من سحر الشرق إلى دهشة الاكتشاف: كيف رأى الرحالة الأجانب .. مكة والمدينة

من سحر الشرق إلى دهشة الاكتشاف: كيف رأى الرحالة الأجانب .. مكة والمدينة

مع بدايات القرن التاسع عشر، تعدى الانجذاب إلى الشرق مرحلة الدهشة والانبهار لدى الرحالة الأوربيين إلى محاولة اكتشاف جديد للشرق القديم والرغبة في معرفة أدق عن الآخرين.

ما بين روائع آيات الماضي، ومعاقد التاريخ من ضفاف النيل الخالد وطور سيناء إلى بيت لحم والناصرة وبيت المقدس إلى مكة والمدينة، إلى ما يحف بهذه الأصقاع من آثار مقدسة، وما نهض في أحضان هذا التاريخ من إبداعات فكرية وحضارية.. تكونت حصيلة ضخمة من معارف أوربا عن الشرق، شكلت ما عرف بـ (علم الاستشراق) وتلقى المستشرقون تدريبا أكاديميا مكثفا، وأصبح لكل جامعة أوربية برنامج دراسي كامل في الاستشراق، وقد حظي هذا الاتجاه، بالدعم المالي من الحكومات والجمعيات والمؤسسات العلمية. كذلك لا يمكننا تجاهل الدور الكريه الذي لعبه هؤلاء المستشرقون في التمهيد للاستعمار الأوربي وتوسعه، فكانت عيونهم تجوس بلاد الشرق، ولم يكن ما كتبوه مجرد تسجيل لانطباعاتهم، فنجد كثيرا من التفاصيل، في عرض دقيق للجغرافيا السياسية والاقتصادية، وفحص للتقاليد وأنماط السلوك، ودراسة للأوضاع الاجتماعية والثقافية والإدارية والاستحكامات الدفاعية، لا تخلو من نوازع سياسية، واستكشاف لما يحقق مصالح دولهم!

(بوركهارت) أو الشيخ إبراهيم!

من أوائل الرحالة المستكشفين لبلاد العرب، في عصر الإمبراطورية العثمانية، المستشرق (جون لويس بوركهارت) الذي ولد بمدينة (لوزان) بسويسرا، في 24 نوفمبر سنة 1784، وعندما أتم دراسته الأولية، التحق بمدرسة (نوف هوتيل) الثانوية، وفي عام 1800 التحق بجامعة ليبزيج، ثم درس بجامعتي لندن وكمبريدج: اللغة العربية وعلم الفلك، وعلم المعادن والكيمياء والطب والجراحة، قبل أن ترشحه (الجمعية الإفريقية) للقيام برحلة استكشاف في إفريقيا.

وأطلق لحيته، واتخذ هيئة شرقية، وفي فترات الراحة بين أعماله، كان يتدرب على القيام بجولات طويلة سيراً على قدميه، وعرض نفسه كثيراً لأوار الشمس، وتوسد الأرض، وعاش على الأطعمة البقولية، ودرب نفسه على مقاومة العطش.. وفي 2 مارس 1809، يغادر إنجلترا، ليقضي ثلاث سنوات في سوريا، متخفيا في زي تاجر مسلم، وفد من الهند، باسم الشيخ (إبراهيم) مزودا بتوصيات من إدارة شركة الهند الشرقية، وتنقل ما بين حلب ودمشق وتعمق في دراسة اللغة العربية وآدابها، ثم توجه إلى لبنان وحوران، وكان أول أوربي يشهد آثار (البتراء) ثم سلك طريق الحج إلى القاهرة، وقد حالت ظروفه الصحية دون أن يواصل رحلته إلى فزان والنيجر ـ الهدف الرئيسي ـ وقام برحلة إلى بلاد النوبة، ومنها اخترق الصحراء إلى (سواكن) ثم عبر البحر الأحمر إلى جدة، وأنجز رحلته في بلاد العرب (1814 ـ 1815) زار فيها مكة والمدينة، أعقبها برحلة إلى سيناء وخليج العقبة، ثم استقر في القاهرة، حيث لا تزال ماثلة آثار قدمي نابليون على ضفاف نيل مصر، ووافته المنية في 15 أكتوبر سنة 1817، ودفن بلقب الشيخ والحاج إبراهيم، في مقبرة خاصة، في الجنوب الشرقي من باب النصر.. الملاصق للقاهرة الفاطمية.

