وجاره، أو بين صاحب العمل وأحد عمّاله. في بعض الأحيان كانت الأمثال التي تُقال يمسُ بعضها عقلي، والبعض الآخر يهز كياني، وأجدني أحضر القلم والأوراق التي لم تكن تفارق جيبي أو محفظتي الجلدية الكبيرة، وأقوم بتدوين ما أسمع ويثير إعجابي. كان إحساسي أن ما أسمع شيء غير عادي، لقد اعتبرته مخزوناً ثقافياً واجتماعياً لابد من تسجيله لأنه يُعبّر عن نوع حياة الناس وطبيعة المجتمع الذي عاشه الآباء والأجداد، وكم كانت الحياة صعبة وجافّة.

يقول مؤرخ الكويت الراحل أحمد البشر الرومي: (وصل الأمر بعد ذلك أنني كنت أتنقّل وسط الديوانيات، وذهبت داخل الأسواق داخل الكويت وخارجها، وعبر الوقت والسنين، خفت من ضياع الأوراق التي كنت أدوّن فيها الأمثال، فأعدت جمعها في أكياس كبيرة من الورق. ولما اشتد خوفي أكثر بدأت في تدوينها في كراسات على حروف المعجم. إنني أذكر أن بداية التدوين كانت في صيف (1361) هجرية. وانتقلت إلى نوع آخر من التدوين، دوّنت كل مثل شعبي في صفحة مستقلة ترتيباً معجمياً، ثم جمعت الصفحات في مجموعات، وكل مجموعة تضم الأمثال الواحدة في المعنى أو المضمون، وكنت أضع شروحاً لبعض الألفاظ في نهاية المثل حتى يجد القارئ العصري معنى الكلمة الغامضة داخل المثل، ووصل الحال أنني جمعت حوالي ثلاثة آلاف من الأمثال الشعبية الكويتية).

وحول الظروف التي ساعدت على نشر الجزأين الأول والثاني، وإعداد الجزأين الثالث والرابع من موسوعة الأمثال الشعبية الكويتية، قال لي وأنا أسجل أجزاء عدة من مشوار حياته:

(في أحد الأيام، كنت في زيارة الأستاذ أحمد العدواني - الذي كان يشغل منصب الأمين العام للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وكان شاعراً وأحد روّاد النهضة الأدبية في الكويت - وكان الأستاذ صفوت كمال خبير الفنون الشعبية حاضراً هذه الجلسة. قال الأستاذ العدواني في حماس شديد وهو يربت بيده فوق كتفي: (لماذا لا تقوم بتدوين هذه الأمثال الشعبية الكويتية التي نعتبرها جميعاً تراثاً خالداً للكويت؟ ولماذا في الوقت نفسه لا تقوم بإعدادها ونشرها في أجزاء عدة؟ ودفعني حماسه لمشوار طويل ومُضن في جمع الأمثال الكويتية وترتيبها. ولقد زدت على المألوف في جمع وتدوين الأمثال الشعبية في الأصل العربي القديم وفي غالبية الدول العربية).

يواصل أحمد البشر حديثه: كان الأمر شاقّاً بلا حدود، وكان صعباً في الوقت ذاته، ولكن لذة البحث والحصول على المطلوب كانا يخففان من ذلك العناء. كان الرأي الذي استقر عليه اختياري وموافقة العديد من الأصدقاء أن نطلق عليها: (الأمثال الكويتية المقارنة).

شاعر وكاتب

وهناك وجه آخر لمؤرخ الكويت أحمد البشر الرومي، قال الشعر، ونظمه، ورغم ذلك كان قليل الإنتاج، ونقرأ ما قاله المؤرخ الأستاذ عبدالعزيز الرشيد، في كتابه (تاريخ الكويت) عن أحمد البشر الرومي. قال: كان يعشق قراءة الصحف والكتب وينزلها من نفسه وقلبه وعقله مكانة عالية. ولقد جاء في كتاب (تاريخ الكويت) في الصفحة (356) ما يلي:

(تعلق الكويتيون بأذيال الصحف، وانشغالهم الدائم بمطالعتها والاهتداء بنبراسها، وللصحف من التأثير في الآراء والأفكار ما لا يجهله إلا معاند أو جاهل مُكابر، ولله در الشاب الفاضل أحمد بن بشر الرومي حيث يقول في منافعها:

إنما الصحف كطير

يشتهي الحر هديله

كل مَن شاء رقيا

صير الصحف سبيله

وإذا كان نظم الشعر موهبة، فإن سبب تقوية هذه الملكة وإبرازها إلى حيّز الوجود عند الراحل مؤرخ الكويت أحمد البشر الرومي، كان شاعر الكويت الكبير الراحل صقر ، أو صقر بن سالم بن شبيب بن مزعل بن هيديب بن رومي الشمري، الذي وُلد في الكويت حوالي العام 1324 هجرية الموافق 1896 ميلادية. أصيب بالصمم وفقدان البصر على إثر إصابة عينيه بمرض لم يفلح معه العلاج، وكان عمره آنذاك تسع سنوات.

والسؤال: ما حكاية شاعر الكويت الكبير صقر الشبيب مع مؤرخنا الراحل أحمد البشر الرومي؟

الجواب تجده في كتاب أديب الكويت وشاعرها الأستاذ خالد سعود الزيد، تجد ذلك في كتابه: (أدباء الكويت في قرنين)، قال في الجزء الأول: كان منزل شاعر الكويت صقر الشبيب يجاور منزل أحمد البشر، فكان يلزمه إلزاماً بأن يقرأ له، وكان صقر كفيف البصر، فقرأ له أحمد البشر (نظرات المنفلوطي وعبراته)، وبعض كتب الرافعي، فوجد لذّة في القراءة، فحرص عليها بعد أن كان كارهاً لها، ثم قرأ لصقر ديوان المتنبي وأيضاً المعري وغيرهما، فوجد نفسه مع مرور الأيام يحفظ أكثر من عشرة آلاف بيت من الشعر، وبعدها انكبّ على قراءة الكتب في التاريخ والفقه والأدب، قديمه وحديثه، ثم انصرف بعدها إلى قراءة تاريخ الجزيرة العربية، والمنطقة التي تشملها حدود الكويت، على الأخص، متتبعاً عادات سكان المنطقة وأفراحهم وملبسهم، فدرس تاريخ البيئة كاملة دراسة وافية تدلك على ذلك بحوثه ومقالاته التي كان ينشرها بين حين وآخر.

أثر الشبيب

ونترك الآن الحديث لمؤرخ الكويت الراحل أحمد البشر الرومي ليتحدث عن أهمية صلته بشاعر الكويت الراحل صقر الشبيب، وعن أثر هذا الشاعر الكبير في حياته يقول: (تلقيت دروسي الأولى في كتّاب المطوع السيد عبدالوهاب هشام الحنينان، كان المطوع (الملا) هو المعلم الأول في زماننا، وكان الكُتّاب هو المكان الذي نتعلم فيه، وهو في غالبية الأحوال منزل المطوع أو الملا. كنا نجلس مجموعة من الأطفال الصغار، نتعلم القراءة والكتابة، وحفظ آيات القرآن الكريم، ومَن يجيد القراءة والكتابة وختم القرآن تقام له حفلة يشترك فيها الأهل والأطفال، الموسرون كانوا يقيمون حفلة يوزعون فيها أطايب الطعام على المطوع والأطفال والجيران منذ طفولتنا، كانت صلتنا بالدين قوية، نخشى الله في الأقوال والأفعال، ونحرص على السلوك الحسن خوفاً من عقاب الآباء والأمهات والأهل الذين كانوا يحرصون على دينهم إلى أقصى الحدود).

قال لي الراحل أحمد البشر الرومي مواصلاً حديثه: (هذه كانت المرحلة الأولى من حياتي، بعد ذلك التحقت بالمدرسة المباركية بعد افتتاحها، وأمضيت بها ثلاث سنوات، لم أكن أبداً طالباً مشاكساً، ولم أكن أهتم بالمواد التي كانت تدرّس بالمدرسة، كانت تستهويني كتب التاريخ والجغرافيا، أحياناً كنت أنقطع عن الدراسة، ولكنني كنت أعود إليها من جديد إما بواسطة والدي - رحمه الله -، أو دون أحد، لأن أيام الانقطاع لم يكن لها حساب من المسئولين عن المدرسة.

