ست أقدام من البلاد سمير عبدربه

قصة: نادين جورديمر
لم أكن أنا وزوجتي ممن يجيدون أعمال الحقل والفلاحة، لكننا قمنا بشراء مزرعة بأحد الشوارع الرئيسية على بعد عشرة أميال من جوهانسبرج، كي نغير شيئا ما في نفسينا ونضيف جديدا إلى حياتنا.

كنت أعتقد أن زوجتي ليريس سوف تنسحب إلى مكاننا الجديد في حزن تشيكوفي لمدة شهر أو شهرين في الأكثر ثم تسارع بترك المكان للخدم حتى تحقق رغبتها في أن تكون ممثلة، لكنها على العكس مما تصورت فقد غرقت في عمل المزرعة راحت تديرها بجدية جعلتني أحتفظ بها حتى الآن، لم أكن أذهب إلى هناك إلا في المساء ونهايات الأسبوع حيث إنني شريك في أحد المكاتب السياحية الكبيرة، وكنت أتجنب الاقتراب من الدجاج الذي تقوم ليريس بتربيته، لأن رائحته كانت تصيبني بالمرض.. كانت المزرعة جميلة، وكنت أستيقظ في صباح الأحد، وأتوجه للحقل الصغير، ليس لرؤية أشجار النخيل والبرك والحمام الطائر للضواحي، بل للاستمتاع بمشاهدة بط الخزان والبرسيم الرائع الذي يبدو كأعشاب النافذة المشذبة. كانت ليريس تخرج بشعرها المنكوش، ثم تمسك العصا وتقود الماشية، وهي تنظر بطريقة حالمة كما تفعل الممثلات.

كنا ننعم بالأمان بعيدا عن تلك التوترات الغريبة وذلك القلق الذي يعانون منه في المدينة، والذي كان يحدثنا عنه زائرونا.. كان شعب جوهانسبرج حين يتحدث عن التوتر فإنه لا يقصد أولئك الناس الذين يهرولون في الشوارع ويناضلون من أجل المال، بل تلك البنادق المخبأة تحت وسادات الرجل الأبيض، وتلك الاستحكامات في نوافذه، إنه يقصد تلك اللحظات الغريبة فوق أرصفة المدينة عندما لا يقدر الرجل الأسود أن يقف إلى جانب الرجل الأبيض.

إن الحياة خارج المدينة أفضل بكثير، فلا توجد هنا تلك الاستحكامات في النوافذ كما أننا لا نحمل البنادق، ويعيش السود مع زوجاتهم في أرض المزرعة ويصنعون لأنفسهم البيرة دون خوف من هجمات الشرطة، مما يجعلنا نفتخر حقا بأن هؤلاء البؤساء المساكين لا يسببون لنا الخوف. إن ليريس ترعى أطفالهم وتعالجهم إذا مرضوا. وهكذا فإن الخوف لم يتملكنا ذات ليلة من الشتاء الماضي حين كنا نائمين وسمعنا ألبرت وهو يطرق النافذة، لم أكن نائما بجوار ليريس، بل في حجرة الملابس المجاورة بسبب مضايقتها لي.. !كانت في تلك الليلة تضع في جسدها بودرة التلك ذات الرائحة الجميلة بعد الانتهاء من الحمام فلم أشأ أن أجد نفسي ضعيفا وذهبت لأنام في حجرة الملابس، توالت طرقات ألبرت فوق النافذة فجاءت ليريس وأيقظتني قائلة: يقول ألبرت إن أحدهم مريض جدا ومن الأفضل أن تذهب لترى، فلا بد أن الأمر خطير وإلا لما أيقظنا في مثل هذا الوقت.

- كم الساعة الآن؟

أجابت ليريس: وماذا يهم؟

استيقظت مرتبكا، وكانت تنظر إلي ثم شعرت- كما أشعر دائما- بالحماقة كلما غادرت سريرها:

سألت ألبرت ونحن نمشي على ضوء البطارية الراقص: أي واحد من الأولاد؟

أجاب ألبرت: إنه مريض جدا.

تذكرت أن فرانز كان يعاني من سعال شديد طوال الأسبوع الماضي فقلت: ولكن من يكون؟ فرانز؟.

