دراسات أدبية: الشعر والتراث تواصل.. أم انقطاع؟

 دراسات أدبية: الشعر والتراث تواصل.. أم انقطاع؟

العلاقة بين الحداثة والتراث قضية يطرحها كل عمل فني يتم إبداعه. وتبرز هذه القضية في الفترات التي تشهد انطلاق اتجاهات أو مذاهب فنية تبدو مغايرة لما هو سائد.

في الغرب، طرحت قضية المعاصرة والتراث مع بدايات عصر التنوير في أوروبا، وكانت الاستجابة هي العودة إلى استلهام الموروث ومحاكاة الأعمال الفنية والأدبية الكبرى في التراث الإغريقي. لكن هذه القضية لم تتخذ أبعادها الحقيقية إلا بانطلاق الحركة الرومنطيقية في أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر.

تميزت الرومنطيقية بتأكيد أهمية العنصر الفردي في الأدب استنادا إلى موقفها الفلسفي الذي يعلي الفرد على المجتمع من حيث الأهمية. وكانت النتيجة الحتمية لهذه النظرة هي الإيمان بأن الإبداع انقطاع عن التراث يحقق ذاتية الأديب أو الفنان ويكسبه شخصيته. ولعل الحركة الرومنطيقية في أوروبا وتجلياتها الأمريكية المتأخرة التي عرفت في الولايات المتحدة في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين باسم المدرسة التجريبية، انفردت في تاريخ الأدب الغربي باتخاذ موقف يدعو إلى الانفصال عن التراث ومناهضته. لذلك فإن كاتب موضوع التراث في موسوعة الشعر وفن الشعر استهل موضوعه بقوله: إن دراسة شاملة لموضوع التراث في علاقته بالشعر تشتمل على تاريخ الشعر بأكمله لندرة الاتجاهات المناهضة للتراث في تاريخ الأدب. لذلك ليس دقيقا القول بأن تاريخ الأدب تحول دائري مستمر بين التراثية والثورة على التراث، لأن هذه الثورة كانت نادرة.

لكن التحول إلى التراثية في الغرب عاد بانطلاق حركة الشعر الحديث التي قامت لمواجهة الحركة الرومنطيقية وسميت أحيانا في النقد الإنجليزي والأمريكي الحديث بكلاسيكية القرن العشرين. ولعل أول من ثار في وجه الرومنطيقية بشكل منهجي، وثبت بالمقابل نظرة جديدة في الأدب والشعر هو الشاعر والناقد الإنجليزي تي إي هيوم في مقالته المهمة التي كتبها عام 1913 بعنوان (الرومنطيقية والكلاسيكية) والتي عدت بحق بداية مرحلة أدبية جديدة هي مرحلة ما اصطلح على تسميته بحركة الشعر الحديث التي كان هيوم نفسه وإزرا باوند ،وتي إس إليوت من أكبر دعاتها وشعرائها في الحياة الأدبية الغربية في القرن العشرين.

الأدب والتحولات الحضارية

تميزت مقالة هيوم بأنها أول دراسة في الأدب تلتفت إلى التحولات الحضارية لتفسر بها التحول من مذهب أدبي إلى آخر. وكان هيوم من أول من تنبه إلى أن الشكل الفني في الأدب الحديث سيتحول بشكل مواز لتحول مسار الفن التشكيلي الحديث وأول من تنبأ بخصائص هذا الشكل الشعري قبل انطلاق الحركة الشعرية الحديثة. وبهذا سعى هيوم إلى تثبيت مذهب نقدي على غير الأسس التي قام عليها النقد الأدبي المرتبط بالحركة الرومنطيقية، لاعتقاده بأن المرحلة الرومنطيقية في الشعر الغربي قد انتهت لكن مبادئها ظلت مستمرة في النقد الأدبي.

