الجزائر بلد يبحث عن هوية ماضي الخميس تصوير: حسين لاري

الجزائر بلد يبحث عن هوية

الشعب الثائر أصبح حائرا..

إلى أين يسير بلد المليون شهيد، والبطولات الخالدة في سجل الشعوب المجاهدة.. بلد الكفاح العريق ضد المستعمر الغاصب الذي دام قرابة مائة وثلاثين عاما، يفرض سيطرته وهيلمانه، إنه ما زال يبحث عن هوية، بعد أن تشعبت حولها الآراء، وبعثرت أوراقها الأهواء فهل يكتشف نفسه؟.

الدلائل جميعها تشير إلى أن السفينة الجزائرية، لم تستطع تحديد قبلتها، اشتراكية أم إسلامية، بربرية أم عربية، والقبطان حائر والشعب ثائر، والسفينة تسير، ولكن.إلى أين؟.

العربي كانت هناك وقامت بعثتها برصد اتجاهات الشارع الجزائري، ونقل نبض المواطن هناك عبر صفحات المجلة.

(ذُكر في باريس اليوم أن تسعة وخمسين صحفيا لقوا مصرعهم أثناء قيامهم بواجباتهم في مختلف أنحاء العالم خلال عام 1993، وأشارت منظمة "صحفيون دون حدود" في بيان لها أن ثلاثين صحفيا آخرين قد لقوا حتفهم خلال العام الحالي ولكن لم يتبين ما إذا كان لوفاتهم علاقة بعملهم الصحفي.

وقالت إن أكبر عدد من الضحايا الصحفيين كان في أوربا حيث قتل 23 صحفيا من بينهم ثمانية لقوا حتفهم في البوسنة والهرسك.

وذكرت أن أعمال العنف الناجمة عن التشدد الأصولي كانت أيضا سببا في مقتل صحفيين، من بين هؤلاء ثمانية قتلى في الجزائر).

كنت جالسا خلف مكتبي في المجلة وأنا أقرأ هذا الخبر، قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله.من كثر البلاء، وعظم الابتلاء، وما هي إلا لحظات حتى جاءتني السكرتيرة تقول: إن رئيس التحرير يريدك.

دخلت.. وكان عنده بعض الزملاء، جلست، فقال: نريد إرسال بعثة إلى الجزائر، فالأوضاع هناك تستدعي أن نكون موجودين. قلت: ولكن ما يحدث في الجزائر صراع سياسي، ومن عادتنا في المجلة أن نتجنب القضايا السياسية. قال: ننقل للقارئ ما يحدث في الجزائر وفق أسلوبنا الخاص ومنهجنا.

وكانت رحلة الجزائر من نصيبي وزميلي المصور حسين لاري.

في صباح يوم الثامن والعشرين من شهر يناير الماضي، وصلنا القاهرة، محطة التوقف التي سننطلق منها إلى الجزائر، والقارئ قد يتساءل عن الشعور الذي كنا نشعر به ونحن ذاهبون إلى بلد تعمه الفوضى، وتجتاحه الاضطرابات.

لا أستطيع أن أقول إن الخوف والرهبة لم ينتاباني، فالمهمة ليست من المهام اليسيرة، ولكن إحساسي بالسبق الصحفي وزيادة الرصيد المهني، والخبرة التي سنكتسبها بعد هذه التجربة المثيرة كان هو الأكثر سيطرة. في القاهرة التقينا بأحد الزملاء من الصحفيين العرب، والذي كان لتوه عائدا من الجزائر، وعندما سألناه عن الأوضاع هناك، جعلنا نشعر حقيقة بخطورة الموقف، وصعوبة الخطوة التي نقبل على تنفيذها، فالأوضاع غير مستقرة نهائيا والأمور تسير في اتجاهات متضادة قد تنحدر بالبلد إلى الهاوية، والشوارع "حسب وصفه" شبه خاوية، والناس في غاية الرعب والخوف، وظل صاحبنا يشرح لنا ويعطينا نصائح بعدم الإقدام على هذه الخطوة، ولكن، قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، ولا مجال للتراجع الآن، حملت هذه التحذيرات في عقلي، وعزمنا على القيام بالمهمة.

اللحظة الأولى

حطت بنا الطائرة بعد رحلة استغرقت حوالي أربع ساعات من مطار القاهرة الدولي إلى مطار هواري بومدين في الجزائر، وكان أول تساؤل تبادر إلى ذهني منذ وجودنا في مطار القاهرة هو: ماذا يفعل كل هؤلاء المصريين المسافرين إلى الجزائر في مثل هذه الظروف؟.