ومؤلفاته هي: رحلات في بلاد النوبة والسودان 1819، رحلات في سوريا والأرض المقدسة 1822، رحلات في بلاد العرب 1829، ملاحظات عن البدو والوهابيين 1830، الأمثال العربية 1830 ومن كتابه الشهير (رحلات في بلاد العرب).. نقدم هنا هذه الصفحات من رحاب مكة والمدينة.

العمرة

وقد روى لنا بوركهارت انطباعاته عن مناسك العمرة فقال: (وبعد الانتهاء من طقوس قص الشعر، يكون الزائر متأهبا للإحرام، فيطرح عنه ملابسه المعتادة وإذا شاء فليبدأ من هنا ـ بالقرب من المروة ـ وعلى الفور في أداء مناسك العمرة، في هذه الحال يرتدي زي الإحرام، ويصلي ركعتين وربما في حالات نادرة خلال مناسك الطواف والسعي، يمكن للزائر الذي حل به الإجهاد والرهق، أن يحمله شخص أو أكثر أو يحمل على محفة. بعد ذلك، يحق للزائر أن يرتدي ملابسه العادية، لكن عليه في أي يوم لاحق (التعجيل أفضل) أن يستأنف الإحرام، وبنفس الطقوس التي لاحظتها في الانطباع الاول يتوجه إلى العمرة، من مكان يبعد عن مكة نحو ساعة ونصف الساعة، فيؤدي ركعتين في مصلى صغير، وطول الطريق يظل ينشد صيحات دينية تسمى (التلبية).. وتبدأ بهذه الكلمات: (لبيك، اللهم لبيك) ويجب عليه أن يتم الطواف والسعي مرة أخرى، وأن يحلق رأسه بالكامل ثم ينضو عنه زي الإحرام مختتما هذه الطقوس.

الزيارة للعمرة فريضة شرعية واجبة، لكن بعض الناس ـ بالرغم من ذلك ـ لا يلتزمون بها. في اليوم الثالث من وصولي إلى المدينة، رغبت في المشي ـ عند منتصف الليل ـ انسب الأوقات خلال فصل الصيف.

في موسم الحج، تعاد كل هذه المناسك عقب العودة من وادي منى، وبعد أخذ قسط من الراحة في مكة، لابد من الطواف بالكعبة، فالقيام بهذا التقليد في غاية الأهمية، بعض الغرباء المقيمين في مكة يؤدون هذا المنسك مرتين يومياً في المساء وقبل بزوغ النهار!

والزيارة للعمرة، كانت كذلك تقليداً قديماً، وقد أبقى (محمد) على هذه العادة المألوفة، ولقد حل بي الإرهاق عقب أداء مناسك الطواف والسعي، حلقت جزءا من شعر رأسي وظللت جالساً بمحل الحلاقة، ولا أعرف مكاناً آخر للراحة..!

خلال شهر رمضان، ألف مصباح تضيء الجامع الكبير، تجعل من الليل أمانا لكل الغرباء في مكة، والليل بعد انقضاء رمضان لا يقدم تلك الاستعراضات البراقة والاحتفالات المرحة التي نراها في بلاد الشرق الأخرى!

وكما هو معتاد في مناسبة هذا العيد قمت بزيارة إلى القاضي، وفي اليوم الثالث، شرعت في الرحيل إلى جدة، واستكملت كل مستلزمات رحلتي، خلال طريقي إلى المنطقة الساحلية، كنت أشبه بأسير في الصحراء!

