بندر عباس.. إطلالة إيران على الخليج أنور الياسين تصوير: سليمان حيدر

بندر عباس.. إطلالة إيران على الخليج

إجابة جديدة عن سؤال قديم

على الشاطئ الآخر لخليج كان النخيل هو النخيل، وفيروزية المياه هي نفسها، وملامح الوجوه قريبة. فلماذا طالت بنا الرحلة إلى بندر عباس؟ رغم أن المسافة لا تعدو كونها عبوراً من شاطئ إلى شاطئ، وانتقالا من ظل نخلة هنا إلى ظل نخلة هناك؟ ذلك هو السؤال الكبير بين شاطئي الخليج. ولقد طرنا، وأبحرنا، ومشينا طويلا ، لنقترب من إجابة جديدة عن ذلك السؤال القديم.

في الطريق إلى بندر عباس كنا مضطرين إلى الخروج عن القـاعـدة التي تقـول إن أقصر مسـافـة بين نقطتين هي الخط المستقيم، وبـدلاً عن الإبحـار من شـاطىء الكـويت إلى شاطىء إيران الجنـوبي الشرقي (حيث تقع بندر عباس)، وحيث يكون الخط مستقيما والمسافة أقصر. فـإننا طرنا شمالا إلى طهـران، ومن الشمال عاودنـا الطيران جنـوبا وشرقـا باتجاه نقطـة الهدف. وهكـذا تحول الخط المستقيم إلى خطين يفـوق طـولهما ضعف المسـافـة الأقصر، ويصنعان زاوية لمثلث يظل ضلعه الثـالث ضـائعـا في ميـاه الخليج، وفي قلب المثلث تتـوالى الأسئلة المتوجسة وترتسم علامات الاستفهام.

طهران .. ولم لا؟

قبل أن تهبط الطائرة في مطار طهران حومت حول المدينة التي يظـاهرها جبل " البورز" المكلل بـالثلوج، وكنت أفكـر في احتمال مناسبة الثياب التي نرتديها للمنـاخ في هذا الـوقت الشتـوي، لكن الـدليل السيـاحي الأوربي الذي توفـر لي كان يتحـدث عن الثياب اللازمة للمسافر إلى إيران من وجهة نظر أخرى تمامـا غير دفعها للـبرد أو جلبها للدفء، ففي بـاب "الملابس " كـان الـدليل يقول: "منـذ لحظـة دخولك إلى إيران عليك بمراعاة التقاليد الصـارمة لارتداء الثياب فيها، فإن خروجك على هذه التقاليد عند أي نقطة في رحلتك ربـما يعرضك لمساءلة قاسية. فالنسـاء عليهن ارتداء حجاب يغطي الشعر ويؤطر الوجه، والثـوب ينبغي أن يكون ضـافيا ولا يظهر شكل الجسد ولونه أزرق داكن أو أسود وتحته بنطال طويل. أما الرجال فإن عليهم ارتداء بناطيـل طويلة دائما وقمصـان ضـافيـة طويلـة الأكـمام. ورغم أن الملابس الريـاضية شـائعة بـين الشبـاب إلا أن  الشعر الطويل لن يكون مرحبا به أبدا".

انتهيت من قراءة ذلك التحـذير فـانفجـرت في الضحك، من ناحيـة لأنه مليء بالوجل، ومن ناحية أخـرى لأن الشتاء لم يكن الفصل المناسب لاختبار حقيقة ذلـك التحذير ولأنني وزميلي المصـور لم نكن من هواة إطالة الشعر على أي حال.

هبطت الطائرة وبينما كنا ننتظر حقائبنا التي تأخر وصـولها بعض الشيء حانت مني التفاتة إلى جـاري الذي كـان أوربيا، ولما قرأ نظرات التساؤل في عيني ضحك قائلا "ولم لا؟ "، فابتدأ حـديثنا الذي أوقفني فيه على رأيه الـذي كونـه بعـد زيارات متعـددة إلى إيران، قـال: "هناك ثوابت إيرانيـة رغم التغيرات السياسية والاجتماعية البارزة بعـد قيام الجمهورية الإسلامية. فالخلاف مع بعض الحكومات الغربية لا يحرم الضيف الأوربي في طهـران من مـودة النـاس وحسن ضذذيافتهم التقليـدية في إيران. كـما أن المسلمين لـديهم قـدرة كبيرة على احترام المعتقـدات الـدينيـة لغيرهم، بل حتى السياسية أيضا".

لقد ملأني هذا الحديث العابر بنفحة من التفاؤل، ليس لأنـه كـان مفاجأة لي، ولكن لأنـه تـلامس مع سؤال ظل ملازمـا لخواطري عنـدما قررت المجلة القيام بالاستطلاع، والسؤال يمكن صياغته في نفس العبارة التي ابتـدأ بها الحديث جاري الأوربي العابر في مطار طهران "ولم لا؟ ". نعم، ولم لا يكـون بحثنا عن الثوابت الإنسانية رغم أي اختلاف، ولم لا نؤكد على المشترك أكثر من التفاتنا إلى الفاصل والفارق؟!.

ولم لا، فالعرب تقول: "ليس من رأى كمن سمع "، وقد كنـا ذاهبين للسماع وللرؤية معا. وعندما لم نجد في استقبالنـا أحدا من المسئولين الإيرانين اعتبرنا هذا فألاً حسنا كـما في عرف الصحافـة، حيث ينبغي أن تكـون المراقبة خفيفة لتتسع مساحة الحرية في الرؤية وفي السماع. ذكرت ذلك ونحن في سيارة القائم بالأعمال الكويتي في إيـران السيد "نـاصر المطيري " بينما كنا نخترق شوارع طهران باتجاه الفنـدق، فرد السيد المطيري قـائلا: "ما تسمعونه عن الوضع داخل إيران يختلف تماما عن الواقع وسوف تشـاهدون وتلمسون ذلك بأنفسكم، فـالحيـاة تختلف عما تتناقلـه وكالات الأنباء ... الناس يعيشون في هدوء وكل شيء متوافر".