اقتربت من أحد الموظفين في المطار وطرحت عليه السؤال، فقال: جميع هؤلاء مدرسون، وليس هؤلاء فقط، بل وهناك غيرهم كثير، قلت: فالحمد لله إذن، فما دام هناك مدرسون ذاهبون، فالأمور بها نوع من الاستقرار، ولكنني رجعت وقلت في نفسي: ليس هذا بالضرورة!!.

في مطار هواري بومدين، كان السؤال الثاني الذي طرحه العقل، عن الطريقة التي يفكر بها الشباب في جزائر اليوم، وقد جاء نتيجة ملاحظة عدد من القادمين من السفر خصوصا من الشباب الجزائري، وكل واحد منهم يرتدي ثلاثة قمصان ومعطفين.. وهكذا، استغربت في نفسي وقلت يحسن أن أدوّن الملاحظات ولا أجهد نفسي في التفكير فيها لأنني قد أواجه الكثير منها.

في طابور ممتد وقفنا ننتظر، وصلنا عند موظف الجوازات، قال كلاما لم أفهمه، فهم هناك يتحدثون اللغة العربية، ولكن بطريقتهم الخاصة. حاولت أن أشرح له وحاول أن يفهمني ولكن دون جدوى، لقد كنت قلقا جدا، فأنا دائما سيئ الحظ خصوصا مع رجال الأمن، ولكن للأمانة كان الرجل غاية في الود والاحترام، وجاء الفرج إذ اقترب مني شخص وسألني: أأنتما بعثة "مجلة العربي"؟ قلت: نعم. قال: أنا من السفارة الكويتية اسمحا لي بالجوازات. وأخذ يتكلم مع موظف الجوازات ويشرح له باللهجة الجزائرية التي يظهر أن صاحبنا أجادها من كثرة بقائه هناك، والحق أنها طريقة جميلة في الحديث، ويكثر فيها استخدام الكلمات الفرنسية، وأنا شخصيا مازلت أرددها مع نفسي أحيانا كثيرة.

انتهينا مع موظف الجوازات وقال صاحبنا إننا يجب أن نذهب في وقت لاحق إلى وزارة الخارجية لاستخراج إذن ممارسة العمل الصحفي كي تسهل مهمتنا، وقفنا عند سير التفتيش، وسألنا الموظف: هل معكما شيء من الممنوعات؟ قلت: مجرد ملابس وآلات تصوير. قال: هذه ممنوعات!! قلت: ولكننا صحفيان!! قال: فيجب أن تسجل آلات التصوير. بقيت أنتظر وذهب صاحباي لتسجيل الممنوعات.

وبينما أنا أنتظر وجدت الأشخاص الذين يرتدون العديد من القمصان والمعاطف والكثير من الأشياء الأخرى في شد مع رجال التفتيش، وكل واحد منهم ممسك بحقيبة ملأى بالملابس وشامبو وصابون.. وأشياء غريبة، وعلمت أن هؤلاء يذهبون إلى مصر وسوريا ودبي، ودول أخرى يسهل عليهم دخولها، ويحضرون الملابس وخلافها لبيعها بالأسواق الجزائرية التي تفتقر إلى أي بضائع مستوردة. أي أنهم تجار شنطة.

وفي الشارع تعرف القصة..

الجو ممطر، بل شديد المطر، والبرَد "المطر المتجمد" ينهمر بغزارة، الساعة السادسة مساء، ونحن نقترب من الفندق الذي سنقيم فيه، طرق ضيقة، شوارع متعرجة تخترق الجبال، التي تحف الجزائر العاصمة، وأزقة عن اليمين وعن الشمال، واللون الأخضر هو المسيطر على المكان، الأرض والجبال وحتى المنازل التي شيدت بطريقة غريبة على الجبال كستها الطبيعة بخضرتها كي تعلن انضمام المنازل إليها وسيطرتها عليها، في أعلى الجبل يقبع فندقنا الذي سنقيم فيه، والمطل على الجزائر العاصمة من أربعة جوانب، فهنا الميناء وهناك البحر، وفي ذلك الجانب الجبال، وفي الجانب الرابع المدينة بشوارعها العتيقة.