امتدت إقامتي بجدة إلى ثلاثة أسابيع بالرغم من انتشار بعض الأمراض المعدية وعدم توافر الأمن على الإطلاق!

في منتصف أكتوبر، عدت إلى مكة، بصحبة غلام اشتريته! وهذا العبد كان ضمن قافلة قادمة من (سواكن) وأخذت معي حمولة جمل من المؤن، في معظمها: طحين وبسكويت وزبد، وهي تعادل في جدة ثلث ثمنها في مكة!

فور وصولي، استأجرت شقة مناسبة بأحد أحياء المدينة يسمى (حارة السفلة) وأستمتع هنا بمشهد عدة أشجار ضخمة تجتمع أمام نوافذ شقتي.. في هذا المكان أستمتع باستقلال وحرية أحسد عليهما! لا اعرف سوى القاضي وحاشيته!.. والباشا وبلاطه بقصر الطائف منذ موسم الحج، أتردد فقط على اجتماع من ذلك النوع الذي يسمح لي بالامتزاج بحشد من الحجاج الأجانب القادمين من كل بلاد العالم، وإذا سئلت عن جنسيتي (وهذا أمر نادر الحدوث في مكان كهذا مليء دائما بالغرباء) أقدم نفسي وبتواضع كعضو بالفيلق المملوكي بمصر! ووجدت من الأفضل، أن أتجنب هؤلاء الأشخاص الذين يعرفون جيداً هذا البلد، وربما يمكنهم ملاحظة واكتشاف الأكذوبة! وانتحال شخصية مزيفة أمر شائع بين معظم الرحالة في الشرق، وحيث كل واحد منهم يتظاهر بالفقر ليتجنب استغلاله، خاصة في مكة!

خلال كل رحلاتي بالشرق، لم أستمتع على الإطلاق، وبكل معنى الكلمة مثلما استمتعت بمكة!.. وبالرغم من حالتي الصحية التي لم تسمح لي بالإفادة من كل المزايا التي أتيحت لي! وأود أن أعرض وصفا للمدينة وسكانها، ومناسك الحج، ثم استأنف سرد تفاصيل رحلتي..!

وصف مكة

(المشرفة).. (البلد الأمين).. الفيروز ابادي: مؤلف (القاموس المحيط) الشهير، ألف بحثا عن الأسماء المختلفة لمكة.. وتقع هذه المدينة بواد رملي ضيق اتجاهه الأساسي من الشمال إلى الجنوب، لكنه يحيد ناحية الشمال الغربي، عند أقصى جنوب المدينة، يتراوح عرض هذا الوادي ما بين مائة وسبعمائة خطوة، والجزء الرئيسي من المدينة يقع في العرض الأكبر للوادي، أما الجزء الأضيق، فعبارة عن صفوف من البيوت والمتاجر المتفرقة، والمدينة نفسها تغطي مساحة نحو 1500 خطوة طولا، من الحي المسمى (الشبيكة) إلى أقصى (المعلاة) غير أن مساحة الأراضي الواقعة تحت سيطرة مكة، من الحي المسمى (جرويل) حيث مدخل جدة إلى الحل المسمى (المعابدة) على طريق الطائف، تبلغ 3500 خطوة، ويتراوح ارتفاع الجبال المحيطة بهذا الوادي ما بين 200 و500 قدم.

قبل تشييد المدينة كان الوادي يلقب بوادي مكة أو بكه، كما أسماها العرب، وتقع السلسلة الرئيسية على الجانب الشرقي للمدينة، وينحدر الوادي جنوبا حيث الحي المسمى (المسفلة) (المكان المنخفض) وتنسال مياه الأمطار نحو جنوب المسفلة في الوادي المفتوح المعروف بوادي (الطرفين).