ظل ألبرت صامتا، ولم يجب عن سؤالي، وكان يفسح لي الطريق وهو يسير بجانبي فوق "الأعشاب الطويلة الميتة، وعندما اقترب ضوء البطارية من وجهه عرفت أنه مرتبك بشدة فقلت: لم كل هذا؟.. انحنى برأسه عن الضوء وقال: أنا لا أعرف، لكن بطرس هو الذي أرسلني.

هرعت معه إلى الأكواخ منفعلا وفوق سرير بطرس ذي الأرجل الخشبية المحمولة بالطوب كان يرقد أحد الشباب.. كان الشاب ميتا ووجهه مليئا بالعرق البارد وجسده دافئا.. وقف الأولاد حوله كما يفعلون في المطبخ عندما يكسر أحدهم طبقا، كان: الهدوء غريبا لا يساعد على معرفة شيء، وكانت زوجة شخص ما تتسكع في الظلال المعتمة ويداها ملفوفتان تحت مريلتها.

كنت قد رأيت رجالا ميتين في أثناء الحرب، لكن هذا مختلف، شعرت بأنني دخيل ولا فائدة من وجودي، فسألت: ماذا حدث؟

ربتت المرأة فوق صدرها وهزت رأسها مشيرة إلى صعوبة التنفس.

- لا بد أنه مات من التهاب الرئة.

ثم قلت لبطرس: من كان هذا الولد؟

كشف ضوء الشمعة عن بكاء بطرس الذي تبعني إلى خارج الباب، وعندما أصبحنا في الظلام انتظرت أن يتكلم، لكنه لم يفعل، فقلت: أخبرني يا بطرس عن هذا الولد، هل كان صديقك؟

- إنه أخي، ولقد جاء من روديسيا لكي يبحث عن عمل.

أصابتني القصة بالفرع قليلا كما تأثرت ليريس بسماعها. لقد جاء الولد الصغير من روديسيا ليبحث عن عمل في جوهانسبرج، فأصابه البرد من النوم في العراء طوال الطريق وأصبح مريضا في كوخ أخيه بطرس منذ وصوله دون أن يتجرأ أحدهم ويطلب مساعدتنا خوفا من أن نعرف بوجوده.

كان الشاب قد دخل البلاد بطريقة غير شرعية، إذ لم يكن مسموحا لمواطني روديسيا بدخول الاتحاد إلا بتصريح، لكنها لم تكن المرة الأولى التي يتكبدون فيها صعوبة السير على الأقدام لمسافة تعادل سبعمائة أو ثمانمائة ميل من أجل الخروج من دائرة الفقر وهجمات الشرطة في المناطق القذرة التي يتجمع فيها السود. كان عليه أن يبقى مختبئا في مزرعتنا حتى يخاطر شخص ما بتوظيفه.

حسنا، كان واحدا من الذين لن يستيقظوا مرة ثانية.

قالت ليريس في الصباح التالي: أتعتقد أنهم نادمون لعدم إخبارنا؟

وعندما شاهدت بطرس في المطبخ في ذلك الوقت المبكر شعرت بالضيق ثم وقفت- كعادتها حين تكون منفعلة- في وسط الحجرة كما يفعل الناس عندما يوشكون على القيام برحلة، وراحت تتفحص الأشياء المألوفة وكأنها تراها لأول مرة. كنت أعرفها حين تمتلئ عيناها بالرعب وتصبح راغبة في الجدل، لكنني لم أكن أملك الوقت الكافي أو الرغبة في مناقشتها.

قلت: أعتقد أنني أنا الذي يجب أن يقم بكل الأعمال البغيضة.

كانت لا تزال تحدق في وجهي، وعرفت من عينيها أنها لا تريدني أن أخرج.

قلت بهدوء: سوف أخبر السلطات الصحية. إنهم لا يستطيعون نقله ودفنه كما أننا لا نعرف سبب وفاته.

كانت تقف بيأس غيى راغبة في رؤيتي، فقلت بانفعال: ربما كان أحد الأمراض المعدية.. الله وحده يعلم.

لكن ليريس لم تجب، فخرجت واستدعيت أحد الأولاد ليفتح الجراج ويجهز السيارة كي أتوجه للمدينة مثلما يحدث كل صباح.