ما أن وضعنا حقائبنا حتى شعرت بميل شديد للخروج إلى الشارع، ولكن هل سيكون الوضع آمنا؟، قلت لنفسي لا داعي للقلق، وإننا إذا لم ننزل إلى الشارع ونتحدث مع الناس فلن نستطيع أن نفهم حقيقة ما يحدث، فأنا أعتقد أننا في الشارع سنعرف القصة كاملة، وخرجنا.

الليل دائما جميل، ولكل بلد في العالم ليله، وفي الجزائر الهدوء العام، هو سمة الليل، وأشباح الليل "قوات الأمن" هي المسيطرة على الوضع، ومع أن هناك حظر تجوال منذ حوالي سنتين، يبدأ من الساعة الحادية عشرة والنصف مساء، وينتهي في الرابعة والنصف فجرا، إلا أن هناك أناسا يخرجون في الليل، وفي الشارع عربات تتحرك، وما دمت لا تخالف فلا أحد يعترضك.

عدنا أدراجنا طمعا في الحصول على وجبة من الأكل الجزائري يليها قسط من الراحة، خاصة أننا لم نستطع في هذا الليل الموحش التحدث مع أي شخص، وكنت دائما أقول إن لكل بلد بابا تدخل منه، وباب الجزائر شارعها، ولكننا يجب أن نجد المفتاح الذي يفتح لنا هذا الباب.

وفي الصباح الباكر أفقت بعد نوم متقطع لشدة صوت البرق والرعد ولغزارة الأمطار، ولم تكن الشمس مشرقة، وكانت الغيوم تحجب أشعتها، والمطر لم ينقطع، القلق يراودنا بأننا لن نستطيع التقاط صور جيدة وحالة استمرار المطر في الأيام التالية، خاصة بعد أن علمنا أنه منذ عدة أيام والجو على هذه الحال.

خرجنا سيرا على الأقدام باتجاه لا نعلم إلى أين سيأخذنا، نحاول جاهدين تفادي شدة المطر دون جدوى، أوقفنا أول سيارة أجرة، وقلنا لسائقها: نريدك أن تأخذنا إلى أي مكان عام. قال: أنا تحت أمرك، وكل الجزائر أمكنة عامة. قلت: كيف تقول هذا وأنا أعلم أن هناك ضواحي وأحياء ومناطق من الصعب الدخول إليها لأن الجماعات الإسلامية مسيطرة عليها؟ قال: لا عليك قل أين تريد أن آخذك وسآخذك. قلت في نفسي: إن سائق التاكسي هذا هو المفتاح الذي سيفتح لي بوابة الجزائر. قلت: نحن صحفيان من مجلة العربي جئنا لعمل استطلاع عن الجزائر. وما أن أتممت جملتي، حتى أوقف السيارة والتفت إلينا التفاتة غريبة أصابتنا بالذهول ونوع من القلق. وقال: بجد أنتم من مجلة العربي؟ قلت بتردد: نعم. قال: لا أصدق بأنني سأقابل في يوم من الأيام أناسا من المجلة التي تربيت عليها، أنا تحت أمركم ودون أي مقابل، ولن أدعكم حتى آخر يوم في رحلتكم، والآن أين تريدون أن آخذكم؟ قلنا: السوق مثلا. قال: وأي سوق؟ قلنا: أي سوق على أن يكون كبيرا وعاما. قال: إذن "دادش مراد". قلت: وماذا تعني بقولك "دادش مراد"؟ قال: أعني سوق دادش مراد.

وفي طريقنا استغربت الزحام الشديد في الطرقات، سألت السائق عن سر هذا الازدحام هل هو بسبب المطر أم أن هناك شيئا ما قد حدث. قال: لا، فالجزائر دائما هكذا مزدحمة. قلت: ألا يخاف الناس؟ قال: ومم يخافون؟ قلت: مما يقع من أعمال عنف يومية. قال: وأين تقع أعمال العنف هذه التي تتكلم عنها؟ قلت: هنا في الجزائر. قال: غير صحيح!! صحيح أن هناك حوادث قتل تقع، وأن هناك معارضة شديدة، وجرائم، ولكن لا يوجد أعمال عنف في الشوارع، ولم نسمع يوما أنه وقع انفجار في مكان معين، وما يحدث هي عمليات تصفية حسابات وانتقامات وصراع على السلطة والحكم، المواطن العادي لا دخل له فيه، الجزائر بلد كبير جدا وفيه غابات وجبال شديـدة الوعورة، وفي تلك الجبال والغابات يعسكر المعارضون الإسلاميون، من أتباع جبهة الإنقاذ وغيرها.

