الـبـاب الحديـدي

 الـبـاب الحديـدي

منذ تلك الأيام الخانقة من شهر يوليو 1954 وأنا على يقين من أن للموت شكلا يتقولب داخله بحسب طبيعة الميت والأحوال الاجتماعية والمناخية التي تتم فيها النقلة إلى العالم الآخر. هذا اليقين ظل على حاله لا يعتريه صعود ولا هبوط. بل إنه صار مثل سور صفيحي عال يرتفع دوني تلقائيا كلما مات إنسان أعرفه معرفة جيدة.

تخيلوا معي حيا من أحياء الجزائر معزولا عن صخب المدينة، ولكنه يجمع في نفس الوقت بين ميزات الريف والمدينة! أشجار الصنوبر والزيتون، والخضرة الدائمة على مدار السنة، ومساكن يعود بعضها إلى العهد التركي وبعضها الآخر فيلات يسكنها عدد من الأوربيين من فرنسيين ومالطيين وإيطاليين وإسبان. ولا تنسوا أن تضعوا هذا الحي في إطاره التاريخي، أي يوليو من عام 1954!

أنا لا أدري ما الذي حدث خلال نفس السنة في بقاع أخرى من العالم ما دمت أؤرخ للموت في ذهني وفي وجداني كله بشهر يوليو.1954 كل إنسان يستند إلى حادثة معينة في هذا الوجود لكي يضبط وتيرة حياته اللاحقة وفقا لها. وأحسب أنني فعلت نفس الشيء ولم أخرج عن هذا الطور.

كنا جماعة من الأطفال الهاربين من ثقل الحياة في أفنية الدور وصحونها. وهو ثقل لمسناه في الصمت الرصاصي الذي أحسسنا بوطأته بعد أن انتصف النهار. البحر بعيد عنا، والصنوبرات الرابضة في الجهة السفلية من الحي قبالة البحر ليست ذات نفع كبير عندما تتسمر الشمس في قلب السماء. كان علينا أن نواجه جبروت الحرارة بطريقتنا نحن، أي بمواصلة ألعابنا في قلب الحي إلى أن تغرب الشمس. منطق طفولي، ولكنه أثبت نجاعته!

هذا الجانب السفلي من الحي حيث نضرب مواعيدنا، تقطعه طريق ترابية واسعة. ونحن نحب الاسترخاء في هذه الطريق لأنها ذات موقع استراتيجي أولا، ثم لأن ترابها الأملس أشبه ما يكون بالرمل. نطرح أحذيتنا جانبا ونتبارى فيها حفاة دون أن نخشى على أقدامنا ضربات الحجارة المسننة وغيرها من النتوءات الأخرى. إلى اليمين، تقوم دار السيد (صانشيز)، ذلك الذي كان ضابطا في الحرب الأهلية الإسبانية إلى جانب الجمهوريين. تليها دار السيدة (فانسون)، المرأة الأنيقة المتأنقة على الدوام. أما إلى اليسار، فهناك دار السيد (زارا)، المالطي الذي ما انفك ينتظر عودة ابنه (جانو) من الهند الصينية. ونحن ما كنا نرتاح لهذا الشخص إطلاقا لأنه غريب الأطوار ويحب أكل القطط. ثم هناك دار السيد (حمود) الواسعة. باب حديدي عريض ذو مصراعين، يليه العديد من أشجار اليوسفي، ثم بئر كنا نحب أن نسمع صرير جرارها عندما تمتح الجارات الماء. السيد (حمود) هذا، ما كان يعنينا أمره ولا ما يحدث في داره الواسعة. كان رئيسا للحمالين على أرصفة ميناء الجزائر. ومعرفة ناس الحي به لم تكن عميقة لأنه لم يرفع الكلفة بينه وبينهم في يوم من الأيام، بل أكاد أجزم أنه لم يعاشر أحدا منهم.

أما نحن الأطفال فكنا نعرف حق المعرفة مساحة ذلك الباب الحديدي، بدءا بنتوءاته ومرورا بالجوانب التي نال منها الصدأ. والسبب في ذلك هو أن طباشيرنا كانت تقطعه علوا وسفلا، طولا وعرضا. فهذه حسابات وهذه كلمات عشق برىء وتلك رسوم فيها الكثير من البذاءات. وما كنا ننسى محو ذلك كله قبل أن تحين عودة صاحب الدار حتى نتمكن من إعادة الكرة في اليوم التالي دون توبيخ من أحد.