استطاع هيوم أن يثبت مبادىء جديدة أفاد منها إزرا باوند بشكل أخص في وضع أسس المدرسة التصويرية (Imagism) وتي إس إليوت في تأكيده ارتباط الإبداع الحديث بالتراث. وأهم هذه المبادىء نفي مبدأ الذاتية في الشعر والتعبير عن العواطف الفردية. ودعا إلى استخدام الصورة الحسية والاستعارة غير المألوفة التي تجعل القارىء يرى باستمرار أشياء حسية وتمنع من الوقوع في التجريد. بهذا رسم هيوم معالم القصيدة الحديثة التي تستنتج مبادئها من دراسته وإن لم يستخدم نفس المصطلحات النقدية التي أصبحت مألوفة فيما بعد، وأهم هذه المبادىء هو استقلالية القصيدة عن مبدعها لكونها ليست تعبيرا عن الهموم الذاتية للشاعر، وهو مبدأ يسمى في النقد الأدبي بلا شخصية الشعر الحديث، ويرتبط بالميل إلى تخطي مظاهر الطبيعة العضوية بما في ذلك الإنسان الفرد وتأكيد اللا شخصية والموضوعية كأسلوب في الأدب. وهذا ما يفسر عودة الأدب الحديث إلى الأسلوب الملحمي في أعمال أدبية أساسية خصوصا مع جيمس جويس في كتابه المهم يوليسيز (عوليس) الذي استلهم فيه البناء الملحمي الهومري، وعد أحد الكتب الأساسية في الحركة الأدبية الحديثة. من هنا أيضا تكتسب كلمة (خلق) أو (إبداع) إحدى دلالاتها في النقد الأدبي الحديث، إذ يصبح الأديب مستقلا عما يبدع، وجوده غير مرئي.

هذه الاستقلالية التي تكتسبها القصيدة عن مبدعها تصلها بالتراث الشعري بل تؤكد ولادتها من التراث. ولذلك سمى هيوم الحركة الشعرية الجديدة (كلاسيكية)، ومنه أفاد إليوت في تطوير هذه المبادئ، بشكل أخص في مقالته المهمة والشهيرة (التراث والموهبة الفردية) التي كتبها عام 1919 وأكد فيها العلاقة الإيجابية بين الكتابة المعاصرة والتراث.

الحس التاريخي

كان تعريف إليوت للتراث الذي ينم عن نظرة ثاقبة وواعية ومثقفة حجر الزاوية في بنية النقد الأدبي الحديث. يقول إليوت: (إن التراث يتضمن أساسا، الحس التاريخي الذي ينطوي على إدراك نافذ ليس لماضوية الماضي فحسب بل لحضوره، وهو يلزم الشاعر بأن يكتب لا بوعي الانتماء إلى جيله فحسب، بل بتأثير الشعور بأن أدب بلاده بأسره موجود بشكل متزامن ويؤلف نظاما متزامنا. هذا الحس التاريخي ـ على حد قوله ـ هو حس بالسرمدي وهو حس بالزمني أيضا، كما أنه حس بالسرمدي وبالزمني معا. وهو في الوقت نفسه ما يجعل الكاتب يعي بحدة مكانه في الزمن، أي كونه معاصرا). ويستنتج إليوت مبدأ أساسيا في النقد وهو أنه (ما من شاعر أو فنان، في أي فن من الفنون، يصل إلى معناه الكامل وحده. إن أهميته وإدراك قدره هما إدراك وتقدير لعلاقته مع الشعراء والفنانين الراحلين.. فما يحدث عند إبداع عمل فني جديد يحدث بشكل متزامن لجميع الأعمال الفنية التي سبقته، فالأعمال الفنية القائمة تشكل نظاما مثاليا فيما بينها يتحور بدخول العمل الفني الجديد إليها.. إن الماضي يجب أن يبدله الحاضر كما أن الحاضر يوجهه الماضي، والشاعر الواعي لذلك يكون واعيا للصعوبات الكبيرة التي يواجهها ولمسئولياته العظيمة).

كانت الحداثة في الفن والأدب في الغرب، بما قدمته من فكر ونقد وإبداع فني وأدبي، عودة إلى تأكيد حتمية العلاقة الإيجابية بين المعاصرة والتراث. وهذا المبدأ الذي أكده الشعراء والنقاد والمفكرون الذين أسهموا في وضع أسس الحركة الحديثة بمختلف مذاهبهم واتجاهاتهم، لا يعني عودة عمياء إلى الوراء لمحاكاة الأعمال الأدبية التي جاء بها القدماء، ولا يقصد به استنساخ الأنماط القديمة ولا نقل أسلوب دون غيره في التعبير الأدبي ولا الالتزام بالأجناس الأدبية التقليدية. ويجب التفريق هنا بين التقليد من ناحية واتباع التقاليد الأدبية من ناحية ثانية، فذلك يؤدي إلى التمييز بين الاتباع الأعمى والإبداع الذي وإن قام على استلهام التراث والتغذي منه فإنه يأتي بعمل فني أصيل يمتلك شخصيته الخاصة. والتراث ليس هو التراث الشعري أو الأدبي فحسب، إنه موروث الأمة الحضاري والثقافي بأسره، بمختلف وجوهه وتجلياته. إنه إنجازاتها التاريخية والفكرية والفنية، وهو كل شاهد في عصرنا على وجود تلك الأمة عبر التاريخ. فعلاقة أمة من الأمم بتراثها هو وعيها لحضورها في الماضي ولحضور ماضيها في الحاضر.