بعض منازل المدينة مشيدة على جوانب الجبال خاصة السلسلة الشرقية، حيث المساكن البدائية لقريش، ويبدو أن المدينة القديمة كانت هناك.

مكة، مدينة لطيفة التصميم، شوارعها ـ بصفة عامة ـ أعرض من شوارع المدن الشرقية، منازلها شامخة مبنية من الأحجار، النوافذ العديدة المطلة على الشارع، توحي بانطباع اكثر حيوية من مثيلاتها في مصر وسوريا، وقليل من النوافذ يتجه إلى الخارج (مشربيات) ومثل مدينة جدة، فان مكة تحوي عددا من المنازل ذات الطوابق الثلاثة، قليل منها مطلي باللون الأبيض، في جدة، يفضل اللون الرمادي أكثر من اللون الأبيض المتوهج الذي يؤذي العين!

ويمكن تفسير سبب عدم وجود مبان أثرية في مكة، بتساقط الأمطار المدمرة بغزارة، ولفترة اقصر من البلاد الاستوائية الأخرى، والمسجد نفسه، شهد إصلاحات عديدة، في عهود متعاقبة لبعض السلاطين، كما يمكننا القول بأن البناء الحالي هو بناء حديث وبالنسبة للبيوت، فلا اعتقد بوجود بيت قد مضى عليه اكثر من أربعة قرون، وبالتالي لا يمكن لزائر هذا المكان، أن يشاهد أبنية عربية جميلة ومثيرة كالتي تستحوذ على الإعجاب في سوريا ومصر والمغرب وإسبانيا.. بل في هذا المجال، تتفوق اصغر المناطق الريفية بسوريا ومصر على مدينة مكة الشهيرة.. وأعتقد كذلك أن المدن اليمنية هي أيضا فقيرة نسبيا فيما تملكه من أطلال وآثار معمارية.

مكانان بداخل مكة، ينساب فيهما الماء القادم من خلال المجرى المائي المذكور، عبر قنوات صغيرة، يحرسها بعض العبيد التابعين للشريف، حيث يقومون بتحصيل ضريبة ممن يأتي ليملأ قربته، وفي موسم الحج تحيط بهذه القنوات، نهاراً وليلاً جموع تحتشد وتتشاجر فيما بينها من أجل الحصول على قدر من الماء!

وقد صرف (قايتباي) سلطـان مصر، أموالاً طائلة من أجل إصلاح الممر المائي، كما خصص (قانصوه الغوري) آخر الملوك الشراكسة بمصر مبلغا للصرف عليها عام 916 هـ. وكثيرا ما يطلب المتسولون والحجاج المرضى، شربة من الماء العذب، من المارين بشوارع مكة، أو حيث يقفون بالقرب من منصات المياه التي تراها في كل زاوية، ويمكن الحصول على ملء إناء من الماء ببارة واحدة في الأيام العادية، أما في موسم الحج فيرتفع ثمنها إلى بارتين..!

المدينة المنورة

المدينة التي تتوجه إليها أفئدة المسلمين، ويقضون أياما في رحاب حرمها النبوي الشريف، يتعبدون وتمتلئ صدورهم بنور الإيمان الذي يشع من كل مكان في تلك المدينة، مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وتاريخ المدينة المنورة في عصر الإسلام، يبدأ من هجرة خاتم الأنبياء إليها في 13 ربيع الأول (عام 622م) ومنذ هذا اليوم صارت المدينة معقلا للإسلام ومصدرا للعطاء السماوي الذي انطلق لينير العالم بنور الهدى والإيمان.

وللمدينة المنورة 95 اسماً، لما لها من قداسة في قلوب المسلمين، من بين هذه الأسماء: دار الهجرة، دار السلام، دار الفتح، دار الإيمان، دار الأبرار، دار الأخيار، طيبة، سيدة البلدان، المؤمنة، المباركة، المختارة، الدرع الحصينة، ذات النخل، بيت رسول الله، بالإضافة إلى اسمها التاريخي (يثرب).