تناول محمد الصغير الطبشور، وخط أسفل الباب الحديدي ما يلي: (محمد يريد أن يتزوج فاطمة). وقرأنا ما كتب بصوت عال وإذا بفاطمة تغضب وتنصرف. من عادتها أن تصمد في وجه البذاءات كلها لكنها هذه المرة لاحظت أن الأمر صار جديا. محمد الصغير يكتب نفس الجملة منذ أربعة أيام متتالية، وقد يبلغ الخبر أذني والدها عمي (إبراهيم) ويضربها بالسوط الذي يستعمله لتسيير جواد عربته. قمت أنا ومحوت الكتابة على سبيل تلطيف الجو فانهال علي محمد الصغير ضربا. أيقنت لحظتها أنه يحبها حبا حقيقيا. وعاد بعد لحظات يسترضيني ويستلطفني. تقبلت اعتذاراته ولكن بشرط أن يعيد علينا حكاية قدور الذي رأى ما رأى.

وانفجرنا ضحكا تحت لفح الشمس حتى إن السيد (زارا) أطل من سطح داره وتهددنا. وحكاية قدور الذي رأى ما رأى عرفها ناس الحي كلهم. ولعلها انتقلت إلى أحياء أخرى بفعل الرواة. قدور هذا ينيف على العشرين، لكنه أقرب إلى الغباء منه إلى الذكاء. ويبدو أن غريزته الجنسية هاجت على حين غرة فأراد أن يعرف ما المرأة. وكان له ما أراد على طريقته. تربص بجارة من جاراته وهي تدخل الكنيف فاسترق إليها النظر من إحدى الفتحات. وقد تفطنت له هذه الجارة فأخبرت زوجها بما كان منه فنال علقة ساخنة. لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد. فها هو عم قدور، رجل الفترة المعروف في حي القصبة يكاد يدخل في صراع قاتل مع زوج الجارة. وينتهي الأمر بالتفاهم بين هذين الرجلين، ذلك أن قدور رأى ما لا ينبغي رؤيته.

دموع الضحك التي غشت أعيننا جعلتنا لا نصدق ما نرى. في بداية الطريق الترابية شاب يرتدي عباءة بيضاء متربة، منفوش الشعر ويجرجر قدمين حافيتين. أهو مجنون يتحدى وطأة الشمس؟ جمدنا في أمكنتنا، ورحنا من خلال الدموع نتبع الشاب وهو يتقدم ناحيتنا بعزم راسخ. تذبذبنا بين الرعب والدهشة غير أن السيد (صانشيز) الذي فتح باب داره والسيجارة لا تفارق شفتيه كعادته، نظر إلى الشاب وقال: (كنت أظن أن السحر موقوف على النساء!) نحن إذن أمام ساحر! توقف على مقربة منا يحدق في شيء ما في الأرض دون تحديق. شعيرات بنية تتفرق في ذقنه المدبب. أظفار معقوفة وسخة. وفجأة، استدار يسرة ودفع الباب الحديدي كأنما هو على موعد مع أهل الدار. وقمنا في إثره وأطللنا جميعا على الداخل. وقف بضع لحظات بالقرب من حافة البئر كأنما يريد أن يطفىء حريق العطش في صدره. أبصرت به إحدى الجارات فصاحت فزعا. وما أسرع ما خرجت النسوة من بيوتهن واقتربن منه بينما ازددنا نحن إيغالا في صحن الدار. صوت السيد (صانشيز) بلغنا ساخرا وهو ينشد أنشودة إسبانية لا نعرف شيئا عن مضمونها. لعله كان يهزأ بنا جميعا لما رآه من سذاجتنا. بدا وأن النسوة عرفن الساحر، فقد بادرت إحداهن وجاءته ببيضة وضعتها في باطن يمناه. حك البيضة بأظفاره القذرة ثم كسرها على حافة البئر. تفاصيل المشهد ضاعت منا لأننا جعلنا نتدافع لكي يظفر كل واحد منا بموقع يؤهله لرصد التفاصيل كلها. استخرج شيئا من بقايا البيضة وقال بصوت قاطع: (هذا ظفر النبي!). ثم أعطته إحداهن خاتمها فدفنه عند أصل حافة البئر وقال لها استخرجيه فيما بعد وانصرف. وبقينا مصعوقين مما رأيناه، ودخلنا في أخذ ورد مع النسوة إلى أن جاءت صاحبة الدار فصرفتنا.

نظر إلينا السيد (صانشيز) دون أن ينقطع عن ترديد أغنيته: (ماريا مورينا) وانفجر ضاحكا حتى كاد يبتلع عقب سيجارته.

