المُمَرّض

المُمَرّض

ترجمها عن الإنجليزي: خليل كلفت

أنت تعتقد إذن أن ما حدث لي في سنة 1860 يمكن وضعه في كتاب؟ عظيم جداً، ولكن بشرط وحيد هو ألا تنشر شيئاً إلا بعد موتي. ولن يكون عليك أن تنتظر طويلاً - أسبوعا على الأكثر. فأنا رجل مقضيّ عليّ بالهلاك.

انظر، يمكنني حتى أن أروي لك قصة حياتي بالكامل - وفيها نقاط أخرى مهمة - غير أن هذا يحتاج إلى وقت، وروح معنوية، وورق. وهناك كثير من الورق، ولكن روحي المعنوية منخفضة، ووقتي يمكن تشبيهه بحياة لهب مصباح ليلي. وشمس الغد في طريقها - شمس قاسية، محيّرة كالحياة. الوداع إذن، يا صديقي العزيز، اقرأ هذا وتمنّ لي الخير. اغفر لي أيّ شيء قد يبدو لك شرّاً، ولا تندهش إذا انبعثت مما سأقوله رائحة مختلفة تماماً عن رائحة وردة. لقد طلبتَ مني وثيقة بشرية، وإليك ما طلبت. لا تطلب مني امبراطورية المغل الأكبر أو صوراً فوتوغرافية للمكابيّين، أما إذا طلبتَ أحذية الرجل الميت الذي سأكونه، فسأكتب بها وصية لك وحدك.

وأنت تعرف الآن أن هذا حدث في سنة .1860 ففي أغسطس تقريباً من السنة السابقة لها، عندما كنتُ في الثانية والأربعين من عمري، صرتُ لاهوتيّاً، أعني أنني كنت أنسخ نُبذاً لاهوتية لقسيس من نيتيروي، وكان زميل دراسة سابقاً أمدّني بهذه الطريقة اللبقة بالمسكن والطعام. وفي ذلك الشهر نفسه، أغسطس 1859، تلقّى خطاباً من خوري أبرشية في قرية في المناطق الداخلية من البلاد يسأله عمّا إذا كان يعرف شخصاً ما ذكياً، وحصيناً، وصبوراً، ويكون مستعداً للذهاب إلى هناك لرعاية شخص اسمه الكولونيل فيليسبيرتو مقابل مرتب جيد. وعندما حدّثني القسيس عن الوظيفة، سارعتُ بانتهاز الفرصة، لأنني كنت قد تعبتُ من نسخ الاستشهادات اللاتينية والصيغ الكنسية. وفي طريقي إلى عملي الجديد، توقفتُ في ريو دي جانيرو لتوديع أخي.

وعندما وصلت إلى القرية، سمعتُ أكثر عن الكولونيل. كان شخصاً لا يطاق، وغريباً، وملحاحاً، وحتى أصدقاؤه وجدوا أن من الصعب تماماً التسامح مع سلوكه طويلاً. وكان يستهلك ممرّضين أكثر من الأدوية. وقد حطّم وجهي اثنين منهم. وأجبتُ بأنني لا أخاف من الأصحّاء، وناهيك برجل مريض. وبعد الحديث مع خوري الأبرشية، الذي أكّد ما قيل لي وأوصاني باللطف وحبّ الخير، تابعتُ طريقي إلى محّل إقامة الكولونيل.

وجدتُه متمدّداً على كرسي في الفراندة، يتنفس تنفّساً ثقيلاً. ولم يستقبلني استقبالاً سيئاً. في البداية لم يقل شيئاً، ثم، عندما ثبّت عليّ عينيه اليقظتين كعينيْ قط، أضاءت ابتسامة حقود من نوع ما ملامحه القاسية.

وأخيراً، قال إن كل ممرّضيه، كانوا أشخاصاً وقحين لا خير فيهم، ينامون أثناء العمل أو يتشمّمون الخادمات في كل مكان، بل كان اثنان منهم لصّيْن!

(هل أنت لصّ؟)

(لا، يا سيدي).

ثم سألني عن اسمي. أخبرته فبدا مذهولاً.