لقد جمعتني الظروف مع الشاعر الراحل صقر الشبيب، كان إحساسي وشعوري أنني أمام إنسان غير عادي، إنسان عنده قدرة كبيرة على العطاء، ولكنه كان في أشد الحاجة إلى المخلصين الذين يبادلونه الحب والمودة، ولا مانع من التضحية.

لقد انجذبت إلى الشاعر الكبير لأسباب عدة منها: أولاً: أنني مع إنسان في عمر والدي - رحمه الله -، وثانيا:ًأنه غير قادر على الرؤية، وثالثاًً: وجدت في الجلوس معه والاستماع إليه وإلى زوّاره من الأصدقاء، فائدة لم أكن أتصوّر أبداً أنني سأحصل عليها دونه. ومن الذين كان يزورهم ويتزاورون معه صديقه الحميم عبدالملك بن صالح المبيض الذي كان يقرأ على شاعرنا الكبير (صقر) حصاد قراءاته في الجرائد والمجلات والكتب. لقد كان شاعرنا وصديقه (عبدالملك) يعنيان أكثر بالكتب الفلسفية والآراء التي جاءت بها. خلال هذه الفترة، لم أكن أتدخل في أي حديث مع زوّار الشاعر صقر الشبيب أو أشارك بالرأي معهم. كان اقتناعي أن دوري لم يحن بعد، وأن ما حصلته لا يؤهلني للمناقشة معهم).

الأمر لم يقف عند هذا الحد بالنسبة لمؤرخنا الراحل أحمد البشر الرومي الذي عرفته في السبعينيات، واستمعت إلى شريط حياته في مكتبته التي كانت عشقه الأول بما تحويه من أمهات الكتب والمعاجم وكتب التراث والخرائط والمكبرات ومئات التسجيلات لرجالات الكويت القدماء، والأحياء من النواخذة - بحارة صيد اللؤلؤ - وغيرها كثير جدا. قال لي ضمن حوار طويل:

(كان الشاعر الراحل صقر الشبيب له دوره في أن أتعرّف عن قرب على فحول الشعراء القدماء، بما كان يردده أمامي من أشعارهم، وبما كان يطلبه مني من أن أقرأ له تاريخ حياتهم وأشعارهم من الكتب الكثيرة التي كانت توجد في بيته أو تأتيه من الأصدقاء كديوان أبي تمام الذي كان يحفظ غالبيته، ويحفظ أيضاً أبياتاً بالمئات وربما أكثر من ديوان البحتري، وأكثر لزوميات المعري، ونصف ديوان المتنبي، وجميع ما طبع لابن الرومي، بخلاف حفظه أشعار العديد من الشعراء في العصر الجاهلي، والعصرين الأموي والعباسي. كنت أراه دائماً يحرص على ترديد أشعار أمير الشعراء أحمد شوقي الذي كانت له منزلة أثيرة عنده، كذلك أشعار الزهاوي والرصافي واسماعيل صبري. أما الشاعر المصري الكبير حافظ إبراهيم الذي عُرف برصانته، وميله الفطري للوقوف بجانب الطبقة الكادحة، فكان يحبه - بل يعشقه - ويردد شعره.

لقد وجدتني بالتدريج أحب الشعر، وأميل إليه، وفي أحيان قليلة كنت أقرض شعر المناسبات كالأعياد وشهر رمضان، أو الدعوة للأخذ بأساليب الحضارة الحديثة مثل: التعليم بأنواعه المختلفة، والتشجيع على القراءة مع الاطلاع على الحضارات المختلفة، وأن ننهل بما يتوافق مع البيئة والمجتمع والدين الإسلامي).

رؤى وقضايا

عاش أحمد البشر الرومي عمره كله منذ صباه حتى شيخوخته (77 عاماً) قارئاً وباحثاً ومؤرخاً وكاتباً وشاعراً. وبعد هذه الرحلة من الأيام والشهور والأعوام، كانت له أقوال خالدة لأنها كانت تعبيراً صادقاً عن عمق ثقافاته، ومضمون كل الرؤى التي تبلورت حول العديد من القضايا التي كان يختزنها داخل عقله، وهي في مضمونها أضواء وعلامات خضراء تنير الطريق لأجيال الحاضر التي سيكون لها الريادة في المستقبل.