ويذهب بعض المؤرخين إلى أن تاريخ المدينة يعود إلى ما بعد (الطوفان) الذي حدث في عهد نوح عليه السلام.. كما تشير بعض الروايات إلى أن (الأوس) و(الخزرج) وهم أنصار رسول الله، كانوا من القبائل الكبيرة باليمن، وعقب انهيار سد مأرب قبل ظهور الإسلام بنحو 700 عام، نزحوا إلى يثرب واستقروا بها.

فارتيما.. أو الحاج يونس!

وقد حرص عدد من الرحالة على زيارة المدينة المنورة.. سواء الرحالة المسلمون الذين كان من أهم بواعث الرحلة عندهم، تأدية فريضة الحج إلى بيت الله الحرام، وزيارة قبر الرسول بالمدينة، والتفقه على كبار العلماء وجمع الأحاديث والمعارف - وقد سجل هؤلاء الرحالة مشاهداتهم وانطباعاتهم، ووصفوا الأماكن والبقاع المقدسة، والدروب التي سلكوها، والأحداث التي عايشوها - أو بعض الرحالة الأوربيين، الذين تظاهروا بالإسلام، وطافوا بأرجاء العالم الإسلامي، وكانت مهمتهم الحقيقية، رصدا شاملا للبلاد وتحصيناتها، والأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية للشعوب الإسلامية. ومن هؤلاء الرحالة الإيطالي (لودفيكو دي فارتيما).. أو الحاج يونس كما سمى نفسه!.. الذي قام برحلته إلى الشرق فيما بين عامي 1503 و1509 فأبحر من البندقية قاصدا مصر ثم توجه إلى بلاد الشام، ليطوف بعدها ببلاد العرب (الحجاز) ثم اليمن فالخليج العربي وبلاد فارس.

وقد رحل دي فارتيما إلى المدينة المنورة، في قافلة ضمت ثلاثمائة من الزائرين والتجار والمماليك وكتب في نهاية اليوم الخامس عشر، وصلنا إلى جبل (هدية) محيطه نحو عشرة أميال، يقطنه نحو أربعة آلاف يهودي، قصار القامة، شبه عراة يميلون إلى السواد، ولا يأكلون إلا لحوم الغنم، وإذا وقع أحد المسلمين بين أيديهم سلخوه حيا!!.. وكانوا يحومون حول الجبل كالماعز البرية! وعند سفح الجبل، وجدنا بركة يتجمع بها الماء في موسم الأمطار، وبالقرب منها ثماني شجيرات جميلات، عششت فيها قمريتان، فكان مشهدا أشبه بالمعجزة في هذا الجو القاحل! فقد سافرنا خمسة عشر يوما لم نصادف خلالها طيراً أو حيواناً، حيث اغتسل كل فرد من أفراد القافلة، وارتدينا ملابس الإحرام قبل دخول المدينة، التي ضمت نحو ثلاثمائة بيت مشيدة من الحجارة، يحيط بها سور من الطين، وبستان يضم نحو ستين نخلة بآخره قناة تنحدر نحو أربع وعشرين درجة.

وقال عن مسجد النبي: (يبلغ طوله مائة خطوة طولاً، وثمانين خطوة عرضاً، ويوجد بابان في كل جهة من جهاته الثلاث، أما الرابعة فلا أبواب فيها، والسقف يرتفع على عقود تعتمد على أعمدة من الحجارة المطلية باللون الأبيض، عند كل باب من الأبواب الداخلية، تجد عشرات من الكتب التي تتناول حياة محمد صلي الله عليه وسلم وشروحاً للعقيدة الإسلامية، وخلف حاجز معدني مشغول بشكل جميل، توجد قبور محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر).