(كولومبو؟) (لا، يا سيدي - بروكوبيو جوزيه جوميس فالونجو). ورأى أن فالونجو اسم غريب واقترح أن يدعوني بروكوبيو فقط. فأجبتُ بأن أيّ اسم يناسبه سيكون جميلاً بالنسبة لي. وأنا أذكر هذا الحادث ليس فقط لأنني أعتقد أنه يعطي صورة واضحة عنه، بل أيضاً لأن إجابتي تركت انطباعاً ممتازاً لديه. وفي اليوم التالي، قال هذا بنفسه لخوري الأبرشية، وأضاف أنه لم يكن لديه مطلقاً ممرّض ألطف مني في يوم من الأيام.

والحقيقة أننا تمتّعنا بشهر عسل متواصل استغرق أسبوعاً واحداً.

وفي اليوم الثامن، بدأتُ حياة مَن سبقوني في هذه الوظيفة - حياة شقاء وبؤس. لم أعد أنام. ولم يكن من المفترض أن أفكر في أيّ شيء إلا احتياجاته. وكان عليّ أن أبتلع الإهانات وأضحك منها من وقت لآخر بمظهر خضوع وانقياد، لأنني كنت علمت أن هذه كانت طريقة لإرضائه، ومن المحتمل أن وقاحته كانت ناشئة عن أمراضه بقدر ما كانت ناشئة عن طبعه، إذ إنه كان يعاني من جملة من الشكاوى المتكررة من الأمراض - اتساع الأوعية الدموية والروماتيزم بالإضافة إلى ثلاثة أو أربعة مضاعفات ثانوية. كان يناهز الستين، وكان قد اعتاد على أن يفعل ما يريد منذ أن كان في الخامسة من عمره. ولو أنه كان مشاكساَ فقط فربما كنت نجحت في مسايرته، ولكنه كان خبيثاً أيضاً، وكان يلذّ له إيلام وإذلال الآخرين. وفي نهاية ثلاثة أشهر، تعبتُ منه وقررتُ الرحيل. وكان كل ما أحتاج إليه مبرّرا ما.

لم يكن عليّ أن أنتظر طويلاً، فذات يوم عندما فاتني أن أقوم بتدليكه في الموعد المحدد، استطاع الوصول إلى عكازه وسدّد إليّ ضربتين أو ثلاث ضربات. كانت تلك هي القشة الأخيرة. استقلتُ على الفور وذهبتُ لتوضيب صندوق ملابسي. جاء إلى غرفتي وطلب مني أن أبقى، قائلاً لي إنني ينبغي أن أصفح عن فظاظة رجل مُسنّ. وظل يترجّاني إلى أن استسلمتُ في النهاية.

وقال ذات ليلة: (أنا في مأزق شديد. لا أستطيع أن أعيش وقتاً أطول. هأنذا، بقدم في القبر. وعليك أن تذهب إلى جنازتي، يا بروكوبيو. لن أتخلى عنك تحت أي ظروف.

عليك أن تذهب وتصلي فوق قبري). وأضاف ضاحكاً: (إذا لم تفعل، سيعود شبحي في الليل ويطاردك، هل تؤمن بوجود أرواح من العالم الآخر، يا بروكوبيو؟).

(بالطبع لا).

(ولماذا لا تؤمن بوجودها، يا غبيّ؟)، أجاب باهتياج، وعيناه جاحظتان.

هكذا كانت هُدْناته - تخيّل الحروب! لم يكن هناك مزيد من الضربات بالعكاز، غير أن الشتائم ظلت كما هي، إن لم تكن أسوأ. ومع الوقت صرتُ معتاداً على التحمّل ولم أعد أعير اهتماماً لأيّ منها. كنتُ حماراً، أبله، معتوها، جلفا، كسولاً - كنتُ كل شيء! ولم يكن هناك أيّ شخص آخر يصلح هدفاً لإهاناته. إذ لم يكن له نسيب أو قريب. كان له ابن أخ أو أخت من ميناس جيرايس وكان قد مات بالسل قرب نهاية مايو أو بداية يونيو. وكان أصدقاؤه يأتون من وقت لآخر ليتملقوه أو ليشبعوا نزواته، غير أن زياراتهم كانت قصيرة، عشر دقائق على الأكثر. كنت وحدي هناك لأتلقى قاموسه المليء بالسباب والشتائم. وقررت الرحيل أكثر من مرة، غير أنني كنت أبقى بعد إلحاح خوري الأبرشية. ولم يكن كل ما هناك أن علاقتي مع الكولونيل تغدو غير محتملة بصورة متزايدة، بل كنت متلهّفاً على العودة إلى ريو. ففي الثانية والأربعين من عمري، لم أكن أنوي بحال من الأحوال أن أكون مشدود الوثاق إلى حياة العزلة في المناطق الداخلية من البلاد مع مريض مُسنّ جلف بذيء، ولأعطيك فكرة عن عزلتي، يكفي أن أقول إنني لم أكن حتى أقرأ الصحف. وباستثناء نُتَف عرضية من الأنباء الأكثر أهمية، انتقلتْ إلى الكولونيل عن طريق زُوّاره، لم أعرف شيئاً عن العالم خارج ذلك المكان. ولهذا اعتزمت العودة إلى ريو في أول فرصة، حتى إنْ كان هذا يعني الشجار مع خوري الأبرشية. ولأنني أقدم اعترافاً كاملاً، ينبغي أن أذكر أنني بعد أن ادّخرت كل الأجور التي حصلت عليها، كنتُ أتحرّق شوقاً إلى العودة إلى ريو لتبديدها.