كان يجب أن أقوم بإبلاغ الشرطة والسلطات الصحية، وهناك أجبت عن كثير من الأسئلة المملة.. كيف كنت تجهل وجود الولد؟، وكيف لا تشرف وتسيطر على الذين يعملون عندك؟، وكيف تعرف أن ذلك لا يحدث كثيرا؟،! إلخ.. إلخ.

انفجرت بالغضب وقلت لهم: ماداموا يقومون بعملهم على أكمل وجه فإنني أعتقد أنه ليس من حقي أن أتدخل في حياتهم الخاصة.

نهضت من عند رقيب الشرطة الفظ ذي الوجه الطافح بالغباء بعد أن كشر في وجهي بازدراء ولم يستطع أن يخفي فرحته لغبائي.

شرحت لبطرس أهمية أن تقوم السلطات الصحية بفحص الجثة غير أنني لم أكن أدري ما يعنيه فحص الجثة! وعندما اتصلت بالإدارة الصحية بعد بضعة أيام لمعرفة النتيجة أخبروني أنه مات بالتهاب الرئة كما توقعنا وأنهم سيتخلصون من الجثة بطريقة ملائمة.

كان بطرس يقوم بإعداد الهريسة للدجاج، فتوجهت إليه وأخبرته أن كل شيء على مايرام وأن أخاه مات بسبب ذلك الألم في صدره.

وضع بطرس العلبة فوف الأرض وقال: ومتى نستطيع الذهاب لإحضاره؟

- إحضاره؟!

- أرجوك أن تسألهم عن الموعد الذي نستطيع فيه الذهاب لإحضاره.

عدت للداخل ورحت أنادي على ليريس في أرجاء المنزل حتى أبصرتها تنزل السلالم قادمة من حجرة النوم، فقلت: والآن ماذا أفعل؟، لقد أخبرت بطرس بما حدث، لكنه سألني عن الموعد الذي يستطيع فيه الذهاب لإحضار الجثة.. إنهم يعتقدون أنهم سيدفنونه بأنفسهم.

قالت ليريس: حسنا.. عد إليه وأخبره، يجب أن لم تخبره ولماذا لم تخبره في حينها؟

قلت لبطرس وهو يتطلع نحوي بأدب: اسمعني يا بطرس، إنك لن تستطيع الذهاب لإحضار أخيك

فلقد قاموا بعمل كل شيء، لقد دفنوه، هل تفهم؟

قال ببطء وفتور: أين؟

- أنت تعرف أنه كان غريبا، وهم يعرفون ذلك ولا يعرفون أن له أقرباء هنا وهكذا دفنوه.

- أرجوك يجب أن تسألهم.

ولم يكن بطرس يعني معرفة مكان الدفن، ولكنه يريد عودة أخيه لأنه ببساطة يجهل النظام الغريب الذي شرحته له، فقلت: ولكن يا بطرس كيف وقد دفنوه فعلا، إنني لا أستطيع أن أسألهم الآن.

كان واقفا ويداه ملطختان بالنخالة ثم قال وفمه يرتعش: أوه !!

- لن يستمعوا إلي يا بطرس، إنهم لا يستطيعون بأي طريقة وأنا أيضا لا أستطيع.. إنني آسف، هل فهمت؟

ظل ينظر نحوي، ولم يكن مدركا أن الرجال البيض يملكون كل شيء، ويستطيعون فعل أي شيء، وإذا لم يفعلوا فذلك لأنهم فقط لا يريدون.

قالت ليريس في أثناء تناول الطعام: كان بمقدورك في الأقل أن تتصل بالتليفون.

- يا للمسيح.. من أكون في اعتقادك؟ أيجب أن أعيد الحياة إلى الميت؟

انتهت من تناول القهوة، ثم اختفت في المطبخ، وعادت بعد قليل وقالت: سوف يحصل الأب الكبير على تصريح ويأتي من روديسيا لحضور الجنازة، أعتقد أنه الآن في طريقه.

قال بطرس بعد أن وافقت السلطات على خروج الجثة من القبر، وكان صوته بعيدا وكأنه يتحدث عن شيء مستحيل لا يحتمل التفكير فيه: يجب أن ندفع عشرين جنيها للحانوتي.

قلت: وهو كذلك يا بطرس.

ثم عدت إلى حجرة المعيشة.

في الصباح التالي وقبل ذهابي للمدينة، طلب بطرس مقابلتي وقال بارتباك: أرجوك، ها هي العشرون جنيها.

إنهم حقا بؤساء مساكين، ولا يعرفون كيف يقدمون النقود إلى الرجل الأبيض. كانت العشرون جنيها تتكون من جنيهات وأنصاف جنيهات، بعضها متجعد وقذر، وبعضها الآخر ناعم وجديد كان قد جمعها من فرانز وألبرت ودورا الطاهية ويعقوب البستاني وكثيرين غيرهم ممن يعملون في المزرعة والأرض الصغيرة حولنا.

لم تصبني الدهشة كثيرا، لكنني غضبت بشدة لتلك التضحية العقيمة التي لا فائدة منها من قبل أولئك الفقراء، لكن ذلك لم يكن مفهوما لأمثالي وأمثال ليريس الذين يرون أن الحياة شيء يجب أن نعيشه ببذخ، وإذا ما فكرنا في الموت فإننا ننظر إليه كأنه الإفلاس الأخير.

لم يكن الخدم يعملون بعد ظهر يوم السبت فكان اليوم مناسبا للجنازة.. استأذن بطرس ووالده في استعارة عربتنا " الكارو " لإحضار التابوت من المدينة، وقال بطرس مخاطبا ليريس: كل شيء سيكون على ما يرام عندما نعود.

أحكموا إغلاق التابوت خوفا من رؤية ما يبعث على الأحزان، وظل التابوت في كوخ بطرس طوال الصباح في انتظار نقله إلى المقبرة خارج حدود مزرعتنا الشرقية.

لم تتذكر ليريس وعدها بنظافة المنزل بعد ظهر يوم السبت وكانت منكوشة الشعر منذ ليلة أمس ولم تنظف أرضية حجرة المعيشة الملطخة بالورنيش، فلم أستطع البقاء. تناولت مضرب الجولف وخرجت، وقد تصادف وجودي بمحاذاة السور عندما مر الموكب، كانت الشمس ساطعة كأنها قطع صغيرة من الخزف فاستطعت أن أرى المقابر بوضوح.

ارتبكت قليلا، وقمت بإخفاء كرة الجولف، إذ كان يجب أن أتوقف حتى ينتهي مرور الموكب الموقر من أمامي فأبصرت الحمارين يجران عربة الكارو ورأساهما غارقان بين عريش العربة وكانت آذان كلا الحمارين منبسطة للخلف، وبدا أنهما خاضعان ذليلان مما ذكرني بمجموعة الرجال والنساء الذين يسيرون خلفهما ببطء.

توقف الموكب قريبا مني فاضطررت لإخفاء مضربي. كان التابوت مصنوعا من الخشب المدهون بالورنيش الأصفر مثل الأثاث الرخيص، فبدا متلألئا. كان الحماران يهزان آذانهما وهم ينتشلون والتابوت من فوق العربة الكارو. رفع بطرس وفرانز وألبرت والأب العجوز التابوت فوق أكتافهم، وتحرك الموكب على الأقدام. وقفت عند السور هادئا ومدهوشا، وعرفت أنهم جميعا من الخدم العاملين عندنا أو من خدم الجيران الذين أعرفهم وأقابلهم عرضا وأسمعهم وهم يثرثرون بهدوء عن أراضينا أو مطبخنا. كان الرجال الأربعة ينحنون تحت الصندوق الخشبي المتلألئ دون أن يرفعوا أبصارهم واستطعت أن أسمع أنفاس الرجل العجوز.

كان العجوز يتمتم بشيء ما فتوقف الناس وأصابهم ارتباك، وكان الولد الصغير الذي بقي لمراقبة الحمارين يعود مسرعا لرؤية ما يحدث. رفع بطرس بصره نحوي وتطلع إلى الجميع بفزع، بينما كان العجوز القادم من روديسيا قد تخلى تماما عن التابوت، ولم يعد بمقدار الثلاثة الآخرين حمله، فوضعوه على الأرض في عرض الطريق. كان التراب يغطي جوانب التابوت ولم أستطع أن أفهم ما يقوله الرجل العجوز الذي بسط يديه المفتوحتين المرتعشتين نحوي.

توسلت إلى بطرس قائلا: ماذا يا بطرس؟ ماذا يقول؟

وضع بطرس يديه في جانبه وانحنى برأسه وظل يهزه بطريقة هستيرية ثم رفع وجهه إلى أعلى متطلعا نحوي وقال شارحا: يقول بأن ابنه لم يكن ثقيلا جدا.

ساد هدوء، واستطعت أن أسمع أنفاس الرجل العجوز مرة أخرى، وكان فمه مفتوحا مثلما يفعل كبار السن.

قال أخيرا بالإنجليزية: إن ابني صغير ونحيل.

كان العجوز ذا شارب أشيب مهذب وأسنان قليلة مائلة للاصفرار.. مضى يحرك غطاء التابوت بقوة بمساعدة ثلاثة من الرجال، ثم ارتمى على الأرض خائر القوى غير قادر على الكلام ورفع يده المرتعشة بصعوبة في اتجاه التابوت من الداخل.

تجمعوا حوله، وكذلك فعلت أنا لإلقاء نظرة، فغرق الجميع في دهشة غريبة، وراحوا يلهثون ويثرثرون بغضب، وكان الولد الصغير يبكي لأن وقوف الكبار أمامه كان يمنعه من الرؤية.

كان الراقد في التابوت شخصا آخر لم يتعرف عليه أحد، كان بدينا وذا بشرة مضيئة وكانت تعلو جبهته ندبة ما ربما كانت من أثر ضربة في شجار.

ظللت طوال أسبوع في مشاحنات مع السلطات بسبب تلك الجثة، لكنهم قالوا لي: نحن لا نزال نقوم بتحرياتنا وسوف نفعل.

ثم ذهبوا بي بلى مكان الجثث وقالوا: ارفع الملاءة وانظر إليه إذا كانت تعرفه.. يوجد الكثير هنا من الوجوه السوداء فهل تعتقد أننا نستطيع أن نفعل؟

كان بطرس ينتظرني في المطبخ كل مساء عند عودتي فأقول له: إنهم يحاولون وما زلوا يبحثون.

كان بطرس وليريس يحدقان في وجهي وأنا أتكلم بطريقة غريبة، فبدا أنهما شبيهان تماما رغم استحالة ذلك، فزوجتي بيضاء وذات جسد إنجليزي رقيق، أما الولد بائع الدجاج فإن قدميه عاريتان وبنطلونه الكاكي مربوط عند ركبتيه بحبل كما تنبعث من جسده رائحة عرق شاذة.

قالت ليريس فجأة: لماذا أنت ساخط إلى هذا الحد؟

حدقت فيها وأجبت: إنها مسألة مبدأ.. لماذا ينبغي عليهم أن يكونوا مظلومين؟

شعر بطرس بأن المناقشة أخذت شكلا ليس له بها شأن، ففتح باب المطبخ بهدوء وسارع بالمغادرة ثم تبعته ليريس وهي تقول: أوه!

كنت أكرر عهدي لبطرس كل مساء وأعيد الكلام نفسه بنغمة الصوت نفسها، لكنه بدا أكثر ضعفا، وفقد الأمل في الوفاء بعهدي، وكان من الواضح أن أخاه لن يعود أبدا، فلا أحد يعرف مكانه الحقيقي سوى الله والسلطات، بالإضافة إلى أنه كان بلا هوية في هذا العالم.

سألني بطرس بصوت مليء بالخجل أن أحاول رد النقود، فحاولت أنا وليريس كثيرا دون جدوى، كانت العشرون جنيها للحانوتي الذي قام فعلا بمهمته، وهكذا أصبحت كل المحاولات من أجل أولئك البؤساء المساكين لا تعدو كونها مضيعة- للوقت.

كان الرجل العجوز القادم من روديسيا في نفس حجم والد ليريس تقريبا، فسارعت بإهدائه إحدى بدل أبيها القديمة، فعاد العجوز إلى موطنه في حال أفضل مما كان عليه خاصة أن الشتاء كان على الأبواب.