ريتشارد بيرتون

أما العالم الجغرافي والمؤرخ والأنثروبولوجي، مكتشف بحيرة تنجانيقا، والذي ترجم كثيراً من المؤلفات العربية والفارسية إلى الإنجليزية، الرحالة الأيرلندي الشهير (ريتشارد بيرتون) فقد بدأ رحلته إلى مصر وبلاد العرب والشام عام 1853، وبعد أن طوف بنا في مكة المكرمة، انتقل إلى المدينة المنورة، ليصف لنا عمارتها وجبالها وأوديتها ودروبها، وعادات أهل المدينة وتفاصيل حياتهم اليومية. وقد استضافه (الشيخ حامد) في منزله بحي (المناخة) ويقول: (رغم أن منزل الشيخ حامد لم يكن واسعاً، فإن المناظر المتباينة التي تبدو من نوافذ (المقعد) تجعل منه مكاناً حيوياً، فناحية الشرق تشرف على ميدان بر المناخة وسور المدينة وما خلفه من منازل والباب المصري، ومآذن الحرم النبوي وجبل أحد على البعد. ومن ناحية الشمال ترى مسجد محمد (صلى الله عليه وسلم) وجزءاً من جدار الحصن.. والطبقة العليا في مجتمع المدينة تأثرت بالفخامة التركية والمصرية في معيشتها.. وتتشابه مساكن الفقراء. وبيت الشيخ حامد هادىء ومقبول، ولم تقع عيني على وجه امرأة، عدا الجاريتين الزنجيتين اللتين لم تتخليا عن مظاهر الحياء والاحتشام.

وعندما يطلع الفجر، كنا نغتسل ونصلي ونتناول شيئا من الخبز اليابس قبل تدخين النارجيلة ثم نشرب فنجانا من القهوة، بعد ذلك نرتدي ملابسنا لزيارة الحرم النبوي وغيره من الأماكن المقدسة الأخرى، ثم نعود قبل أن يستعر لهيب الشمس، نجلس لندخن ونتناول أقداح القهوة والماء البارد المعطر بالمستكة إلى أن يحين موعد الغداء، حيث نتحلق حول صينية عامرة باللحوم والخضراوات المطبوخة والأرز المسلوق الذي نتناوله بالملاعق، ثم الفاكهة خاصة الأعناب والبلح والرمان. ويطيب ليل المدينة عندما يرش الأهالي الماء منازلهم، حيث تعقد مجالس مرحة فوق حصر مفروشة أمام الأبواب.

وتحدث بيرتون عن قداسة المدينة والمكانة الرفيعة للمسجد النبوي، مشيرا إلى أن بعض المسلمين يعتقدون أن المدينة المنورة أكثر شرفا وأعلى مرتبة روحية من مكة المكرمة، وأن النبي قد فضل المدينة (دار هجرة) وباركها كما بارك إبراهيم مكة.. وأهل كل من المدينتين يتباهون بالشرف الذي حازته مدينتهم!

وعن السمات الرئيسية لتكوين المدينة يقول بيرتون:

(تتكون المدينة المنورة من ثلاثة أجزاء: المدينة ذاتها، والقلعة وضاحية، مساحتها أصغر بقليل من إجمالي مساحة الأجزاء الثلاثة والمدينة ذاتها أكبر من السويس بحوالي الثلث، أو نصف مساحة مكة تقريبا، وللمدينة سور بيضاوي غير منتظم، به أربع بوابات. فالباب الشامي في الجانب الشمالي الغربي للسور يفضي إلى جبل أحد وقبر حمزة (رضي الله عنه) والجبال. وباب الجمعة في السور الشرقي يفضي إلى الدرب النجدي (الطريق المؤدي لنجد) ومقبرة البقيع. وبين الباب الشامي وباب الجمعة تجاه الشمال، يوجد باب الضيافة، أما الباب المصري فيقع إلى الغرب ويفضي إلى سهل يسمونه بر المناخة. والبابان الشرقي (باب الجمعة) والمصري قد شيد عليهما مبنيان ضخمان جميلان، لكل منهما برجان متقاربان دهنا على شكل أشرطة عريضة حمراء وصفراء وألوان أخرى. وهذان البابان لا يبعدان في شكلهما عن المدخل القديم لقلعة (صلاح الدين) في مصر).