وكان من المرجح تماماً أن فرصة الرحيل قد تسنح في أقرب وقت. فقد ازدادت حالة الكولونيل سوءاً، وكان قد حرّر وصيته بمساعدة موثّق، تلقّى من الإهانات قدر ما تلقيتُ تقريباً. فقد كان أقسى من أن يسايره أحد وصارت فترات عودته القصيرة إلى السلوك الهادئ والمهذب أشدّ ندرة. ولأنني كنت قد فقدت القدر الضئيل من التعاطف الذي جعلني أتغاضى عن تجاوزات ذلك العاجز المسنّ، فقد كنت أغلي كراهية ونفوراً. وفي أوائل أغسطس، اتخذت قراراً حازماً بالرحيل، وقبل خوري الأبرشية والطبيب أسبابي للرحيل، ولكنهما طلبا مني أن أبقى فترة أخرى قصيرة إلى أن يتم العثور على بديل يحل محلي. وأعطيتهما شهراً قلت لهما إني راحل بعده مهما كان الموقف.

وسترى الآن ما حدث. ففي ليلة الرابع والعشرين من أغسطس، اجتاحت الكولونيل نوبة من الهياج، وأوقعني على الأرض بضربة قوية، ووجّه إليّ كل أنواع الشتائم البذيئة، وهدد بأن يطلق الرصاص عليّ، وأخيراً قذفني بسلطانية عصيدة قال إنها باردة، واصطدمت السلطانية بالحائط وتحطمت إلى ألف شظية.

(ستدفع ثمن هذا أيها اللصّ!)، بهذا صرخ.

وظل يدمدم بعض الوقت، وفي حوالي الحادية عشرة سقط نائماً. وفيما كان يغطّ في نومه، أخرجتُ من جيبي ترجمة قديمة لقصة لآرلينكورت كنت قد عثرتُ عليها ملقاة هنا، وأخذتُ أقرأ في الغرفة نفسها، على مسافة قصيرة من فراشه. وإما لأنني مرهق أو لأن الكتاب مملّ، غلبني النعاس قبل أن أصل إلى نهاية الصفحة الثانية. استيقظتُ فجأة على صوت الكولونيل يصرخ ونهضت واقفاً، نصف نائم. وبدا أنه في حالة هذيان. استمر الصراخ، وأخيراً أمسك بدورق الماء وقذفني به. وقبل أن أتمكن من تجنّبه، خبطني الدورق على خدي الأيسر، وكان الألم شديداً إلى حد أنني لم أعد قادراً على أن أسيطر على نفسي. انقضضتُ على المريض المسنّ ووضعتُ يديّ حول حلقه. تصارعنا، وخنقتُه. وعندما أدركتُ أنه كان لم يعد يتنفس، خطوتُ إلى الوراء وصرخت، ولكنْ لم يسمعني أحد. عدتُ إلى الفراش وهززتُ الكولونيل وحاولتُ أن أعيده إلى الحياة، غير أنه كان قد فات الأوان، كانت الأوعية الدموية قد انفجرت وكان الكولونيل قد مات. ذهبتُ إلى حجرة الجلوس المجاورة وبقيت هناك ساعتين، لأنني لم أجرؤ على العودة إلى الغرفة. سيكون من المستحيل أن أروي لك كل شيء خطر ببالي خلال ذلك الوقت. فقد كنت في حالة من الهذيان الأبله المذهول. كان يبدو وكأن الجدران لها وجوه، واعتقدتُ أنني سمعت أصواتاً خفيضة. واستمرت الصرخات التي أطلقها الضحية قبل وبعد الصراع تُدوّي بداخلي وأينما استدرتُ بدا وكأن الجوّ يهتز بارتعاش شديد.