كـانت مظاهر الزينة بادية في الشوارع رغم زحف المساء عليها، فقد تصادف أننا حللنا بطهران بينما إيران تعيش احتفالات "عشرة الفجـر" إحياء لمرور خمسة عشر عاما على انتصـار ثـورة الإمـام الخميني، وهذه الأيـام العشرة تمتد مـن اليوم الثاني حتى اليوم الحادي عشر من فبراير. ولقد عايشنا في مطلعها- صباحا- حادث إطلاق النـار على الرئيس رفسنجـاني في مستهل مراسم عشرة الفجر التي حضرهـا مئـات الآلاف في مرقـد الإمام الخميني، وقد بدت أصوات الأعيرة النارية التي انطلقت من الجانب الغربي للميدان خافتة وضائعـة بينما رئيس الجمهورية يلقي خطابه عبر مكـبرات صوت عديدة تحمل صوته على خلفية من أصوات الحشود الغفيرة مما طمس إلى حـد بعيـد صـوت تلك الطلقات، ولولا الحركة السريعـة الهادئة لحراس رفسنجاني الذين أزاحوا بشكل يكـاد لا يكون ملحـوظا رئيس الجمهورية عن مكانـه خطوة أو خطوتين وبرهة خاطفة من الزمن أو برهتين ... لـولا ذلك الحراك لبـدا أن صوت الرصـاص كـان مجرد إطـلاقـات احتفـاليـة عابرة. ورغم ذلك فقد واصل رفسنجاني إلقاء خطابه بطمأنينـة عجيبة فيما علمنـا أن مطلق الـرصـاص قبضت عليـه الجماهير إذ إن حشود الناس بمجرد أن أخرج الـرجل المسلح مسدسه من تحت ثيابه أمسكت بيده ووجهت فـوهة السلاح الذي كان من نوع مسـدس قصير المدى نحـو الأعلى ومن ثم انطلقت الرصاصات الأربع لتصيب سقف الحرم ثم اقتيد الرجل إلى خـارج المكان حيث قبضت عليه قوى الأمن. ولم يستغرق الامر كثيرا، إذ سرعان ما رددت الحشود بعض الهتافات واستمر رفسنجاني في إلقاء خطابه.

لم يترك حـادث إطلاق النـار أثراً ملموسا على إيقاع الحياة في طهران التي انطلقنا في رحابها وبين أركانها، لكن صوت الطلقـات كان له صدى يرن في أفق فكرة راحت تتكـون لدينـا عن إيران التي بدأنـا نراها ونسمع منها ونحن داخلها، ومحور هذه الفكـرة أن إيران من الداخل ليست "دوجما" معتقدية واحـدة صماء، فهي بلد كبير يحمل إرثا تاريخيا عريقـا وعميقا ومن ثم فإن التنوع والاختلاف أمور واردة في التركيبة الإيرانية.

الثابت والمتغير

كان البرد يمسك بأنفاس طهران في ذلك الوقت من أيام شهر فبراير التي صادفت فترة زيارتنا، ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإن هذا الـبرد لفت انتباهنا إلى معنى الاسم الـذي تحمله العاصمـة "طهران " (أو بالفارسية: تهران)، وهو يتكـون من كلمتين "ته " بمعنى ساخن و"ران" بمعنى مكان، وعلى هذا فإن اسم طهـران يعني: "المكـان الساخن " إشارة إلى موقعها الجغرافي ذي المنـاخ الحار. لكننا لم نلمس وقت زيارتنا غير برد المناخ في طهران. ورغـم هذا البرد فقد كـان لافتا لأنظارنا الزحام الذي تتميز به المدينة، والذي فسره مرافقنا بأنه راجع إلى أن المدينة قفز عدد سكانها مـن ثلاثـة ملايـين إلى قـرابة عشرة ملايين خـلال عقدين فقط من الـزمان. وفي الزحام استطعنا أن نميز ملامح غالبة على المدينة. فأبنيتها لا ترتفع كثيرا، لهذا تبدو غير ساحقة لروح المتجـول فيها رغم ترامي أطرافها تصعد شوارعها وتهبط بينما الشجر الـذي عراه الشتاء من الخضرة  يصطف داكنا على الأرصفـة وبين البيـوت التي تبين على امتـداد البصر بسيطة فـاتحة الألوان وكـأنها منمنمات مزدحمة في سجادة إيرانيـة مفروشة تحت أقدام سلسلـة جبال البـورز التي تكـون الحائط الشمالي للمدينـة وتهيمن على البصر بقممها المشرئبـة وسط السحب وكيـاناتها المكسوة بالثلوج. ولقد تسنى لنا الإطلال من قرب على جبل "دمـاونـد" الـواقع في شمال شرق طهران والبـالغ ارتفـاعـه 5678 مترا ويعتبر من أجمل المرتفعات الجبليـة التي رأيناهـا ضمن سلسلـة جبال "البورز". أما السيارات في شوارع طهران فإن أرتالها تمضي في غير سرعة وتزدحـم بها الشوارع الجانبيـة. والمشاة من الرجـال لا يختلفون كثيرا عن أمثالهم في مدننا العربيـة المعاصرة غـير أن ربطات العنق تعتبر ملمحا ملغيـا تماما من الصـورة. أما النسـاء فأنهن في الشوادير الداكنة الضافية يمضين دون أن تظهر منهن غير الوجوه والأيادي. تبدو هذه الصورة غير مألوفة بعض الشيء في البداية ، لكن بعد فترة تعتادها العين وتتحـول إلى ملامح مألوفـة فينصرف الانتباه عنها باتجاه ملامح أخرى في العمارة والأسواق والمتاحف والمزارات ، ونجـد أنفسنا مرة أخرى أمام حـديث الثابت والمتغير... وكان لابد أن يتطرق الحديث  إلى منحى سياسي، فهذا أهم المتغيرات منذ العام 1979 عام تغيير النظام الإيراني الشـاهنشـاهي إلى نظام جمهورية إيران الإسلامية.