قال لنا إن السحرة ينبغي أن يحرقوا حرقا. لولا أننا كنا نحبه لسمع منا أقبح السباب وأقذره. وأبصرنا بالشاب يغيب في آخر الطريق الترابية وينزلق بعدها بين الأشجار. لم يتبعه أحد. بقي لغزا محيرا في أذهاننا. يحل بيننا لبضع دقائق ويأتي بأشياء لا يصدقها العقل ثم يغيب إلى الأبد! قلنا لعل الأيام التالية تفسر لنا ما ألغز من أمره!

إذا كان للموت من شكل يتقولب داخله، فإن له مقدمات أيضا. وإلا فما الذي تعنيه حكاية ذلك الشاب الساحر؟ لابد وأن لها علاقة بشيء ما يوشك أن يحدث، شيء غريب نلمسه في قلب تلك الحرارة الخانقة دون أن نقوى على تبين ما هو. وما كان بنا ميل في تلك اللحظات إلى طرح التساؤلات. بل كنا في حاجة إلى ما هو جاهز ولا يتقبل أي تأويل.

مساحة من الظل امتدت إلى المكان الذي استلقينا فيه قبالة الباب الحديدي. سبح كل واحد منا في تأملاته. ولم يجرؤ محمد الصغير على القيام لكتابة جمل العشق مع أنه ظل ممسكا طيلة الوقت بالطبشور بين أصابعه. ومن صحن دار السيد حمود ارتفع صوت زوجته في غناء جميل. راحت تغني قصيدة (الورشان) التي يحن فيها مؤلفها إلى مدينة الجزائر وهو بمنفاه بتونس. إذن، التناقض مقصور على أذهاننا نحن ليس، فها هي هذه المرأة السليطة تطلق حنجرتها وكأنها لم تشهد عجبا في صحن دارها. وها هي تنتقل من إيقاع أندلسي ثقيل إلى إيقاع آخر أقل ثقلا مستعينة بضربات الدربوكة. شعرت بالحزن يلقي بغمامته على نفسي. حزن لم أدر له سببا مع أن المرح ظل القاسم المشترك بين رفاقي. ومضى وقتي طويلا يتعمد الأطباء. لكأن الوقت صار مخلوقا عاقلا يريد أن ينغص علي حياتي. ومن أدراني بأن الوقت ليس مخلوقا عاقلا؟ وكان أن تحول الحزن إلى نعاس. أحببت أن أعود إلى الدار للإغفاء قليلا غير أن خيوطا متينة ظلت تشدني إلى المكان شدا. كيف أفوت على نفسي فرصة التفرج على أشياء غريبة؟

ومضى العصر وبدأت السماء في الاحمرار. وجعلنا نخرج من منطقة الخدر التي فرضتها الحرارة علينا فرضا وزينتها في أنفسنا تلك الغرابات التي أتاها الساحر الشاب أمام أنظارنا. الأمر الذي لم نتفطن له هو أن السيد حمود لم يغادر داره ذلك اليوم بسبب وعكة صحية.

ومثل الريح التي تهب في عرض البحر دون سابق إنذار فتقلب زوارق الصيد الصغيرة، حدث الذي حدث. ارتفع صياح النسوة من دار حمود فاستطعنا أن نميز صوت زوجته السليطة وهي تنهال بضرباتها على جارة لها راحت تستجير بأشجار اليوسفي ثم تحتمي بالبئر. دفعنا الباب الحديدي دفعا آليا وانزلقنا إلى الداخل لا نجرؤ على التقدم أكثر. شعرت باصفرار الهلع ينتشر في وجهي. من يدري، لعلني كنت الوحيد الذي انتابه مثل ذلك الشعور بين أقراني. المرأة تستغيث ولا من جارة تبادر إلى حمايتها. لعل الجارات خشين سطوة زوجة حمود. فمن عادتها في حال عدم الوقوف إلى جانبها أن تهددهن بفسخ عقد الكراء. المرأة المستغيثة فائقة الجمال وزوجها شديد السمرة يعمل حارسا في معمل ميكانيكي. وما أكثر ما تندر أهل الحي بتناقض اللون بين تلك المرأة ذات البياض الضارب إلى الحمرة وذلك الرجل الأسمر الذي لا يكاد أحد يعرف نبرة صوته.

ظللت في قرارة نفسي ممسكا ببعض خيوط الأمل الواهية، أتمنى أن تخدعني مشاعري وتكذب علي. ولكن واها لك يا نفسي!