ثم قال السائق: أين تريدون في السوق؟ قلت: أوله. قال: نحن في أوله.نزلنا نتمشى، ونتفرج على البضائع المعروضة في المحلات، محلات كثيرة ومتعددة الأنشطة، سألت نفسي: إن الجزائر بلد غني بما فيه من خيرات طبيعية كالنفط والزراعة، وغيرهما.ولكن الحالة العامة للبلد تدل على أنه بلد فقير، ويبدو أن السياسة الاقتصادية التي كانت متبعة منذ الاستقلال لم تكن مناسبة للأوضاع المعيشية للمجتمع وطبيعته.

والاقتصاد الجزائري قام منذ البداية على أساس سيطرة الدولة "المشروع العام" على النشاط الاقتصادي، وتوجيه سياسات التنمية نحو الاشتراكية مع التركيز على القطاع الصناعي بالأساس ثم حدث تنشيط للاقتصاد الخاص منذ أواخر الثمانينيات، مع تبني سياسات للإصلاح الاقتصادي ولمواجهة مشكلات المديونية الخارجية والبطالة والتضخم.

والجزائر اليوم تعيش تدهورا اقتصاديا شديد الوطأة، وآثاره واضحة على الوضع العام للبلد في الأصعدة الأخرى سواء السياسية أو العسكرية أو الاجتماعية أو غيرها، وخير دليل على سوء الوضع الاقتصادي هو ندرة بعض السلع الضرورية للمستهلك سواء سلع غذائية أو مما يحتاجه المواطن من مواد استهلاكية، فالديون الخارجية للجزائر تقدر بحوالي (27) بليون دولار، وخدمة هذه الديون ترتب سنويا ما قيمته (8) بلايين دولار من مداخيل البلاد من العملة الصعبة التي تتراوح ما بين (11) و (12) بليون دولار.

هذا من جانب، أما من جانب آخر فقد ازداد الوضع الاقتصادي سوءا مع الانخفاض في أسعار النفط الذي كان تأثيره على الجزائر خاصة تأثيرا سيئا للغاية.

وبهذا فإن ما تبقى من المدخول السنوي للدولة يقدر بحوالي ثلاثة بلايين دولار يتم صرفها على الخدمات العامة للبلد.

إضافة إلى ذلك عدم التوازن بين الأجور وأسعار المواد الاستهلاكية (بفرض أن الفرد سيكتفي باحتياجاته الضرورية) فالأجور متدنية، ومتوسط الأجور حوالي (5000) دينار جزائري (200 دولار حسب السعر الرسمي، فسعر الدولار في السوق السوداء يزيد على السعر الرسمي بثلاثة أضعاف ونصف)، وكيلو اللحم بـ (300)، والدجاج (120) دينارا، هذا الغلاء الفاحش بالنسبة للأجور، وأوضاع الاقتصاد المتردي منذ سنين طويلة، وما كان يشعر به المواطن ويلمسه من فساد في السلطة الحاكمة، وسوء في إدارة شئون البلاد، وهيمنة السلطة العسكرية على كل شيء، جعل المواطن الجزائري، يتذمر في نفسه، إلى أن انفجر بركانه وأعلن غضبه، وأوضح مطالبه، ولم تستطع الحكومة في ذلك الوقت فهم أن ذلك المواطن البسيط الهادئ في طبعه استطاع أن يهزم فرنسا، ويخرجها من ديارها، فهو بلا شك قادر على ما دون ذلك.

أصل الحكاية

كان المواطن الجزائري يعيش مع نفسه أي أنه يقنع برزق يومه، ويرضى بما تقسمه له الأقدار، دون تأفف أو ملل، ولقد سرى بين الناس حديث يدعو إلى المطالبة بالحقوق العامة للمواطن، معللين هذه المطالبة بأن رجال السلطة يتمتعون بجميع المميزات، ويسيطرون على جميع مداخيل البلاد التي لا يعرف المواطن كيف تصرف.