في مقابلـة بوزارة الخارجية الإيرانيـة كان اللقاء وديـا مع السيـد نوبري مديـر الإعلام بوزارة الخارجية. وقال ضمن ما قاله إنه كـان ضمن الوفد الإيراني في جولة وزير الخارجية بدول الخليج، حيث عاد الوفد بانطباع جيد وإدراك أن القيادات في منطقة الخليج تتمتع بروح المودة والمسئولية تجاه نمو وتطور العلاقـات الخليجية الإيرانية. وتحدث عن العيش بمحبـة بين الإنسـان وأخيـه الإنسان في المنطقـة كمدخل للاستقـرار. كـما أكـد أن بعض تخوفـات الشارع العـربي من إيران ناتجة عن أجهزة الدعاية، وأكد أن أمن المنطقة مرهون بإرادة أهل المنطقة، وأن إيران مستعـدة لتوقيع اتفاقات أمنيـة مع دول المنطقة كافة. أما عن مسألة التسلح فقـد بررها السيد نوبري بسببين أولهما الرغبة في وصول الجيش الإيراني إلى مستـواه السابق (زمن الشاه) وثـانيهما أن التسليح تحكمه أهداف دفاعية.

ولم لا؟ هذا ما خرجنا بـه من مبنى وزارة الخارجية إلى شوارع طهران، آملين أن تكون روح المودة حقيقة هي رسول السلام، الذي يدعو إلى استقرار إنساني وحضاري، حول هذا الخليج الـذي اكتوى كثيرا بنيران الحروب.

وحتى نطمئن إلى حقيقة الصـورة كان لابـد لنا أن نبحث عن الملامح الغائبة، عن الشـائع الذي نعرفه، ووجدنا ذلـك في الكاتدرائية الأرمنية التي توجد في شمال طهران على إحـدى قمم "فيلافى". فالـذي يقرأ ويسمع عن إيـران من الخارج يظن أن "الـدوجما" أحـادية الجانب (أو المعتقدية الجامدة) قد أحـالت إيران إلى مكـان لا يستطيـع الآخـرون أن يـمارسوا طقـوس ديـانـاتهم على أرضه. لكننـا وجـدنـا هذه الكاتدرائية التي تم بناؤها عام 1975 تواصل حياتها الروحية المعتادة في حي السفارات الهادىء. ولم تكن مبالغـة من الزائر الغربي الـذي أشـار إلى قـدرة الإيرانيين المسلمين على احترام مشاعر أبناء الديانات الأخـرى. ورغم أن غـالبيـة المسيحيين في إيران من الأرمن إلا أن هنـاك أيضـا اليـونـان الأرثـوذكس والبروتستانت والكـاثوليك ولديهم جميعـا كنائسهم التي لم تغلق أبوابها في عاصمة الجمهورية الإسلامية. لقـد كـان وقـوفنـا عنـد قمـة "فيلافى" في حي السفـارات شمالي طهران، في عمق معنـاه، رغبـة في الإجابة عن سؤال مهم حـول قدرة الـزكيبة الإيرانية الحالية على الاعتراف بحق الآخرين في الاختـلاف، واحـترام عقائدهم، لكن هدفنا الأكثر دقة كان هناك في بندر عباس التي تقطنها أغلبية - أو شبه أغلبية - سنية، ترى كيف تتعامل معهـا الجمهورية الإسلامية ذات الطبيعة الشيعية في إيران؟.

ونزلنـا عن قمـة "فيلافى" معـاودين السعي في طهران قبل أن نغـادرها إلى بندر عباس، وفكـرنا في أننا مـادمنـا قد اختبرنا شيئـا من جـدل الثوابت والمتغيرات، وأدركنـا أن المتغير لم يبتلع الثـابت فيما يخص المعتقد الديني لـدى غير المسلمين، وبانتظار الإجابـة عن الوضع فيما يخص المسلمين السنة، فإننا سمحنـا لأنفسنا بالتجـول على بعض من ثوابت طهران الفنية والثقافية والحضـارية والحياتية ... البازار، ومتحف السجاد، وقصر سعد آباد، ومتحف التاريخ، وقصر الشتاء الثاهنشاهي، ومسجـد سيبا سلار، وصرح الأزادي.. باختصار: طهران ذات التقاليد العريقة، والولع بالحرير، والنقوش الهندسية ، ومطروقات الفضة الصافية، وأطباق الشواء الشهية التي لابـد منها لمواصلة السعي والتجوال ... السعي في رحاب الجمال الإيراني المعتق الذي يمثل الثابت في الثقافة والفن الإيرانيين، والتجوال بين أرجاء المتغير الـذي تمثله شـوارع إيران الراهنة بنـاسها وبيـوتها وحركتها التي بدت لنا آمنة كثيراً على عكس ما يشاع خارجها.