التراث والإبداع الشعري

إذن أعادت حركة الشعر الحديث في الغرب ربط الإبداع الشعري بالتراث، وطالما ردد الشعراء والنقاد العرب المحدثون أنهم عادوا إلى تلك الحركة وأفادوا منها وخصوصا من تي إس إليوت الذي غالبا ما يتردد اسمه عند تناول الشعر العربي الحديث بالبحث أو بالدراسة.

لكن يبدو لمن يتتبع ما يكتب ويقال عن قضية العلاقة بين الشاعر العربي الحديث وتراثه أن المسألة بعيدة عن الوضوح في أذهان عدد من منظري الحداثة الشعرية العربية، بل إن بعضهم يقر صراحة أنه لا يدرك معنى هذه القضية أو أنه يدركه بشكل مبتسر وسطحي.

يقول أدونيس مثلا في كتابه (الثابت والمتحول ـ صدمة الحداثة): (إذا سئلت الآن: كيف تحدد علاقتك، أنت الشاعر الحديث، بتراثك الشعري العربي، فكيف تجيب؟

ـ أجيب اولا: لا معنى لهذا السؤال ـ ذلك أني لا أستطيع أن أحدد علاقتي مع شيء غائم غير محدد، وإنما أحددها مع شاعر معين. وأجيب ثانيا بتساؤل: ماذا تعني العلاقة هنا؟

إذا كان السؤال مطروحا بمنطق الثقافة السائدة فإن هذه العلاقة تعني أن أكون مؤتلفا مع (تراثي)، أي أن لا آتي بشيء إذا لم يكن أسلافي من الشعراء عرفوه ومارسوه وأقروه.

أما إذا كان السؤال مطروحا بمنطق الرؤية الإبداعية فإن هذه العلاقة تعني أن أكون مختلفا عن أسلافي من الشعراء.. بل أكثر: لا يكون الشاعر العربي الحديث نفسه حقا إلا إذا اختلف عن أسلافه، فكل إبداع اختلاف).

من المؤسف أنه بعد أكثر من نصف قرن من الممارسة الإبداعية والنقدية لا يتمكن شاعر عربي حديث كأدونيس من أن يأتي بنظرة عميقة ومثقفة في قضية العلاقة بين الشاعر الحديث وتراثه، فلا يزيد على أن يردد ما كان يقال في هذه المسألة في بدايات ما كان يسمى بالحركة الرومنطيقية العربية كمثل ما جاء به أبو القاسم الشابي في محاضرته عام 1929، عن (الخيال الشعري عند العرب). فأدونيس مازال يظن أن علاقة الشاعر العربي الحديث بتراثه تعني نقل تجارب الشعراء السالفين وأقوالهم، ولذلك فهو لا يستطيع إلا أن يحدد علاقته مع شاعر معين، لأنه كيف يمكن النقل عن أكثر من شاعر؟ وطبيعي لمن ينطلق من افتراض خاطىء أن يصل إلى نتيجة خاطئة، فيقول أدونيس ويردد في كل مناسبة ما قاله مثلا في كتابه المذكور سابقا: (فإن أشكال التعبير الموروثة، لغة وبناء، إنما هي بمثابة القشرة والسطح، ولابد من تمزيقها، لكي نصل إلى لغة وبناء جديدين). ويقول: (إن العلامة الأولى للجدة الشعرية هي في إيصال الانفصال، إن صح التعبير، أي في نفي السائد المعمم، ورفض الاندراج فيه، والانفصال عن هذا الكلي القمعي. فالرفض أو النفي هو، بهذا المعنى، علامة الأصالة، إلى كونه علامة الجدة.

وجدت آراء أدونيس صدى لدى عدد لا يستهان به من المريدين والتلامذة الذين يرددون أقواله دون أدنى مناقشة. ولم يكن الذين ردوا على أدونيس، بصورة عامة، مختلفين عنه من حيث المنطق وأسلوب المعالجة. فقد ظهر من كفره ومن خونه ومن هزىء به. والحق أن ما يعاني منه نقدنا الأدبي الحديث، على وجه العموم، هو انعدام المنهج وضعف الفكر الفلسفي الموجه. إن نقدنا الأدبي المعاصر لم يتمكن حتى اليوم من وضع أسس نظرية لمفهوم الحداثة في الأدب، ولم يستطع أن يرسي مبادئ فكرية تحدد علاقة الشاعر أو الأديب بتراثه وبالتراث الإنساني، كما قصر عن دراسة الشكل الفني في الشعر والأدب دراسة منهجية، فلم يكن بمقدوره أن يواكب الحركة الشعرية والأدبية الحديثة، فظلت الحركة منقوصة تتصف، إلى حد بعيد، بالتجريبية، بالرغم من وجود شعراء وأدباء كبار فيها.