وبدأ هذا الحديث يتحول إلى مطالب عامة بالإصلاح الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وكانت النبرات الحادة تحمل في طياتها غضبا عارما، وبما أن الجزائر دولة ذات نظام جمهوري، قام على أساس وجود المجلس الشعبي الجزائري "البرلمان" وجبهة التحرير الوطنية كحزب وحيد، وتقديم مرشح الرئاسة في استفتاء عام، فلم تكن هناك وسيلة متاحة يستطيع المواطن أن يعبر بها عن رأيه، وكانت قنوات التعبير جميعها مسخرة لصالح الحزب الوحيد الحاكم.

إلى أن جاء عام 1989 وتم إقرار التعددية الحزبية نتيجة ضغط شعبي شديد اللهجة، (أو كما يعتقد بعض السياسيين الجزائريين: نتيجة حسبة سياسية خاطئة من قبل الرئيس السابق الشاذلي بن جديد)، ووصل عدد الأحزاب اليوم إلى حوالي (64) حزبا من بينها حوالي (15) حزبا إسلاميا أبرزها جبهة الإنقاذ الإسلامية، وحركة المجتمع الإسلامي (حماس)، حركة  النهضة الإسلامية.

ولم يكن عام 1989 عاما كسائر الأعوام الجزائرية، بل يفضل الجزائريون أن يطلقوا عليه (عام التحولات) فقد شهد هذا العام إقرار التعدد الحزبي، وتجاهل هدف الاشتراكية كهدف حتمي للدولة، والتأكيد على الإسلام دينا للدولة، وأن العربية هي اللغة الرسمية.

ولقد وجد المواطنون بما ترفعه جبهة الإنقاذ الإسلامية من شعارات عاطفية مبتغاهم، واعتقدوا أن جبهة الإنقاذ قادرة على انتشال البلد من الضياع الذي تتجه إليه، تبلور هذا الاعتقاد بما أفرزته نتائج انتخابات المجلس البلدي لعام 1990، إذ تمكنت جبهة الإنقاذ من الفوز بـ 32 ولاية من أصل 48.

وتتصاعد الأمور.إلى أن تقرر إجراء أول انتخابات تشريعية في الجزائر وفق نظام التعددية الحزبية في (26 ديسمبر 1991)، والتي أسفرت عن فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية بأكثر من (70%) في الانتخابات الأولية في يناير 1992، وقد أدت هذه النتيجة إلى تغيرات مفاجئة على ملامح الخارطة السياسية في الجزائر، إذ تصاعدت خلالها أحداث عنف تطورت إلى قيام الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد بتقديم استقالته بصورة مفاجئة، ثم تدخل الجيش وتم تأجيل الانتخابات النهائية واعتقال قيادات جبهة الإنقاذ. (ولكن بعض السياسيين الجزائريين يجزمون بأن استقالة الرئيس الشاذلي لم تكن مفاجأة، وكما أفضى لي أحدهم: إن الرئيس الشاذلي راهن على أن جبهة الإنقاذ لن تستطيع تحقيق أي نوع من أنواع الفوز في الانتخابات، ولكن حساباته كانت خاطئة، وخسر الرهان الذي أجبر بعده على تقديم الاستقالة).

ومنذ تلك اللحظة تغيرت لهجة المخاطبة، وركنت لغة الحوار جانبا ليتحدث الرصاص، وأصدرت جبهة الإنقاذ بيانا شديد اللهجة تتوعد فيه بالموت كل من يقبل أن يتولى منصبا كان من حق أعضاء الجبهة، وفعلا تعرض للاغتيال أكثر من حاكم ولاية لأنه قبل أن يعين في منصبه، ولجبهة الإنقاذ أسلوب خاص في عملية الاغتيال، فهم يرسلون لمن سيكون الموت من نصيبه كفنه قبل اغتياله أي يميتونه حيا قبل أن يردوه قتيلا.

المواجهة

واستمرت المصادمات بين جبهة الإنقاذ والسلطة الحاكمة، وتغير الصراع من صراع للإصلاح إلى صراع على السلطة.. وشهدت الجزائر أحداثا دموية مريعة، وتحصن آلاف الأشخاص من التابعين لجبهة الإنقاذ في الجبال الجزائرية التي من الصعب على الجيش دخولها، بل وازدادت الأمور إلى سيطرة جبهة الإنقاذ على عدد من الأحياء والمدن "كالقصبة والبليدة..  وغيرهما" سيطرة تامة، ففي البليدة مثلا يتم إلزام الباعة بأسعار محددة من يتجاوزها يكون مصيره الموت، "سعر كيلو اللحم 150 دينارا، أي نصف السعر"، كما تم منع دخول الصحف والمجلات، وفصل عربات النقل الجماعي بوضع حاجز يفصل بين الرجال والنساء.