كان دائماً يردد ويقول: الديوانية في الكويت بوجه خاص والخليج بوجه عام عبارة عن منتدى إنساني واجتماعي وإعلامي يجب أن نحافظ عليها ونحرص على طقوسها، ونعمل على بقائها واستمرارها، ونعيد إليها رونقها وبريقها ودورها ومكانتها كما كانت في الماضي.. على سبيل المثال لا الحصر، كانت هناك ديوانيات متخصصة، منها ما كان يهتم بالأدب والشعر، ومنها ما كان متخصصاً في علوم الدين، ومنها ما كان الحديث بداخلها لا يفرغ أو ينتهي من سرد حكايات الرحلات والأسفار ونوادر ومتاعب ومشاكل الغوص واستخراج اللؤلؤ من مياه الخليج.

وبخلاف ذلك، كان هناك ديوانيات يغلب على طابعها عقد مجالس الصلح بين الأزواج والتوفيق بين الزوجين المتنافرين المتخاصمين، كذلك كانت خلافات العمل والتجارة تجد الحل داخل هذه الديوانيات. وأذكر تماماً أنه كانت توجد ديوانيات يقوم روّادها فقط بالقراءة، قراءة كتب التراث الخليجية والعربية، والكتب التي ترد إلينا من مصر، وأذكر منها: ديوانية السيد خلف النقيب، وديوانيات عبدالرحمن بك النقيب، وقبلها خلف باشا النقيب، والشيخ يوسف بن عيسى القناعي أحد أقطاب الحركة العلمية والأدبية في الكويت، وكانت هناك أيضاً ديوانية عبدالله بن خلف الديحاني، وديوانية مشاري حسن البدر، وأذكر العديد من الديوانيات التي كانت موجودة في الحي القبلي وحي الوسط وأيضاً الحي الشرقي.

ويقول أحمد البشر الرومي عن التاريخ، إنه في منطقة الخليج بوجه عام والكويت بوجه خاص، مازال يحمل لواء الكتابة عنه أناس (من غير أساتذة الجامعة الكويتية والكُتّاب) غير كويتيين، وقد تركزت كتاباتهم على الجانب السياسي بالدرجة الأولى ومعظم هذه الكتابات منقول عن كتب تم تأليفها باللغة الإنجليزية، ولذلك جاء الجانب الاجتماعي والثقافي في تاريخ الكويت غير مُُكتمل بخلاف بعض الأخطاء في مسمّياتها وأسمائها، الأمر الذي أعطى معاني ومدلولات مغلوطة، مثل الخطأ في معرفة ونقل أسماء بعض الشوارع والمواقع، ومن هنا ضاعت الحقيقة وتشوّهت الحقائق.

وكان أحمد البشر الرومي ينادي دائماً بضرورة الاهتمام بالتراث في منطقة الخليج وخاصة في الكويت، كان يطالب بالبحث عن القدماء من رجالات الكويت، ورجالات الغوص لتسجيل ماضي الكويت من خلال ذكرياتهم عن العادات والتقاليد التي بدأت تندثر مع التطور واتساع مساحات العمران، والأبنية الحديثة، وانتشار حضارة جديدة ساعدت في بناء قواعدها جامعة الكويت وكل تخصصات كلياتها المتعددة. وقد طالب المرحوم أحمد البشر الرومي في أواخر سنوات عمره، الجامعة بإنشاء دائرة بحث أساسها إنشاء مكتبة تسجيلات بالصوت والصورة لجميع رجالات الكويت، وتسجيل المعلومات من جميع وسائل الإعلام المقروء والمسموع والمرئي والاهتمام بتصحيح الأخطاء فيها، وصولاً إلى مكتبة علمية للتراث الكويتي.

وطالب أحمد البشر الرومي بالاهتمام الشديد بما يسمى بالمقاهي الشعبية في الكويت، وأكّد أن وجودها ضروري، واهتمام الدولة بها يجب أن يستمر مع حل مشاكلها - إن وجدت أي مشاكل - وطالب الأسرة الكويتية بالارتباط بهذه المقاهي وذلك بأن يصطحب ربّ الأسرة أولاده الذكور إلى هذه المقاهي من حين لآخر، وتسهيل وصول الأجداد الأحياء إلى تلك المقاهي لرفع درجة أهميتها واستمرار وجودها.

وكان أحمد البشر الرومي يطالب القائمين على التعليم في المرحلتين الإعدادية والثانوية، وفي الجامعة الكويتية بضرورة ربط البيئة الكويتية بالمجتمع، وتشجيع عمل الدراسات الأكاديمية ودرجات الماجستير والدكتوراه حول الكويت في الماضي والحاضر والمستقبل وكيف يتم الربط بينها جميعاً.

أمانة المؤرخ

الشيء اللافت للنظر في بيت المرحوم أحمد البشر الرومي مكتبته التي كانت تضم قرابة سبعة آلاف كتاب، تحوي جميع التخصصات، وإن كانت غالبيتها تهتم وتتخصص في التاريخ القديم والحديث، وبعضها في الأدب والشعر، وبعضها الآخر في الفلسفة والمال والاقتصاد بخلاف بعض الموسوعات العامة والخاصة، وفي المكتبة بخلاف ذلك مجموعة نادرة من كاميرات التصوير، وآلات التكبير وخرائط في أحجام مختلفة للعالمين العربي والإسلامي، والكويت منذ مئات السنين.

كان - رحمه الله - يمتاز بالرقة والحساسية، وكان يأنس بشدة للإنسان الصادق، وهذه الصفة تجعل - حسب قوله - الباحث دقيقاً في عمله، الأمر الذي يفيد الإنسان والناس والعمل ذاته، وكان - رحمه الله - قليل الكلام إذا جلس مع غريب يعرفه أول مرة، هنا كان يأخذ ولا يعطي، وكان لا يسترسل في حديث إلا إذا تمكن من معرفة مفاتيحه، وخطوطه العامة والخاصة، وكان إذا تحدث عن الماضي يُضمن حديثه المعلومات والأرقام التي تُثرى المادة التي يتحدث فيها.

لقد كانت رحلة المؤرخ أحمد البشر الرومي شاقة منذ بدايتها لأنه اختار مجال القراءة والبحث في التاريخ والأدب والشعر وتأثير البيئة في هذه المجالات الثلاثة. لقد كان - رحمه الله - ناسكاً في محراب التاريخ الذي عشقه وأعطاه عمره. وكانت جائزته من التاريخ أنه عرف الكثير من ماضي الكويت.

المؤرخ أحمد البشر الرومي في سطور

-وُلد العام 1905 ميلادي الموافق العام 1324هجري. وتوفي العام 1982 ميلادي الموافق العام 1402 هجري.

-درس في الكُتّاب الذي كان يديره ويشرف عليه (الملا) أو المطوع الذي كان يقوم بتحفيظ الصبية القرآن الكريم والقراءة والكتابة.

-درس في المدرسة المباركية.

-قام بالتدريس في المدرسة المباركية لسنوات عدة، ثم انتقل للتدريس بالمدرسة الشرقية.

-عُيّن أمين صندوق في الجمرك البحري.

-عضو منتخب في مجلس المعارف العام 1952 ميلادي.

-شغل وظيفة مدير أملاك الحكومة في البلدية.

-وصل إلى درجة وكيل وزارة مساعد في إدارة أملاك الحكومة.

-تقاعد العام 1968 بسبب إصابته بالسرطان في عظام الفك الأيسر، وقد أجريت له عمليات جراحية ناجحة عدة.

-عضو بلجنة كتابة تاريخ الكويت.

-من الأعضاء المؤسسين لمركز الفنون الشعبية الذي عُني بالتراث الكويتي.

-كان خبيراً في أعمال الغوص والبحر، فاستعانت به المحاكم، فأعطى المشورة والرأي الصائب في هذا المجال.

-صدر له كتاب (الأمثال الكويتية المقارنة).

-نشر العديد من المقالات في مجلة البعثة العام 1952، ثم جمع هذه المقالات في كتاب بعنوان: (مقالات عن الكويت).

-صدر له كتاب (معجم المصطلحات البحرية في الكويت).

-قام بإعداد العديد من الأبحاث حول صحراء الخليج والجزيرة العربية والكويت.

-توفي يوم الأربعاء الموافق 6 من يناير .1982

 

محمد عبدالحميد

 
 




أحمد البشر الرومي





أحمد البشر الرومي