وبعـد أن أنهكنا السعـي والتجـوال، آن لنـا أن نستريح حتى الصباح، فقـد كنا على موعد مع طائرة من طائرات الخطـوط الداخلية الإيرانية لتحملنا إلى بندر عباس، وهي تقلع مبكرا... في وقت الشروق.

طيران مزدوج ... إلى بندر عباس

رحلة الطيران من طهران إلى بندر عباس تستغرق ساعة ونصف الساعة ولأن إيران في معظمها ممتدة فوق منطقة زلازل فإن التضاريس الجبلية التي تظهر من نـافـذة الطائرة تشي بذلك، وكلما اتجهنـا شرقـا وجنوبا تتبدى الصحـراء التي يسمى جزؤها الشمالي صحـراء الملح بينما جـزؤها الجنـوبي يسمى صحـراء الرمـال الكـبرى. ومن ثم فـالأمـاكن المعمورة في الجنـوب هي في حقيقـة الامر واحـات على هـامش صحراء تطل على البحر، والبحر هو الخليج. إذن كنا نمضي من حافـة الجبال الشمالية الـوسطى إلى ساحل الخليج في الجنـوب الشرقي. وبـين نقطـة الإقـلاع ونقطة الهبوط وجدت نفسي مشـدودا إلى تاريخ هذه المنطقة التي نسعى إليها والتي تعتـبر بوابة الخليج من وإلى المحيط الهنـدي. فمن أين يبدأ ذلك التـاريخ الذي كنا نطير إليه؟.

كـالعادة، هنـاك تاريخان... تـاريخ لم يـدونه أحـد وهو يحكي قصة نشوء الحياة وإعمار المكان على أيدي البشر الـذين استوطنـوه. وتاريخ يبـدأ عندما يجيء الغرباء الطامعون في المكان وأهله، وهو تاريخ يدونه الغربـاء، لكنه- مع الأسف- كثيرا مـا يكون المرجع الوحيـد للباحث عن تـاريخ بقـاع كثـيرة من العـالم خـاصـة في الجنـوب والشرق. لهذا لابـد لقـارئه أن يكون ناقـدا وقارئا في وقت واحد. ولقد كـان تاريخ بندر عباس كجزء من تـاريخ الخليج الذي دونه "ج.ج. لوريمر" في مـؤلفه الضخم "دليل الخليج " واحدا من التواريخ التي يكتبهـا الغربيـون عن الجنوب والشرق.

يرى "لوريمر"، أول ما يرى، أن أول الخطى في تاريخ الخليج تؤخذ من بـدء ظهور الـبرتغـاليين فيه سنة 1507 حتى تأسيس الشركـة الإنجليزيـة للهند الشرقيـة سنـة 1600.. فيقول إن الـدول الأوربيـة عرفـت الخليج للمرة الأولى خلال المحـاولات التي بذلها البرتغاليون في القرن السـادس عشر للخلاص من احتكـار العرب (في منطقـة البحر المتـوسط والشرق الأوسط) الوساطة في التجـارة بين آسيـا وأوربا. فقد كـانت التجـارة بين الشرق والغرب تسلك طـريقين رئيسيين هما: طريق البحـر الأحمر ومصر، وطريق الخليج والشام، وكلاهما كـانا تحت سيطرة العرب، وكـانت المشكـلات والخلافـات السياسية أحيانا تغلق أحـدهما أو كليهما، وحـين كان الطريقان يغلقان في وقت واحـد فإن مدد البضاعة الشرقية كـان ينقطع عن أوربا إلا بـالقدر الـذي كان يمكن فيه سلوك طريق وعر غير مأمون عبر آسيا الوسطى.

وكانت الـدول الأوربية التي لها أعظم نصيب من تجارة الشرق في مطلع القرن الخامس عشر هي جنوا والبندقية، لكن جنوا فقدت مكانتها في عالم التجارة الشرقية نتيجة سقوط القسطنطينية في أيدي الأتراك سنة 1453، ولم يمض إلا قليل وقـت قبل أن تؤدي الشحناء بين مماليك مصر والبندقية إلى تجريد الأخـيرة مما كـان بقي لها من مزايا، وكان واضحـا أن اكتشاف طريق غير مطروق يصل إلى الهند أمر سيعود بثروة ومكـانة عظيمتين على الـدول التي تستطيع الإفادة منه، وكان البلد الذي كـرس نفسه تكريسا مخلصا في البحث عن مثل ذلك الطريق هو البرتغال.

اندفع البرتغاليون بنجاح ناحيتي الشرق والغرب، خاصة في عهد دون جوا الثاني 1481- 1495 الذي كان متشوقـا لنشر المسيحية وطامعا في ارتيـاد طريق تجاري جديد في الهند واكتشاف الأرض التي يجلبون منها القـرفـة والفلفـل وشتى التوابل. فـاكتشف بارثليميو ديـاز طريق رأس الرجاء الصالح سنة 1498 وخرج "جـوا بترس دي كوافيلوا وألفونسو دي بيف" للبحث عن بـلاد التوابل ... فـانطلق من عدن إلى كلكتا وجوا وهرمز على الخليج واتجه غربا حتى بلغ القاهرة والتقى مع "لاميجو" الذي كان قد أعد تقريرا عن جـزيـرة هرمز. ومن ثم احتلت البرتغال عدن وهرمز وملقا لتمسك بعصب التجارة بين الشرق والغرب، كـما كان للبرتغال أيضا سلطان على الهند في ذلك الوقـت. ولم تكف ثورات الأهالي، ففي عـام 1522 أدى تعيين مـوظفين جمركيين في هرمز إلى سخط الأهالي مما دفع شيخ هرمز إلى شن هجوم بري وبحـري على البرتغـاليين لخلع نيرهم وعاد بعد الظفر إلى قشم لكنه قتل وأرسلت البرتغال أسطـولها في الهند فقمع الثوار وفرض الحمايـة على هرمز وأخضعها للإشراف الدقيق. وفي ذلك التاريخ صار للبرتغاليين الذين كـانت أعلامهم تسود البحار قـلاع على البر حيثما حلوا وسيطـروا ومازالت إلى اليوم آثار قلاعهم في هرمز وقشم.