ويقول بيرتون عن المسجد النبوي الشريف: هذا المسجد الذي يحظى بالتبجيل والتوقير من كل مسلمي العالم، يبدو بسيطا متواضعا في مظهره المعماري، وهو متوازي الأضلاع طوله نحو 420 قدما، وعرضه 340 قدما، يتوسطه صحن تحيط به أربعة أروقة ذات أعمدة رخامية تعلوها عقود مزخرفة.. وبطول الجدار الشمالي يوجد الرواق المجيدي (نسبة إلى السلطان عبدالمجيد) أما الجدار الغربي فعنده رواق (بوابة الرحمن) وفي الجدار الشرقي (بوابة النساء) أما الجدار الجنوبي فيحوي أكثر المواضع قداسة في المسجد وهي (الروضة الشريفة).

وقد بدأنا الدخول بالقدم اليمنى لنخطو أمام خط (المواجهة الشريفة) مرددا الدعوات التي كان يدعو بها الشيخ حامد. عن شمالي، حائط منخفض مزخرف بنقوش عربية به أربعة أبواب صغيرة، يمكن العبور منها إلى الداخل حيث المحراب النبوي والمحراب السليماني والمنبر، وكلا المحرابين من الفسيفساء الجميلة المختلفة ألوانها، والمنبر من الخشب الأرابيسك الرائع. ومن الباب الغربي الصغير، دخلنا إلى الموضع الشهير بـ (الروضة الشريفة)، وإلى الشرق ضريح النبي محمد صلى الله عليه وسلم، محاطا بمقصورة من الخشب الخرط البديع.

والمشهد الذي يثير الإعجاب ليلا، تلك الأنوار المنبعثة من الزجاج الملون في الجدار الجنوبي، والنحاس المشغول الأصفر أو المطلي باللون الأخضر، وتنبهر العيون من أضواء القناديل وأنوار الشموع الضخمة، ومن تعمق في روح الشرق فسيدرك معنى (الفردوس) الذي قصـده المعماري!!

والضريح أو (الحجرة) كما يطلق عليه، كانت أساسا غرفة السيدة عائشة، يفصلها عن المسجد ممر عرضه نحو عشرين قدماً، ويحيط بالقبر إحاطة كاملة سياج معدني مزخرف بكتابات وأشكال نباتية رائعة، به أربعة أبواب: باب المواجهة، باب فاطمة الزهراء، باب التوبة والباب الشامي وهو الوحيد الذي يفتح لدخول الطواشية لتنظيف الأرضية وإضاءة القناديل ورفع الهدايا التي يلقي بها بعض الزائرين.

وفي الجزء الجنوبي ـ من السياج، توجد ثلاث طاقات ترتفع عن الأرض نحو خمسة أقدام، الأولى تواجه قبر محمد صلى الله عليه وسلم وتشتهر بـ (شباك النبي) والثانية تطل على قبر أبي بكر، والثالثة علي قبر عمر بن الخطاب، وتعلو الحجرة الشريفة قبة خضراء، يرتفع عليها هلال ضخم مذهب.. والخيال المتوهـج لبعـض المسلمين جعلهم يتصورون أن هذا الموضع يصعد منه (نور رباني) يهدي خطى الحجيج على بعد مسيـرة ثلاثة أيام من المدينة المنورة)!

 

عرفة عبده علي

 
 








قافلة الحجيج تستعد للرحيل، كما رسمها شارلز روبرتسون





المستشرق بوركهات أو الشيخ ابراهيم





صورة قديمة للكعبة المشرفة