أرجو ألاّ تظن للحظة أنني لا أقوم إلا بصياغة صور بلاغية لطيفة أو بالسعي إلى إحداث تأثيرات أسلوبية. إنني أقسم أنني سمعت بوضوح أصواتاً تصرخ (القاتل! القاتل!)، غير أن كل شيء كان هادئا، وكانت التكّات المنتظمة البطيئة لساعة الحائط تكثّف الصمت والعزلة. لصقتُ أذني بالباب على أمل أن أسمع أنيناً، كلمة، شتيمة، أي علامة على الحياة من شأنها أن تعيد الراحة والطمأنينة إلى ضميري. بل كنتُ مستعداً حتى لأن أدع الكولونيل يضربني كما يحلو له. غير أنني لم أسمع شيئاً، وكان كل شيء غارقاً في الصمت، وأخذت أذهب وأجيء في الغرفة بلا هدف. ثم جلستُ ورأسي بين كفّي، وندمت على أنني جئت أصلاً إلى هذا الكان.

(ملعونة الساعة التي قبلتُ فيها مثل هذه الوظيفة!)، صرختُ. وأمطرتُ بالسباب قسيس نيتيروي، الذي حصل لي على الوظيفة، وكذلك الطبيب، وخوري الأبرشية، اللذين أقنعاني بالبقاء وقتاً أطول قليلاً. وأقنعت نفسي بأنهم كانوا شركاء في جريمتي.

ولأن الصمت أصابني في النهاية بالفزع، فتحتُ النافذة على أمل أن أجد راحة في صوت الرياح. غير أن الهواء كان ساكناً. وكانت الليلة هادئة، وكانت النجوم تتلألأ بلامبالاة أولئك الذين يرفعون قبّعاتهم لحظة لتحية مرور موكب جنازة في الوقت الذي يواصلون فيه الحديث عن أشياء أخرى. وقفتُ عند النافذة بعض الوقت، أحدّق في الليل بالخارج وأصنع تلخيصاً ذهنياً لحياتي علّني أجد فترة راحة من عنائي. وعندئذ خطرت ببالي للمرة الأولى فكرة العقاب. كنتُ قد ارتكبتُ جريمة، وشعرتُ أنه لا مفر من العقاب. وفي تلك اللحظة أضيف الخوف إلى إحساسي بالندم. وأحسستُ بشعري يقف من الرعب وبعد ذلك بدقائق، اعتقدت أنني رأيت أشباحاً آدمية عدة تتجسس عليّ من الأراضي المحيطة بالبيت، حيث بدا أنها كانت تتربّص بي. وعندما تراجعتُ خطوة إلى الوراء اختفت الأشباح الآدمية بلا أثر - كنت أعاني من حالة هلوسة.

وقبل طلوع النهار، عالجتُ الجروح التي كانت على وجهي، وعندئذ فقط كنتُ قادراً على أن أستجمع شجاعتي للعودة إلى غرفة الرجل الميت. تردّدت مرتين، غير أنه كان لابد من عمل هذا، ولهذا دخلت، لم أقترب من الفراش على الفور. كانت ساقاي ترتجفان، وكان قلبي يدق بعنف، بل حتى فكرت في الهرب. غير أن هذا كان سيصبح بمنزلة اعتراف بجريمة القتل، ولهذا كان من الملحّ العاجل أن أمحو بسرعة كل آثار الجريمة.

وصعدتُ إلى الفراش ورأيتُ الجثة بعينيها تحملقان وبفمها مفتوحاً، وكأنها تُلقى سؤال القرون: (قابيل، ماذا فعلت بأخيك؟)، ورأيتُ علامات أظفاري على رقبته، ولهذا قمت بتزرير قميصه حتى أعلى زرّ وسحبت الطرف الأعلى للملاءة إلى أعلى حتى ذقنه. ثم ناديت على أحد العبيد، وأخبرته بأن الكولونيل قد مات أثناء نومه، وأرسلته لإبلاغ خوري الأبرشية والطبيب. وكان أول دافع اجتاحني هو أن أرحل في الحال بحجة أن أخي مريض. والحقيقة أنني كنت قد تلقيت خطاباً منه قبل ذلك بأيام عدة، وكان يقول فيه إنه على ما يرام. غير أنني أدركت أن أيّ رحيل مفاجئ قد يثير الشك، ولهذا بقيت. وقمتُ بتغسيل وتكفين الجثة بنفسي بمساعدة زنجي مسنّ ضعيف البصر. ولم أغادر أبداً الغرفة التي رقدت فيها الجثة جاهزة للدفن، لأنني كنت خائفاً من أن يلاحظ أحد شيئاً. أردتُ أن أكون هناك لأكتشف إذا شكّ أحد فيّ، لكنني كنت خائفاً من النظر إلى عيني أيّ شخص. وضايقني كل شيء: الخطوات المختلسة التي دخل بها الزائرون الغرفة، همساتهم، طقوس القسيس وصلواته. وعندما حان الوقت لإغلاق التابوت، قمت بذلك بيدين مرتجفتين إلى حد أن أحدهم علّق على ذلك بإشفاق.

(بروكوبيو المسكين! رغم ما عاناه فإنه حزين بعمق).

فكّرتُ في أن ذلك الشخص إنما يتهكّم. وكنت أتعجّل الانتهاء من كل ذلك. وقد ارتعشت بشدة عندما انتقلنا من شبه ظلام المنزل إلى الشارع، لأنني كنت أخشى من أن يكون من المستحيل إخفاء الجريمة في وضح النهار. أخذت أحدّق في الأرض وظللت أسير. وعندما انتهى كل شيء، تنهّدت بارتياح. كنتُ في سلام مع البشر، لكن ليس مع ضميري، وبطبيعة الحال، كانت الليالي القليلة الأولى مليئة بالقلق والضيق. ولستُ بحاجة إلى أن أخبرك بأنني رحلت في الحال إلى ريو. لكنني عشت حتى هناك في فزع، مع أنني كنت بعيداً عن مسرح الجريمة. لم أضحك مطلقاً، ونادراً ما تكلمت، وأكلت قليلاً جداً، وعانيت من الهلاوس والكوابيس).

(انْسَهُ، لقد مات وانتهى) هكذا قال لي الناس. (ليس هناك أيّ سبب لأن تكون حزيناً).

واستغللتُ هذا الوهم، ممتدحاً الرجل المتوفى امتداحاً بالغاً، واصفاً إياه بأنه شخص عطوف، صعب المراس دون شك، غير أن له قلباً من ذهب. ومتغنياً بمحاسنه على هذا النحو، أقنعت حتى نفسي بلطفه ورأفته. وإنْ بصفة وقتية ليس إلا. وهناك شيء آخر قد يتضح أنه مفيد لك وهو أنني، أنا غير المتدين على الإطلاق، أقمت قدّاساً، في كنيسة سرّ القربان المقدّس من أجل الراحة الأبدية لروح الكولونيل. ولم أرسل أي دعوات، ولم أقل شيئاً لأحد، لقد حضرت القداس في الكنيسة بمفردي وظللت جاثياً على ركبتيّ طوال الوقت، وأنا أرسم علامة الصليب على نفسي مراراً وتكراراً. ودفعت للقسيس الضعيف ووزعت الصدقات على الباب، وكان كل شيء باسم الراحل. وواقع أنني ذهبت إلى الكنيسة بمفردي يثبت بالتأكيد أنني لم أكن أحاول أن أخدع أحداً. ولعلني أضيف أنني لم أشر إلى الكولونيل مطلقاً دون أن أقول: (أنزل الله السكينة على روحه!)، ورويت بعض القصص الرائعة عنه الأمر الذي أكّد الجوانب المبهجة والفكهة لشخصيته.

وبعد وصولي إلى ريو بأسبوع، تلقيت خطاباً من خوري الأبرشية، يخبرني فيه بأنه تم العثور على وصية الكولونيل، وبأنني وارثه الوحيد، فتصوّر ذهولي! ظننت أنني أخطئ قراءة الخطاب، فأطلعت عليه أخي وأصدقائي - وأكّدوا جميعاً ما قرأته بنفسي. كان ذلك مذكوراً في الخطاب بكل وضوح. وبدأت أفكر حتى في أنه مصيدة، غير أنني أدركت عندئذ أنه كانت هناك وسائل أخرى لإيقاعي لو أنه كان قد تم اكتشاف الجريمة. وإلى جانب هذا، كنت أعرف أن خوري الأبرشية رجل أمين لم يكن ليسمح لنفسه بأن يستخدمه أحد بهذه الطريقة. وأعدت قراءة الخطاب عدداً لا يحصى ولا يعد من المرات - ولم يكن هناك أدنى شك في أنني وارث الكولونيل.

(بكَمْ كانت تقدّر ثروته؟) سأل أخي.

(لا أعرف على وجه اليقين، لكنه كان غنيّاً).

(عظيم، لاشك في أنه أثبت أنه كان صديقك).

(نعم، كان حقّاً صديقي).

وهكذا، عن طريق إحدى سخريات القدر، وجدت أملاك الكولونيل طريقها إلى يديّ، فكّرت في رفض الميراث، فقد بدا من المرعب أن أقبل حتى سنتافو واحداً من تلك الضيعة. - كان من شأن ذلك أن يجعلني أسوأ من قاتل مأجور. فكرت في هذا طوال ثلاثة أيام، غير أنه كانت تخطر ببالي بحدة فكرة أن رفضي قد يثير الشكوك. عندئذ عقدتُ العزم على حلّ وسط: سأقبل الميراث ثم أوزعه كله سرّاً، قليلاً في كل مرة، ولم تكن هذه الفكرة نتيجة لوساوسي ليس إلا، بل كانت أيضاً طريقة للتكفير عن جريمتي عن طريق عمل من أعمال الفضيلة. لقد أحسست بأن هذا سيوازن الحساب.

استعددتُ وبدأت الرحلة إلى القرية، وكلما كنت أقترب منها أكثر كنت أفكر أكثر في الحادث الكريه. حملتْ مشارف القرية جوّ مأساة، وبدا وكأن شبح الكولونيل يلوح مفزعاً عند كل منعطف في الطريق. وظل خيالي يستدعي كلماته، صراعه، مظهره، في الليلة المرعبة لجريمة القتل.

لكنْ هل كانت حقاً جريمة قتل؟ كان ما حدث بالفعل صراعاً تعرّضت فيه للهجوم، فدافعتُ عن نفسي، وفي سياق دفاعي، كان دفاعاً مأساوياً، ضربة قدر تعيسة، تشبثتُ بهذه الفكرة، وعندما وازنتُ بين التعديات، رجّحتْ ضربات الكولونيل وشتائمه الكفة لصالحي. غير أنه ما كان ينبغي أن يُلام على سلوكه، كما عرفت جيداً: كانت حالته قد جعلته شرساً وحتى شريراً، ولهذا غفرتُ له كل شيء، كل شيء، كان أسوأ ما في الأمر هو ذلك الحادث الفاجع في تلك الليلة. وفكرتُ مليّاً في أنه لم يكن ليعيش وقتاً أطول كثيراً، وحتى هو كان يحسّ بأن أيامه صارت معدودة، وقال هذا بنفسه، كم كان بوسعه أن يعيش؟ أسبوعين؟ أسبوعاً؟ وربما حتى أقلّ. ولم تكن المعاناة المتواصلة للرجل المسكين حياة، بل كانت حتى صورة كاريكاتورية للحياة. ومَن يدري؟ فربما حدث الصراع وموته الطبيعي في الوقت نفسه، ولم يكن ذلك ممكناً وحسب، بل كان حتى مُرَجّحاً تماماً. وتشبثتُ بشدة بهذه الفكرة أيضاً.

بالقرب من القرية، أصابني الذعر وأردت أن أعود، غير أنني استعدتُ السيطرة على نفسي وواصلت. وهنأني الجميع، وشرح لي خوري الأبرشية شروط وصية الكولونيل، وأبلغني بهباته للمؤسسات الخيرية، وظل يُثنى على الصبر والولاء المسيحيين اللذين خدمتُ بهما الكولونيل، الذي - رغم كل قسوته ووحشيته - أظهر عرفانه في نهاية الأمر.

(هكذا بالضبط)، قلتُ، ناظراً بعيداً. وأصابني الذهول، كان الجميع يُثنون على إخلاصي وصبري. وأبقتني الشكليات المباشرة لحصر التركة بعض الوقت في القرية. واتفقتُ مع أحد المحامين ومضى كل شيء بسلاسة. وخلال هذه الفترة سمعتُ الكثير عن الكولونيل، أتى أهل القرية وحكوا لي عنه، ولكن دون اعتدال خوري الأبرشية وتحفّظه، ودافعتُ عنه، وأوضحتُ بعض فضائله، وقلتُ إنه كان صعباً بعض الشيء.

(صعب إلى الجحيم! لقد مات وانتهى الآن، غير أنه كان الشيطان ذاته!).

وأخذوا يصفون حالات منحرفة من القسوة والوحشية، وبعضها في غاية الغرابة، وفي البداية كنتُ فضولياً لا غير بشأن هذه الحالات، ثم بدأتُ أحسّ بابتهاج فريد حاولتُ مخلصاً أن أنتزعه من قلبي. وقدّمتُ أعذاراً للكولونيل وأرجعتُ جانباً من كثرة انتقاداتهم له إلى خصومات محلية، واعترفتُ بأنه كان عنيفاً قليلاً.

(قليلاً؟ لقد كان أفعى سامة هائجة!) قاطع الحلاق. ووافقه على هذا جابي الضرائب، والصيدلي، وموثق العقود، وكل شخص آخر.

ثم تلاحقت قصص أخرى، وأعيد النظر في كامل حياة الرجل الميت. فقد تذكر الناس المسنّون قسوته عندما كان طفلاً. وظلّ سروري - الخفيّ، الصامت، الخبيث - ينمو بداخلي مثل دودة شريطية أخلاقية، مهما كثرت القطع التي تزيلها منها أصلحتْ في الحال ما تلف وبقيتْ متحصّنة أكثر من أيّ وقت مضى.

جعلتني مهامي المتصلة بحصر التركة منشغلاً، وإلى جانب ذلك كان الرأي العام في القرية معادياً للكولونيل إلى حد أن المحيطين بي بدأوا يفقدون المظهر المتوجس شرّاً والذي أبدوه لي في البداية.

وعندما انتقل الميراث أخيراً إلى يديّ، قمت بتحويله إلى سندات ونقود سائلة، وفي ذلك الحين كانت قد مرّت أشهر عدة، وكانت فكرة توزيعه كله كصدقات وهبات خيرية لم تعد تستحوذ عليّ بالقوة نفسها - بل حتى بدأتُ أفكر في أن هذا سيكون تظاهراً بحتاً. وقدمتُ بعض التبرّعات للفقراء، ووهبتُ بعض الأردية الكهنوتية الجديدة للكنيسة الرئيسية في القرية، وقدمتُ صدقات للدار المقدسة للرحمة، وهكذا. وعلى وجه الإجمال، قمتُ بتوزيع هبات تصل قيمتها إلى اثنين وثلاثين ألف كروزيرو، واحتفظت بالباقي. أيضاً أقمتُ للكولونيل نصباً تذكارياً من الرخام على يد نحّات من نابولي كان في ريو حتى 1866 ثم رحل ليموت في مكان ما في باراجواي، إن لم أكن مخطئاً. فقد دارت الأعوام وصارت ذاكرتي ضعيفة ولا يُعتمد عليها. وفي بعض الأحيان، أفكر في الكولونيل، لكن لم يعد ذلك بفزع تلك الأيام الأولى. وقد رويت لأطباء عدة عن الأمراض التي ابتلى بها. واتفق الجميع على أن موته كان أكيداً وأدهشهم أنه عاش كل هذه الفترة الطويلة التي عاشها. وربما كنتُ قد بالغت قليلاً في وصف وضعي. غير أن الحقيقة هي أنه كان سيموت على كل حال حتى وإن لم يكن هناك أيّ.... حادث...

وداعاً، يا صديقي العزيز، وإذا كان من رأيك أن هذه الملاحظات لها أي قيمة، كافئني بنصب تذكاريّ من الرخام، واستخدم ككتابة على قبري هذه الآية المعدّلة قليلاً من الموعظة على الجبل: (طوبى لأصحاب الأملاك لأنهم يتعزّون).

 

ماشادو ده أسيس