وتوالت لعبـة الكـراسي الموسيقية الجهنمية بين إمبراطـوريـات أوربـا ليحترق بها العـالم. سيطرت إسبانيا على البرتغال وبرز الهولنديون في سنة 1600 فأسسوا الشركة الهولنديـة للهند الشرقية لكن في آخر يوم من أيام سنة 1600 تأسست شركة الهند الشرقية الإنجليـزيـة. وبن الصعـود والهبوط واللمعـان والأفول طرد الإيرانيـون البرتغالين من بندر عباس سنة 1615 وكـانت بندر عباس درعا ضد محاصرة هرمز من البر.

ثم راحت بنـدر عباس تتطور من مجرد درع بري لجزيرة هرمز الصغيرة في فوهة الخليج إلى قلعة تجارية مشتهاة على طريق التوابل والبهار. ويعود اسم بندر عباس إلى الشاه عباس الأول الـذي أنشأها لمنافسة هرمز، أما الأوربيون في القرنين السابع عشر والثامن عشر فقد كانوا يعرفـونها باسم جمبرون أو كومارون، وقد أطلق عليها البرتغاليون هذه التسمية على سبيل السخرية فهي تعني في لغتهم: "برغوث البحر" أو "الجمبري". لكن هنـاك من يـربط هذه التسميـة بـالكلمـة الفارسيـة "جميـوك " التي تعني ضرائب جمركية، وفي هذا إشارة إلى وظيفة هذا المكان في وعي الناس.

وسواء كـانت جمبرون أو جميوك، فإن بنـدر عباس تعد مثالا ساطعا على الشرق الـذي اكتوى- دون ذنب- بنيران المطامع لدول أوربا الاستعمارية الآفلة. وهي مطامع تقاطعت خطوطها، واختلطت أوراقها حتى أن المتابع لصراع هذه المطامع يعجز عن التمييز بين السياسي والاقتصادي والديني في نسيجها. لقد تتابع تناطح الأساطيل والشركـات الأوربية بشكل يبدو مثيرا للمتتبع، ففي ديسمبر 1920 كسر الأسطول الإنجليزي أسطول البرتغال عند هرمز ثم هيمنت إنجلترا على هرمز عـام 1622، ثم شهد المضيق ملامح لحرب الإنجليـز والهولنديين عام 1653، وكـان من انعكـاسات ذلك تأجج الصراع السيـاسي والتجـاري الـذي صـب نيران المدافع الهولندية عام 1645 عندما هاجم الهولنديون جزيرة قشم.

بـدا أن إنجلترا البروتستانتيـة تضرب البرتغال الكاثوليكية ثم تستدير إلى هولنـدا التي تماثلها، لكن الحقيقة أن الصراع كـان صراع تجار واستعماريين على مفصل مهم في طـريق التوابل والبهـار، فلم تلبث سـاحـة الصراع أن دخلتها فـرنسا التي تحالفت مع الإنجليـز ضد الهولنـديين حتى عـام 1667، ثم تحالفت مع الهولنديين ضد الإنجليز عام 1678 ثم تحول الصراع بينها وبين الإنجليز إلى حرب سافرة بلا حلفاء من 1702 إلى 1713.

وبين كل هذه التقاطعات كانت بندر عباس وما حولها تشهد تسللات للروس وللألمان، أيضا.

إنها صراعات السعـار الأوربي على مفرق أسواق الشرق التي شهـدها الخليج وعـاينهـا مضيق هرمز وبواباته في بندر عباس وقشم وبندر لنجـة وغيرها من جزر فوهة الخليج المفضية إلى المحيط الهندي.

تاريخ طـويل، مرير لمن يتتبعه، ولقد آن لنا ونحن في الطائرة المقتربة من ساحل الخليج أن نكف عن هذا التتبع، وننتقل من الماضي إلى الحاضر، فقد كنا في المجال الجوي لبندر عباس.

كل الطرق تؤدي إلى بندر عباس

منذ اللحظات الأولى لهبوطنا في بندر عباس، ومع الدورة الأولى في شـوارعها وعلى ساحلها الطـويل، كان واضحا أن هذه المدينة هـي مقصد طرق عديدة ، ومصب لالتقاء البشر على اختلاف جذورهم. فنظرة ممعنـة إلى الملابس تكشف عن تعـدد الجذور للبشر المقيمين في بنـدر عباس أو العابرين بها. فمن عمان نلمح العمائم التي تكـونها البشـاكـير الملـونـة، ومن البنجـاب نلمح السراويل الملـونة المطرزة المحكمة حول الأرساغ، والعباءات الإيرانية ترتـديها البنات وإن كانت في بندر عباس ملونة وبها زهور. والنقاب على وجوه الشابات والسيدات على السواء وإن كان يأخـذ شكل قناع يرتكـز على الأنف بقصبة تسمى (البتـورة). خليط من الأزيـاء الهابطـة من الشمال (الإيراني) والآتية من الجنـوب (العربي ) ومن الشرق البعيـد (في الهنـد). وهـذه هي المنـابع العرقية لسكـان بندر عبـاس والتي امتزجت عبر التاريخ منـذ النشأة، وحتى الصعـود كمركـز تجاري يسيطـر على أسواقـه الهنود، ثم أخـيرا كمرفـأ إيراني مهـم على الخليـج تختلط بـه كل هـذه الأعـراق وتمتـزج وتتعايش.