ويستمر العنف ولا يتوقف، وتزداد الجروح اتساعا ولا تندمل، وتعيش البلاد في حالة فوضى، ويعيش المواطن في حالة ذهول، وتتعلق الآمال في "ندوة الوفاق الوطني" التي عقدت يومي 25 و 26 يناير الماضي، ولكنها تفشل في تحقيق الوفاق، بعد أن قاطعتها الأحزاب المهمة، ولكنها استطاعت تحديد هوية الحاكم، بتعيين الأمين زروال رئيسا للجمهورية.

البحث عن هوية

الجو في الجزائر شديد البرودة، والجو الإنساني شديد السخونة، وما دمت تسير في الشوارع فإنك تسير حذرا من شيئين تحاول تفاديهما، الأمطار المنهمرة بغزارة، والرصاص الطائش الذي لا تعلم من أين سيأتيك، والناس هنا وكأنها لا تبالي، فالشوارع مزدحمة غاية الازدحام، والأسواق مكتظة بالناس الذين اعتادوا سماع الأخبار السيئة ولكنهم ملّوها، وينتظرون الفرج أيا كان نوعه وأيا كانت جهته.

لقد كنت أقول في نفسي دائما إن الصراعات السياسية ليست واضحة الأسباب والدوافع، وإنها غالبا ما تحمل أبعادا أخرى غير ما تراه العين ظاهرا وما تسمعه الأذن حاضرا، وإنه بكل تأكيد ثمة صراعات أخرى تكون محاذية للصراعات السياسية ومرتبطة بها، وقد تساءلت كثيرا إذا كانت هذه الافتراضات تنطبق على ما يدور في الجزائر من صراعات أم لا تنطبق.

صرت أتعامل مع الأشخاص والأحداث والأمور اليومية بعين الباحث، حتى وجدت الإجابة الوافية عن تساؤلاتي، وجاء الواقع ليؤكد صدق نظريتي، وواقعية افتراضاتي، فالجزائر اليوم لا تعيش صراعا سياسيا على السلطة فقط، إنما تعيش صراعا أكثر خطورة وضراوة، ألا وهو صراع الهوية، وهناك عدة تيارات تنادي باتباع ثقافات وحمل هويات غير عربية.

حملت افتراضاتي ونظرياتي، وذهبت بها للدكتور تركي رابح عمامرة رئيس جامعة الجزائر، والذي قاد حملة قوية منذ الاستقلال لتعريب اللغة في الجزائر، وقد قال لي: "إننا نعاني صراعا ثقافيا وحضاريا عنيفا في الجزائر بلد المليون ونصف المليون شهيد، وذات المساحة الواسعة، والشعب المتطور علميا وتقنيا، هذا الشعب يعاني اليوم من الغزو الثقافي والاستعمار الفكري، لأن فرنسا عندما خرجت من الجزائر تركت وراءها كما يقولون "مسمار جحا" هذا المسمار هو الفكر الأوربي والثقافة الأوربية، وهي طاغية هنا بصورة عنيفة خاصة وأن الجزائر مثل تونس والمغرب قريبة من أوربا، فالصحف تصدر في باريس وبعد ساعة تكون في الجزائر.

واليوم ومع الأسف الشديد نجد من يناقش في قضية الهوية، فهل نحن عرب أم أمازيغ أم أوربيون؟.وأقول مع الأسف لأننا بعد هذا الجهاد الطويل ضد الاستعمار، وبعد تلك التضحيات الكثيرة، نجد اليوم من يقول إننا أمازيغ ولسنا عربا، والبعض الآخر يقول نحن أوربيون واتجاهنا أوربي.

*ماذا عن حملة التعريب التي عملتم بها منذ الاستقلال؟.

- الجزائر عندما استقلت عام 1962 كان كل شيء مفرنساً، فعندما كنت تخرج إلى الشوارع والمدن الجزائرية تجد كل شيء مكتوبا بالفرنسية، وتجد أن أسماء المدن فرنسية، مثلا الجزائر (آرجي)، وعنابة (بونة)، ووهران كانت تسمى (أوران).