ومن حيث لا ندري، شعرنا بساعدين قويين يفصلان جمعنا فصلا وبصاحبهما يندفع إلى الداخل. زوج المستغيثة عاد من عمله. بلغه صوتها المنكوب وهو في منتصف الطريق الترابية. لم نبصر منه إلا ظهره الواسع ثم انحناءه على زوجته لكي يحملها بين يديه ويجنبها ضربات المرأة السليطة. قال البعض من الرفاق إن الأمر هين وإن الصراع صراع نساء بينهن ليس إلا. وخرجنا جميعا لكي تلفنا ظلمة الليل الخفيفة التي تسربل بها المكان على وجه السرعة. بقينا صامتين نقلب أبصارنا في بعضنا البعض مثل جماعة من الأغبياء. قبالتنا لم يكن يظهر من السيد (صانشيز) سوى سيجارته الملتهبة في قلب العتمة. لقد خرج ليتفرج هو الآخر. أما السيد (زارا) فقد صعد إلى سطح فيلته واستند إلى حاجزه العريض. في وقفته تلك حقد دفين، ولو أنه استطاع أن يحرقنا جميعا لفعل دون تردد. الزمن أثبت ذلك فيما بعد.

حدثت هدنة قصيرة تراجعت خلالها المتحاربتان لكي تدرس الواحدة منهما نقاط الضعف عند الأخرى. وما كانت هدنة نسائية، فها هي أصوات رجولية ترتفع مزمجرة في قلب الظلام. وها هو صوت زوجة حمود يتعالى ثانية فنشعر منه أنها تحاصر زوجة الرجل الأسمر. في تلك اللحظات سمعنا ارتطام لوح على جسد إنسان وبلغنا ما يشبه الحشرجة الناقمة. انزلقنا ثانية إلى الداخل فجابهتنا أشجار اليوسفي وهي تلقي بظلالها السوداء على صحن الدار. الصراع الآن بين رجلين. السيد حمود ينهال بقطعة لوح على الرجل الأسمر وهذا يتقيه اتقاءً، ثم يتسرب إلى غرته ويعود بعد بضع ثوان. لم نشهد ما حدث بعد ذلك. بل سمعنا عويلا هذه المرة واستطعنا أن نميز صوت زوجة حمود: (لقد قتله! لقد قتله!).

من قتل من؟ خرجنا مذعورين عندما بلغت مسامعنا كلمة القتل. احتككنا بعضنا ببعض على الرغم من شدة الحرارة. حلوقنا جافة وأنفاسنا نقذفها قذفا كأنما انتهينا لتونا من دورة حول الحي مثلما هي عادتنا في مثل تلك الساعة.

ومضت بضع دقائق وفكرة القتل تطغى على أذهاننا. القتل يعني الموت، والموت يعني القتل. من قتل من؟ كلمات الحيطة والتحذير التي بلغتنا من وراء الباب الحديدي وضعت حدا لتأويلاتنا. رجلان، لا ندري من أين جاءا، كانا ممسكين بالسيد حمود الجريح. بدا لي نحيفا في تلك اللحظات. سترة صيفية خفيفة مزركشة على كتفيه وحزام غليظ من القماش يلف بطنه لفا. لم نبصر الدماء وهي تنزف من بطنه. لم يحمله الرجلان وإنما أسنداه إليهما إسنادا، ذلك أن السيد حمود كان لايزال قادرا على المشي. وها هي سيارة سوداء تتوقف في بداية الطريق الترابية وتنطلق بالجريح إلى المستشفى.

لم نتأكد من موت السيد حمود لأننا أبصرنا به يسير على قدميه بيننا. غير أن الرجل الأسمر الذي وجه له ضربة بالسكين (البوسعادي) في بطنه أدرك أن ضربته كانت قاضية. فها هو يخرج وسط عويل النساء ويتجه إلى آخر الطريق الترابية حيث تنبت زيتونة عتيقة استظلت بها أجيال وأجيال من أبناء الحي، ويجلس عند جذعها، ويضع رأسه بين يديه حزنا وألما.

لم نقترب منه. الشخص الوحيد الذي دنا هو عمي رابح الذي يسكن في الحقل الصغير القائم وراء شجرة الزيتون. جاءه بشاي ووضع ساعده على كتفه مطمئنا إياه. لكن الرجل الأسمر ما كان في حاجة إلى من يطمئنه لأن هول ما فعله طغى عليه وتركه في حالة جنون وهذيان إلى أن جاء رجال الشرطة لاقتياده.

وعدت ذلك المساء إلى الدار وأنا أشعر وكأن سورا صفيحيا عاليا يرتفع دوني.

 

مرزاق بقطاش