مراجعة المناهج السائدة

والحق أن ما يدخل في نطاق النقد الأدبي هو المنطق الذي ترتكز عليه أقوال أدونيس والأسلوب الذي يعالج به هذه القضية. أما الحديث عن إلحاد أدونيس أو إيمانه، عن خيانته أو وطنيته، فليس نقدا أدبيا بل يدخل في نطاق ما يمكن تسميته بالثرثرة حول الأدب لا نقده. إن النقد الأدبي العربي يحتاج إلى دراسات منهجية ومراجعة نقدية للمناهج السائدة فيه. ويبدو لي أن ما يطرحه أدونيس في كلامه عن علاقة الشعر الحديث بالتراث يعاني من اختلال في المنهج.

في بحث له بعنوان (في الشعرية) قدمه في ندوة عقدتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بمدينة الحمامات في الجمهورية التونسية في مايو 1981، يختصر أدونيس موقفه من قضية العلاقة بين الشعر العربي الحديث والتراث ويحاول الإفادة من علم اللسانيات الذي ارتكز عليه البنيويون في دراساتهم النقدية، قاصدا إثبات ضرورة انقطاع الشعر المعاصر عن التراث، فيلجأ إلى التحديد الذي وضعه فرديناند دو سوسير، مؤسس علم اللسانيات الحديث، للتفريق بين (اللسان) و(الكلام)، من حيث إن (اللسان) هو النظام اللغوي الذي تحكمه مجموعة من القوانين والأعراف، ويتشكل ضمنه (الكلام) وهو مجموع التجليات الواقعية لهذا النظام. فـ (اللسان) هنا ـ حسب ما يذهب إليه أدونيس ـ هو اللغة العربية بكل ما تتضمنه من احتمالات تعبيرية، وليس مجموع ما قيل أو كتب باللغة العربية حتى اليوم. وقياسا على هذا التفريق يرى أدونيس أن هوية الشاعر العربي لا تتحدد بالشكل الكلامي الذي نطق به أسلافه الشعراء وإنما تتحدد بخصوصية اللسان العربي. وبالتالي يقول إن اللغة العربية ليست هي الشعر الجاهلي، وكلام شاعر جاهلي ما لا ينبع من كلام شاعر جاهلي آخر بل ينبع من اللسان العربي. من هنا يستنتج أدونيس أن مسألة الوزن/القافية تصبح مسألة كلامية لا لسانية وبالتالي يمكن (للسان العربي أن يتجسد شعرا في بنية كلامية غير بنية الوزن والقافية). ويصل أدونيس إلى رسم ما يسميه تخطيطا أوليا للعلاقة بين الشاعر العربي الحديث وتراثه تقوم على أسس ثلاثة:

أولا : أن الشاعر العربي الحديث ( أيا كان كلامه أو أسلوبه وأيا كان اتجاهه هو تموج في ماء التراث) لأنه يكتب باللغة العربية

ثانيا :أن هذا الشاعر يتواصل في المد الشعري العربي حتى حين يكون ضديا.

ثالثا : لا يمكن لهذا التواصل أن يكون فعالا يغني الإبداع الشعري إلا إذا كان انقطاعا عن كلام الشعراء السالفين حتى لا يصبح الشعر تقليدا.

من الواضح هنا ان أدونيس يخلط بين الأدب واللغة، وهذه هي المغالطة الأساسية التي وقع فيها. فقد اعتبر أدونيس أن (الكلام) هو مجموع القصائد الشعرية العربية الكلاسيكية وأن (اللسان) هو اللغة العربية، حتى يستطيع أن يصل إلى نتيجة باطلة هي أن كل ما يكتب باللغة العربية هو بالضرورة تراثي حتى حين يكون (ضديا) ـ على حد تعبيره ـ بل يؤكد ضرورة كونه (ضديا) ووجوب انقطاعه عن التراث. والحق أن القياس ليس ما ذكره أدونيس. فإذا كان (الكلام) ـ شعريا ـ هو مجموع ما أبدع من قصائد، فإن (اللسان) هو الشعر من حيث هو نظام تستنتج مبادئه من التجليات الشعرية الموجودة ويتخطاها بتحويل هذه المبادئ إلى اطار يضم الشعر، فتصبح هذه المبادىء للشعر كما هو علم النحو للغة من حيث هو موجه وقياس. في هذا الإطار يتم الإبداع لا بما هو استنساخ لنماذج شعرية سابقة جاهلية أو أموية أو عباسية وضمن ذلك غزلية أو رثائية أو هجائية أو ذات وحدة أو تنوع أو إلغاء للوزن والقافية، بل بما هو خلق لقصائد جديدة ضمن إطار العبقرية الشعرية العربية لا كما عبرت عن نفسها بل كما يمكن أن تسمح بالتعبير عن نفسها ضمن خصائص هذه العبقرية. كما أن للغة عبقريتها المتفردة وهويتها الخاصة التي تسمح بنطق جمل لم تنطق من قبل، لكن سامعها ـ إذا كان على معرفة باللغة العربية ـ يدرك أنها عربية أو أعجمية من حيث المصطلح والصياغة.

وهم الانقطاع عن التراث

يبدو لي أن أدونيس الذي يتحدث عن الحداثة في الشعر العربي وكأنه القيم عليها، ليس في نقده سوى استمرار للمذهب الرومنطيقي الذي قام الشعر الحديث والنقد الحديث في الغرب على أساس نقضه. أما قول أدونيس بأن (الشاعر العربي الحديث أيا كان كلامه أو أسلوبه، وأيا كان اتجاهه هو تموج في ماء التراث) فليس مجرد تمييع لمدلول كلمة (تراث) وإفراغ لها من معناها فحسب، بل هو نفي وإلغاء من الأساس لقضية العلاقة بين المعاصرة والتراث عندما يصبح أي كلام وأي أسلوب وأي اتجاه معاصر مهما كان، مرتبطا بالتراث. ويحاول أدونيس أن يدعي للمفاهيم التي يقول بها صبغة الموضوعية أو المنهجية، فيعود إلى علم اللسانيات، لكنه يسيء ـ جاهلا أو عامدا ـ تطبيقه على الأدب والشعر، ويحور في منطلقاته بغية الوصول إلى نتائج باطلة تؤكد ضرورة الوقوف موقفا (ضديا) من التراث، وترى في الإبداع انقطاعا عن التراث وتأكيدا رومنطيقيا ساذجا للفردية والذاتية في الإبداع الأدبي، بينما يقوم الاتجاه البنيوي في النقد الأدبي الذي استفاد من علم اللسانيات، على تأكيد ارتباط القصيدة الواحدة بالتراث الشعري من دون الوقوع في وهم الخوف من النقل والاتباع والاستنساخ.

إن هذا الطرح لمسألة العلاقة بين القصيدة العربية الحديثة والتراث هو منطلق لعمل نقدي منهجي يتناول تراثنا الشعري ليستنتج خصائصه، كما تدرس اللغة لاستنتاج مبادئها العامة أو علم نحوها. ولعل أفضل مثال على هذا التوجه المنهجي هو ما حاوله الخليل بن أحمد في دراسته الشهيرة لأوزان الشعر العربي. ولعله لانفراد التراث العربي بهذه المحاولة المنهجية، شاع الظن بأن الأوزان والقوافي هي العنصر الموحد للشعر العربي. لكن ليس هذا هو المقصود بدراسة منهجية لتراثنا الشعري، لأن الشعر العربي لا تحده أوزانه، فهو ليس مجرد كلام موزون مقفى. إنه كلام قائم على منطق شعري خاص عبرت به العبقرية الشعرية العربية عن ذاتها. كيف يحدد هذا المنطلق الشعري؟ وبم يتميز؟ ولماذا اتخذ هذا الشكل؟ ولم وحدة الوزن والقافية؟ ولماذا اتجه في هذا المسار؟ هذه ليست اسئلة بسيطة يمكن لناقد واحد أو لعدد من النقاد أن يجيبوا عنها في مقالة أو مقالات أو كتاب أو كتب. إنها حجر الأساس الذي يجب أن ترتكز عليه الدراسة النقدية العربية حتى يصبح النقد الأدبي العربي علما قائما بذاته، وتطرح الثرثرة والأحاديث المسلية. ولن يتمكن النقد الأدبي من دراسة شعرنا الحديث دراسة جدية ذات قيمة، ما لم يكن الناقد على وعي نقدي تام بالتراث العربي، لا في مجال الشعر فحسب، بل على المستويات الحضارية جميعا. فالأمة التي لا تعي ماضيها أمة تعيش على هامش التاريخ وعلى هامش الحاضر وتمارس ضد ذاتها عملية إبادة.

 

ريتا عوض