وبعد الاستقلال أرادت الجزائر أن تعيد وجهها الإسلامي مرة أخرى، فقمنا بثورة أطلق عليها "ثورة التعريب" أو "المعركة من أجل التعريب"، وكانت بالفعل معركة لا تقل ضراوة وعنفا عن المعركة المسلحة ضد العدو، ولكن هناك فرقا بين المعركة المسلحة ومعركة التعريب، ففي المعركة المسلحة العدو محدد، وكان الجزائريون جميعهم يدا واحدة في وجه الاستعمار الفرنسي حتى انهزم عسكريا، ولكن معركة التعريب، أي تحقيق عروبة الجزائر ميدانيا، فإن العدو هنا غير مادي، ووجدنا أن هناك عددا كبيرا جدا من الجزائريين الذين تثقفوا بالثقافة الفرنسية، وتكونوا تكوينا فرنسيا في عهد الاحتلال يدافعون عن الثقافة الفرنسية واللغة الفرنسية، وأنهم يفهمون الاستقلال فهما ماديا، وفي نظرهم أن الاستقلال هو النشيد الوطني والجيش الوطني والعلم الوطني، ولكن اللغة والثقافة والسلوك والمفاهيم هذه كلها يريدونها أن تبقى كما هي فرنسية، وذلك بدعوى التطور والانفتاح ومسايرة العالم تكنولوجيا.

المعركة الأخرى

ولكن هل المشكلة التي خلفها المستعمر الفرنسي تكمن في القضاء على اللغة العربية؟ أم أنه عمل لما هو أبعد من ذلك وأهم، كزرع ثقافة عربية مفرنسة، أي متأثرة بالثقافة الفرنسية، وجيل يطالب بالانتماء إلى الثقافة الفرنسية؟.

إن الجزائر قبل أن تقع تحت الاحتلال الفرنسي كانت ولاية تابعة للخلافة العثمانية، وكانت الجزائر إلى جانب أقطار شمال إفريقيا لديها ولاء شكلي للوالي العثماني، ولكنها عمليا كانت تدير عملها بنفسها، ورغم هذا الولاء إلا أن اللغة التركية لم تنتشر في الجزائر بل كانت مقصورة على الحكام العثمانيين وعلى قطاع معين من الجيش الذي كان يسمى "الانكشارية"، أما التعليم فكان يتم من ألفه إلى يائه باللغة العربية، في المدارس والمساجد والزوايا والكتاتيب، كما أن الإدارة كانت تسير باللغة العربية.ولكن بعد ما جاء الاحتلال الفرنسي عام 1830م تغيرت أمور كثيرة، وعمل الاستعمار على تغيير البنية الأساسية للبلد، ولقد سألت الدكتور تركي عمامرة عن أهم المحاور التي عمل عليها الاستعمار الفرنسي لإحكام السيطرة على الجزائر، فقال:

إن السياسة الفرنسية بعد الاحتلال اتخذت أربعة محاور وهي (محور الفرنسة، ومحور التنصير ومحور التفقير، ومحور الاندماج والتجنيس).

أما محور الفرنسة فقد قامت بإبعاد اللغة العربية وأحلت مكانها التعليم الفرنسي، وألغت الإدارة الجزائرية القديمة وأنشأت إدارة مفرنسة 100%، واستمرت هذه السياسة حتى استقلال الجزائر.

أما سياسة التنصير فقد قامت باحتلال المساجد والسيطرة عليها، وحولت المساجد المهمة إلى كنائس وكاتدرائيات، وقد تم إرجاعها بعد الاستقلال إلى مساجد.

أما التفقير، فكما هو معروف أن الجزائر بلد زراعي من الدرجة الأولى وبه أراض زراعية خصبة، وقد قام الاستعمار بنزع ملكية الأراضي من الجزائريين وأعطوها للأوربيين الذين أحضروهم لملء الجزائر بهم.

أما المحور الأخير فهو الخاص بالتجنيس والاندماج، فقد قامت فرنسا بفرض جنسيتها على الجزائريين، فمثلا الشيخ عبدالحميد بن باديس، وهو من كبار رجال الإصلاح والسلفية كان مكتوبا في بطاقته "مسلم فرنسي"، ففرنسا كانت تعترف بالإسلام كدين وتنكر علينا جنسيتنا العربية، لأنها أرادت أن تمسح شخصية الجزائر العربية وتجعلها جزءا من فرنسا، ولهذا تم عام 1938 إصدار قانون رسمي بأن اللغة العربية في الجزائر هي لغة أجنبية، أي أن الشعب الجزائري شعب فرنسي.