وبندر عباس هي أكبر مـدن محافظـة هرمزغان ، ولعلـه يكون مناسبا التطرق إلى المحـافظـة ككل قبل التـوقف عنـد المدينة التي تمثل مركز ثقلها وميناءهـا على الخليج وعـاصمتها أيضـا. ومحافظـة هـرمـزغـان تبلغ مسـاحتهـا 68472 كيلـومترا مـربعـا وتحدهـا من الشمال والشمال الشرقي محافظـة كيرمـان، ومن الغـرب والشمال الغربي محافظة فارس ومحافظة بوشهر، ومن الشرق سيستان وبلوشستان ومن الجنوب- بالطبع- مياه الخليج وبحر عمان. وهذه المحـافظة تعتبر من أكثر محافظات إيران حرارة وجفافـا لأنها تستعير مناخ الصحراء وشبه الصحراء. والمحـافظـة تنتج التمر- أساسا- والموز، والموالح، إضـافة للحنـة والتبغ والمانجو والحبوب والبطاطس، وهذه كلها نجدها بكثرة في أسواق بندر عباس. أما الصناعة فهي في هرمزغان مكرسة لتغطية احتياجات السكان من منسـوجـات البروكاد الملونة والأصواف والسيراميك والبـلاستيك وغير ذلك مـا يحتـاجـه سكان المحافظة البالغ عددهم أكثر من سبعمائة ألف إنسـان أكثـرهم في المنـاطق الـريفيـة ويتحـدثـون بالفارسية ذات اللكنة المميزة وينقسمون بين طائفتي الشيعة والسنة ويتوزعون بين 45 قرية و 18 مـركزا و 6 مدن كبيرة على رأسها بندر عباس.

وفي لقـاء مع محافظ هرمزغان سيد زاده (الـذي يشغل المنصب منـذ عام ونصف العام وكـان قبلهـا عضـوا في مجلس الشـورى الإيـراني) تحدث عن التغيرات التي أحـدثتها الثـورة الإيرانيـة منذ خمسـة عشر عامـا والتي كـانت طموحـا جـدا وإن عاق وصولها إلى ما تطمح إليه الحرب التي استمرت ثـمانية أعـوام مع العـراق واستنـزفت كثيرا من الطاقـات والتهمت كثـيرا من الضحـايـا. وتطرق إلى الوضع الحالي في ظل إدارة الـرئيس هـاشمي رفسنجـاني للبلاد، وكيف أن الحياة بـدأت تعـود إلى طبيعتها لينعم الناس بسلام افتقدوه خـلال الحرب وما قبل الثورة. وتحدث عن إعادة إعمار كثير من المنازل التي دمرتها الحرب في خـرمشهر (المحمـرة) وعبدان وديزفول وقصر شيرين وكرمنشاه وكـذلك إصلاح المنشآت النفطية التي تضررت لتعود إلى العمـل. أما عن المناطق الحرة في هرمزغان فقد حددهـا المحافظ بأنها في جزيرة كيش وجزيرة قشم، وقد اعتبرها نقلة في حركة الاقتصاد الإيـراني تعود بمردود إيجابي كبير على البلد والناس. ورغـم أن القـوانين السـائدة في المناطق الحرة لم تتضح صـورتها كـاملة خـاصة فيما يخص دخول السلع وخروجها، إلا أن التجربة تتقدم وتمثل اتجاها أقره مجلس الشورى الإيـراني لإعطاء دفعـة قـويـة وإيجابيـة لمشروعات المنـاطق الحرة والاقتصاد الحر. وعن العلاقات العريية الإيرانية قال محافظ هرمزغان: إن إيران تربطها بمنطقـة الخليج علاقات تاريخية واقتصادية وثقافية وهناك أمل في توثيق هـذه العلاقـات في المجـالات الاقتصاديـة والاجتماعية والثقافية بعيـدا عن منطق النفوذ أو السيطرة أو التدخل في شئون الغير، فهـذا يؤدي  إلى الاستقرار الذي يعـود بالخـير على الجميع. كان حديثا وديا مع محافظ هرمزغان، وكانت المودة تغمرنا حيثما تحركنا في بنـدر عبـاس، فـالناس بسطاء وطيبـون، والوجوه أليفة للبصر، واللغة العـربية حاضرة إما أنها آتيـة عبر طريق التجـارة بين الشـاطيء الإيـراني والشاطـىء العربي للخليج، أو أنها باقيـة لأن كثيرين من سكان بنـدر عباس عرفـوا العمل في بلدان الخليج العربيـة. واستكمالا للحصول على إجـابة عـن سؤال سبق أن طرحنـاه حـول كيفيـة تعامل الجمهـورية الإيرانية الإسلاميـة ذات الطبيعـة الشيعيـة مع أهل السنة، فإننا نفضنـا عن أنفسنا الحرج وتوجهنا نحـو البحث عن هذه الإجابة التي تمثل بنـدر عباس موقعا عمليا مثاليا لها. فسكـان بنـدر عباس الأصليون معظمهم يتبع المذهب السني وهم في أصـولهم عرب وقد جـاءهم أهل فارس حـاملين المذهب الشيعي من مناطق شيراز وزهدان وتبريز في القرن الثامن عشر، ولهذا فسكان بندر عباس ينقسمون مذهبيا بين شيعة وسنة لكنهم لا يعـانون التفرقـة حيث الكل سواء. وعن ذلك حـدثنـا إمام مسجـد الشافعيـة في بنـدر عباس، الشيخ عبدالرحيم الخطيب وهو سني، فقال: "إنه لا توجـد تفرقة بين أهـل السنة والشيعة، فهم يتـزوجـون من بعضهم البعـض، ويشتركـون في التجارة، الفرق فقط في المساجد".

والشيخ عبدالرحيم الخطيب يعتبر مرجع أهل السنة في بندر عباس والقرى المحيطة بها، وهو يبلغ من العمر 63 عاما وقد استقبلنـا في بيته المتـواضع على الطريقة العربية حيث الجلوس على الأرض والتحية بأكـواب الشاي والفاكهة التي تقدم في كل مكـان للضيوف مع الحلوى والكعك. والشيخ الخطيب متزوج ويعيش مع أسرته ولديه خمس بنات متزوجات وابن وحيد يعيش ويعمل في الولايات المتحدة.

يقول الشيخ الخطيب: "إننا نـمارس شعائرنا الدينية بحرية تامة دون تدخل من أحـد، فنحن- على سبيل المثال- نجلس في المسجد وننتظر الشخص الذي يأتي للشهادة برؤية هـلال رمضـان أو العيـد، ونصلي التراويح في رمضان 8 ركعـات والبعض يصلي 20 ركعـة، والحج إلى مكـة يكـون ضمن بعثـة الحج الإيرانية ، أما عقود الزواج فأنا أقوم بكتـابتها". لقد درس الشيخ الخطيب في مدرسة لنجة الدينية على يد الشيخ عبدالرحمن الملقب بسلطان العلماء الذي أكمل دراسته الدينية في الأزهر بمصر. وتوجـد الآن في بندر عباس مدرسة دينية لأهل السنة تعلم أصول الحديث والنحو والصرف ويـديرها الشيخ محمـد الضيائي. كـما توجد في بندر عباس سبعـة مساجـد بنيت على نفقة أهل الخير والناس يتولون الإنفاق عليها بأنفسهم، وأهم هذه المساجـد المسجد الجامع الذي تقام به صلاة الجمعة وصلاة العيد.

لقد جعلتنا هذه اللمحة من عدم التفرقة بين أهل السنة والشيعة في بندر عباس نتقدم خطى واسعة في سعينا للبحـث عن حقيقة الصـورة الإيرانيـة الحالية من الداخل، ونطمئن إلى تصورنا الأولي عن أن إيران الحالية ليست "دوجما" معتقدية جامدة، فثمة مساحة لحرية العقيدة واحـترام الاختلاف.

ومضينا في ظلال الطمأنينة، رغم أن الشمس في بندر عباس كـانت حارة في هذا الوقت الـذي كانت تتساقط فيه الثلوج على مرتفعـات طهران. ولقد جعلتنا الطمأنينـة نتذوق أكثر طيب المزيج الإنساني والحضاري في بنـدر عباس، حيث تتمازج ألوان الثيـاب ، وتطل واحـة الصحـراء على مياه الخليج، ويتجاور القديم المتمثل في أساليب التجارة البحرية الفردية وتلك التي تقـوم بها الشركـات الكـبرى في عالمنا المعاصر، وعلى صفحة المياه تتنـاثر الزوارق الصغيرة- المتجهة إلى الجزر القريبة من بندر عباس أو العائدة منها- إلى جـوار السفن العصرية العملاقة القادمة من المحيط الهندي أو الـذاهبـة إليـه. ومن مرسى بسيط ضمن عـديد المراسي على الشاطيء الطـويل لبنـدر عباس حيث يبيع الصيـادون سمك الخليج الطـازج ويتريض الشبـان متنسمين هـواء الشاطيء الـرطيب... كنـا على مـوعد مع زورق بخاري يشـق بنا خضم الماء إلى جزيرة تردد اسمها كثيرا في كتب التاريخ ومازال يتردد في رحاب الخطط الاقتصادية لإيران المعاصرة ... إنها جزيرة قشم.

منطقة حرة وسط المياه

ركبنا أحد الزوارق البخارية وانطلق بنا على سطح الماء من شاطىء بندر عباس قاصدا جزيرة قشم. وجزيرة قشم هي أكـبر جزيرة على السـاحل الإيراني في مضيق هرمز، يقع رأسها ومدينـة قشم نفسها مقابل بنـدر عباس ويمتـد جسمهـا المستطيل إلى الغـرب في مـوازاة الشـاطيء الإيـراني. في الشمال الشرقي منها جـزيرة هرمز الشهيرة، وفي الجنوب الشرقي جزيـرة لاراك وجنوبها جزيرة هنكام، وهي جميعـا جزر صغيرة حتى أن قشم تبـدو مثل الحوت، وهذه الجزر من حـولها تبـدو كأسماك صغيرة تسبح من حول ذلك الحوت الكبير.

مكث الزورق قرابة ثلث ساعة منطلقا فوق سطح المياه الهادئة حتى ظهر شـاطىء قشم، وكـان أول ملمح لفت أنظارنا هـو تلك الامتدادات المستطيلـة فوق البيوت والتي تبدو لمن لا يعـرف مثلها (إذ إنها جزء من طراز البيوت الخليجية القديمة في الشاطيء العربي أيضا).. تبدو نوعا من الأبراج الصغيرة فوق أسطح البيـوت. تلك هي مصـايـد الهواء المسماة "باجدير". وهي عبارة عن تكوينات في هيئة متوازي مستطيلات مجوفـة واجهاتها الأربع مفتوحة لتتلقى الهواء حيثما هب من الجهات الأربع وتنقله إلى داخل المنزل لتـبرد جوفه، فهي إذن أجهزة تكييف طبيعي ابتكـرها أهل الخليج لينعموا بالـبرد والسـلام داخل بيوتهم في هـذه المنطقـة الحارة قبل أن تـأتي أجهـزة التكييف الكهـربـائيـة الحديثـة. ولعل هـذه "الباجـديرات " تتفـوق على أجهزة التكييـف الحديثة بكونها لا تستهلك طاقة ولا تحدث ضـوضاء، فهي مثال لقـدرة البشر على ابتكـار مـا يسـاعدهم على التأقلم مع البيئة دون آثار جانبية تدمر هذه البيئة.

هبطنا من الزورق إلى شاطىء قشم فأحسسنا أنها قطعـة من بندر عبـاس وسط مياه المضيق "هرمز"، فالسكـان الـذين يبلغ عددهم من 60 إلى 70 ألف نسمة يكـررون الملامح ذاتها ويرتـدون خليط الثياب التي رأيناها في بندر عبـاس. وعرفنا أن معظمهم من المسلمين السنة ويعيشون على صيد الأسماك وإن كان مشروع المنطقة الحرة قـد بـدأ يظهر على شـواطىء الجزيرة التي امتلأت بـأكشاك البيع والشراء ومراسي المراكب التجارية. كـما لفتت أنظارنا ذؤابات النخيل التي لا تختلف عن نخيلنا العـربي ونخيل بندر عباس تبرز هنا وهناك بين البيوت.

طـوفنا بأرجـاء الجزيرة فرأينا التاريخ ماثـلا في أطلال قلعة برتغالية تذكرنا بـزمن الغزاة البرتغاليين والمغامرين الباحثين عن طـريق التـوابل والبهار. ورأينا معبدا هنديـا عمره ثلاثة قرون وما زال يحيا مذكـرا بزمن سيطرة الهنود الممثلين لشركـة الهند الشرقيـة الإنجليزية على واسطة التجـارة في هذه الجزيرة كـما في بندر عباس.

تركنا الجزيرة التي تطمح أن تكـون مركـزا تجاريا حرا بين شاطئي الخليج العربي والإيراني. ودرنـا حـولها في طريق عـودتنا إلى بنـدر عباس فأصبحنا ونحن ندور في فـوهة مضيق هرمز أو على بوابـة الخليج، خليج الخير الـذي تشي ميـاهه الفيروزية الدافئة بثراء الكنوز الحية التي يدخرها تحت سطحه.

خليج كل من يطلـون عليـه من هذا الشاطيء أو ذاك، إطلالات يحدونا الأمل أن تكون خـيرا وسلاما دائما، حتى ينعم كل سكـان الخليج بـالأمن الـذي افتقدوه طويلا وبالاستقرار الذي يجلب لهم مزيدا من الخير. ولعلـه مع ذلك المنـاخ المأمـول تقصر المسـافـات بين الشاطئين إذ تتكـاثر خطوط المودة والسلام البحـرية بين كل النقـاط على شواطىء الخليج، حـاملـة الخير من هذا الشاطىء إلى ذاك، ويومها... نحلم... سننطلق من شاطىء الكـويت مباشرة- عبر الخليج- إلى بندر عباس وإلى قشم دون حاجـة إلى مضاعفة المسافة. إنـه حلم إنساني بسيط، لبشر بسطاء على الشاطئين، يريدون الحياة والأمان لهم ولأبنائهم، وسبل الحياة مكفولة... كيف؟ إنه السؤال القـديم. وإجـابته التي أعطتنا هذه الزيارة طرف خيطهـا هي: بـاحترام كل منا لـلآخـر... بطموحنا إلى التعاون الحيوي والحضاري، ونبذنـا لأحلام التوسع وإملاء الشروط، وإدراكنا أن لكل منا رؤيته التي وإن اختلفت فإن الاختلاف ينبغي ألا يذهب للود قضية.

وكم هو عطشان للود ذلك الخليج.

 

أنور الياسين 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




صورة الغلاف





بندر عباس إطلالة إيران على الخليج إجابة جديدة عن سؤال قديم





خريطة جمهورية إيران الإسلامية





الزخارف ذات الطابع الإسلامي والسمة الهندسية والقيشاني الإيراني لمحات من الفن العريق





جزء من المدينة يظاهره جبل البوز





صرح آزادي





لقطة كبيرة في السوق المغطى البازار





إيراني يحتسي كوبا من الشاي المحلي الشهير





مدخل بندر عباس واللغة العربية حاضرة في اللافتة





محافظ هرمز خان سيد زادة





مدير الإعلام بوزارة الخارجية سيد نوبري





بندر عباس إطلالة إيران على الخليج





كي لا تخوض النساء في الماء يركبن هذه العربة حتى يصلن إلى درج المراكب التي تنقلهم إلى جزيرة قشم





شاطئ بندر عباس يعاني من التلوث والمخلفات





البطورة القناع على الوجه، والشادور العباءة الإيرانية حول الجسد





جزيرة القشم والنخيل هو النخيل كما على الشاطئ العربي الخليجي





في الشادور يتحركن في شوارع بندر عباس





إحدى الساحات المزدحمة بالسيارات في بندر عباس





مجتمع الصيادين وأطفالهم في بندر عباس وسط مياه الخليج





صياد مازال يرمم شباكه بالطريقة التقليدية