الجزائر إلى أين؟

سؤال تقليدي يطرح دائما للحالات المشابهة لما يحدث ويدور في الجزائر.إلى أين؟ ولكن ما يحدث في الجزائر ليس كما يحدث في أي دولة أخرى!! إن الجزائر اليوم تسير في اتجاه متشابك تتعدد فيه الأدوار، وتكثر فيه المطالب، إنها حالة فريدة من نوعها، والصراع الدائر في الجزائر اليوم بدأ صراعا ديمقراطيا، وتطور حتى أصبح اليوم صراعا دمويا تتخلله عمليات الانتقام وتصفية الحسابات والمصالح الشخصية، إن الصراع الدائر في الجزائر اليوم بدأ بشعارات الإصلاح، وتطور إلى الرغبة في الحكم والطمع بالسلطة.

لقد كانت الجزائر تعيش في حالة تحد مع النفس ومع الغير، وذلك من أجل إثبات الوجود والقدرة على العيش خصوصا بعد الاستقلال، وكان البلد متجها نحو الإعمار والتنمية، وطوال فترة حكم الرئيس هواري بومدين لم يكن هناك أي نوع من أنواع التذمر أو المطالبة الشعبية، وبعد أن توفي الرئيس هواري بومدين خرج الشعب يطالب بالحرية السياسية وحرية الرأي، وثار  ضد سياسة الحزب الواحد رافضا استمرارها، فجاءت التعددية الحزبية، وكان للشعب ما أراد، حتى أصبح في الجزائر اليوم أكثر من 64 حزبا، وقد رافق هذه التعددية الحزبية تعددية في حرية الرأي والفكر.

إن الخلاف اليوم في الجزائر ليس بين الحزب الحاكم وجبهة الإنقاذ الإسلامية، بل كثرت الأحزاب وتعددت وسائل إعلانها رفض السياسة المتبعة في حكم الجزائر، وجبهة الإنقاذ نفسها انقسمت وخرجت منها أحزاب جديدة.

الجزائر.. إلى أين؟؟ لا أحد يستطيع الإجابة عن هذا السؤال إلا الجزائريون أنفسهم، فهم أصحاب القرار، وبيدهم الحل، فإما أن ينتشلوا بلدهم قبل أن يغرق في بحر الدماء، ويرسوا بالسفينة الجزائرية إلى بر الأمان، وإما أن يتركوا الأمور تزداد تدهورا، وتصل إلى حال لا يعلم خاتمتها إلا الله.

الشارع الجزائري اليوم يريد الخلاص من حالة الهلع والخوف والفوضى التي يعيشها بأي شكل من الأشكال، المواطن الجزائري يريد أن يلتم بأفراد أسرته التي شتتها تردي الأوضاع، وسوء الأحوال المعيشية، فهناك قرابة مليوني مهاجر جزائري خارج وطنه.

من أعلى شرفة الغرفة التي كنت أسكن بها في الفندق، وبعد أن حزمت حقائبي استعدادا للرحيل، جلت بنظري على العاصمة الجزائرية، وأفكار كثيرة تدور في عقلي، وعلامات استفهام عديدة تتقافز على خيط الأفكار، وعلامات تعجب تقف مشدوهة لما يحدث في هذه العاصمة.ونقط وفواصل وأحرف وكلمات وسطور، كان آخرها هذا السطر.

أهم الملامح الرئيسية لجمهورية الجزائر الشعبية

العاصمة: الجزائر. الموقع الجغرافي: شمال غرب إفريقيا، وتطل على ساحل البحر المتوسط شمالا وتحدها من الشرق تونس وليبيا، ومن الغرب المغرب وموريتانيا، ومن الجنوب مالي والنيجر.

المساحة: 2.381.741 كلم مربعا. عدد السكان: 25.063.000 نسمة "تقدير 1989".

الدخل القومي الإجمالي: 53.1 مليار دولار "1989". متوسط دخل الفرد: 3170 دولارا "1989". أهم الحاصلات الزراعية: الحبوب والكروم والبطاطس والتمور والفواكه والخضروات، وبها ثروة حيوانية كبيرة. أهم الموارد الاقتصادية: البترول. أهم الصناعات: الحديد والصلب والأسمدة والمنسوجات وتجميع السيارات. العملة المتداولة: الدينار الجزائري.

 

ماضي الخميس 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات