حمامة بيضاء.. وسيف عتيق المرسي محمد البدوي

حمامة بيضاء.. وسيف عتيق

رفرفـت الحمامة بجناحيها، سقطت على الأرض الترابية، اختلط دمها الأحمر بتراب الشارع غير المرصوف، الصبي الذي أسقطها نظر إلى بندقيته بسرور، هزها لأصحـابه مـزهـوا، نظرت إليه والغيظ في عيني، خاف الصبي وانسحب متمتما:

- لم أكن أدري أنها حمامتكم.

مضى الصبي وأصدقـاؤه، كان يحدثهم عن براعته في الصيد والتنشين، نظر الصبيان خلفهم وهم يبتسمون.

رفعت الحـمامة المغطـاة بـالدم الأحمر الحار من فوق الأرض بحثت فيها عن بقية من الحيـاة، استقرت الطلقة الصغيرة في قلبها تماما، وطردت الحياة من داخلها.

أصابني اكتئاب شديد، ركـزت على ركبتي بجـوار المنزل الصغير وحفرت حفـرة صغيرة عميقة ودفنت الحمامة المقتولة، لم أكن أتخيل أني سوف لا أراها مرة ثانية.

عصر كل يوم كنـت أصعد إلى سطح منزلنا، الشمس من النـاحيـة الغـربية من الأفق الـواسع، زوج الحمام الأبيض الناصع وقرص الشمس المائل للحمرة، فقدت الشمس حرارة أشعتها، أطلق الحمامتين في الهواء وأرقبهما تدوران في السماء الواسعة، تنعكس الأشعة الزئبقية على أجنحتيهما وهما تصعدان تدوران، تتعلقان ، أستغرق كلية في هذا المنظر البديع.

زوج واحد من الحمام أصعد معه إلى قلب السماء، أدور به يمينا ويسارا، على يمين منزلنـا كانت هناك أبراج كثيرة من تلك الأبراج البيضاء التي يعيش في كل واحد منها مئـات من الحـمام من كل نوع ولـون، يخرجـه أصحابه في نفس الوقت الذي أخرج فيه زوجي، مع كل واحد منهم صفارة وراية بيضاء، تنطلق أسراب الحـمام تحوم وتدور وتعود بحركات الراية والصفارة.

درجات السلم عالية كئيبة متآكلة، وخيوط العنكبوت في الزوايا، الرطوبة العفنـة تنبعث من الجدران ظلمة كـاسية تغمر السلم، أتحسس السلم بقدمي وأتعثر من فـوق بسطـة السلم العليا، جـاء صوت أخي منكسر الحروف:

- من؟

- أنا.

الطابق السفلي من منزلنا مهجور، خرج أبي الذي كان يعيش فيه منذ عدة سنوات عندما ذهب عقلـه ولم يعد يدرك شيئا وحلف بالطلاق ثلاثة ألا يدخل البيت مرة ثانية.

أمي صغيرة الحجم صفراء اللون، تربط منديلا فوق رقبتها النحيلة، تحت كل عين من عينيها قوس من السواد المتورم، عندما تضحك أو تبكي تصاب بـ "الشرقة" تلبس السواد منذ خروج أبي عندما سألت الشيخ لما رمى عليها أبي يمين الطلاق بالثلاثة قال لها:

- المجنون لا طلاق له.

حـاولت أنـا وأخي ذو الصوت المتكسر الحروف أن نقيده بالقوة ليمكث في البيت بعد ذهاب عقله، غافلنا الرجل وهرب من البلدة كلها.

كـان الصبية يقـذفونه "بالزلط " المبعثر فوق قضيب السكـة الحديد الـذي يخـزق قلب مـدينتنـا الصغيرة، يملأون جيوبهم بالزلط الصغير ويقذفـون الرجل حتى هرب من المدينة كلها، صـارت أختي عانسا، تسبب جنون أبي في ذلك، مضت سنوات منذ هروبه، لم تكن أختي دميمة، كـان وجهها أبيـض مستـديرا، عيناها واسعتان ورموشها طويلة مثل حراب سوداء تحرس تلك العينين، حبست نفسهـا في حجـرة من البيت الصغير، تقف كلمة "ابنة المجنون" حارسا على باب غرفتها لا يقربها إنسان، دموع أمي مشتتة على أبي الهارب وابنتها التي لم تتزوج.

في المساء وعلى ضوء الصباح يرسل أشعة رمادية لا تنير الغرف أو تتركها في الظلام، تجلس أمي متربعة فوق سريرها الحديدي بأعمدته الطويلة السوداء لترتل أوراد الحزن اليومية وهي تهتز، وصوت السرير يعزف أصواتا تصاحب كلماتها الحزينة التي تنتهي بنومها والسرير قد ابتل من أنهار عينيها الدامعتين.

قابلني أخي على رأس السلم، الحزن غيوم تكسو وجهه المتغضن..

- لقد جنت أختك هي الأخرى..

- كيف ؟ - تضرب رأسها في جدران المنزل منذ ساعات.

- لماذا؟ - اليوم انفجر صمتها تلك السنوات في انتظار العريس الذي أوهمتها به أمك.

- قتل صبي حمامتنا ببندقية.

اندفعت ومعي أخي إلى الداخل عندما هتك صوت أختي السكون القائم على رأس السلم في الحجرة الصغيرة المظلمة، كانت تشد شعرها الطويل وتنزعه من جذوره، لاحظت شعرات بيضاء في وسط قبضات الشعر المنزوع، تدق رأسها في الحائط فيتساقط الجير القديم على الأرض، أمي مستندة إلى كرسي قديم بالحجرة ولا تستطيع الاقتراب منها، فرمى أخي فأرا صغيرا بقدميه، فر الفأر الصغير من شق في جدران الحجرة، سكتت أمي قليلا، بدأت أختي في تمزيق ملابسها، ظهر لحمها الأبيض المترهل.

أحضر أخي ملاءة سرير حاول ستر أختي ولكنها رفضت وهي تعاود الصراخ بكل نبضة في كيانها:

- أريد أن أموت.

برقة شديدة لمست أمي جسد أختي العريان وربتت عليه :

- الله يهديك يا ابنتي.

عاودت أختي الصراخ:

- أريد أن أموت ..

تهاوت أختي وانتابتها نوبة من البكاء المخنوق، شاركتها أمي البكاء، وقفت أنا وأخي عاجزين لا ندري ماذا نفعل.

سمعت أصوات أقدام كثيرة تصعد السلم المتآكل، اهتز البيت الصغير تحت الأقدام، أصوات كثيرة تهتف فوق السلم :

- لقد عاد أبو كم راكبا عصا خشبية.

قفزت إلى السلم أطـارد الصبية الصغار، كـان عددهم كبيرا ومن بينهم الصبي الذي قتل حمامتنا ببندقيته.

تفرق الصبيان على السلم عندما ظهر أخي يحمل عصا غليظـة رفعهـا إلى أعلى مهـددا، في أسفل السلم وعلى الـدرجة الأولى كـان أبي يقف واضعا بين سـاقيـه عصـا خشبيـة ويمسكها بيده كالحصـان، عنـدمـا رآني ابتسم وقال:

- لقد خطفوني، ولكني غافلتهم وعدت..

- من هم؟

- الجان، كانوا يريدون تزويجـي ملكتهم.

- هل ستبقى معنا؟

- أنا..

استدار على الفور إلى الخارج مقلدا صوت الحصان، قفزت درجـات السلم محاولا اللحـاق بـه وورائي أخي الذي ألقى بعصاه وتبعني، ولكن أبي كان قد اختفى.

على أبواب المنـازل وقف الصبية يشيرون إلينـا من كل اتجاه، ونحن ننطلق إلى حيث يشيرون فلا نجده، ثم نعود لنسألهم مرة ثانية لنجري فى اتجاه آخر.

تبخر أمـل العثور على أبي الهارب صعدت السلـم أنا وأخي ونحن نلهـث من الجري في كل اتجاه أشـار إليـه الصبية، صرخـات أختي تصعد معنا السلم المتآكل حتى وصلنـا، خصلات من الشعر الطـويل الـذي نزعته من جذوره مبعثرة عـى أرضية الغرفة.

هدأت أختي تماما ووضعت أمي رأسها بين يديها تنظر إلى الفراغ من الغـرفة المظلمة انهار القناع الجليـدي الذي كان يكسو وجه أخي دموعا سخية ينزفها من عينيه.

جثم الظلام تماما في الحجرة، أرى أخي وأمي وأختي ظـلالا تسد فـراغ الغـرفة، تحسست زر النـور من الجدار المتآكـل حتى وصلت إليه، ضغطت عليـه بقوة ظهـر نور الغرفة الرمادي.. جلست أحدق في الجدران مرة أخرى، لاحظت أن أمي علقت صورة كبيرة بـاهتة لأبي بجـوار صورة الشيخ الصوفي التي كـان يعلقها أبي منذ وعيت، علقت أمي فوق الصورتين سيفا قديما لجدها، سيف جد أمي القـديم الذي مات في الحرب الحبشيـة، طويل وله جراب حـديدي، مكسو بقماش سميك كالـذي يغطي به المحضرون حقائبهم الجلـدية، مقبض السيف من العاج الأبيض الـذي اكتسى لونا أقـرب إلى الصفرة بمرور السنوات عليه وهو مخبأ تحت سرير أمي الحديدي، كنت أخرجه كثيرا من تحت السرير عندما أجد نفسى وحيدا في الغرفـة وأمضي السـاعات وأنا أتفـرج عليـه وأحلم بالرءوس الكثـيرة التي أطيح بها بهذا السيف وأنـا أمتطي حصانا يطير فوق الأرض الخضراء.

كانت أمي تضبطني كثيرا وأنا ممسك بسيف جدها من مقبضه العاجي المائل إلى الصفرف تبعده عن يدي سريعا حتى لا أجـرح نفسي وتعيده بكل احترام إلى مكـانه تحت سريرها الحديدي، عندما تذكر كلمة سيف أمام أمي، كـانت على الفور تتـذكـر جـدهـا الذي قتل في الحرب الحبشية في القرن التاسع عشر، كـانت تسرح في الماضي البعيـد وتبدأ في سرد حكـاية جـدي الضابط في جيش إسماعيل باشا، كـان جـدي من المصريين القلائل الذين ترقوا إلى رتبـة الضباط في الجيش الإسماعيلي الجبـار، الخديو إسماعيل، تعرفه بالطبع، كان جدي بطلا في تلك الحرب، تصور أنـه قتل جنـديا حبشيـا وابنه وشقيق زوجته، وعرفت بذلك زوجة الرجل فتربصت له بين أشجار الحبشـة الطويلة، تعب جدي من الحرب والقتل فاستراح تحت إحدى الأشجار، ربط حصانه الأبيض في شجرة ونام، كـالنمرة هجمت عليه الحبشية بحربتها الطويلة لتغرسها في قلبه حتي نهايتها، لم يعيـدوا حتى جثته لكنهم أعادوا سيفه الذي تراه فقط.

لم يعلم أهلـه بهذا إلا بعد موته بعدة سنوات عندما أعادوا السيف ومنحوه نيشانا. الحبشة كـما قال لي أبي بلاد بعيدة، أبعد من السودان، تسـير فيها الأسود في الشوارع، قتل جدي أسدا منها بضربة واحـدة من سيفه البتار الذي تراه، كـانوا يعطون لأبي معاشا شهريا لأبيـه الشهيد في الحبشة، كنا نصرف هذا المعـاش إلى وقت قريب ولست أدري لماذا منعوه هذه الأيام، سألها أخي:

- هل انتصروا في تلك الحرب؟.

وترد أمي:

- انتصروا، كـانت خيبـة بعيـد عنك، لما غلبهم الأحباش، حزن إسماعيل باشا كثيرا، أشاروا عليه بقراءة الأوراد بعـد العشـاء لينتصر جيشه، ولكـن الأحبـاش غلبوهم ثلاث مرات.

جذب بكـاء أمي انتباهي، ذهبت إليها، كان صـدرها يعلو ويهبط بشـدة، الشرقة المخيفة تمنع الهواء من دخول صـدرهـا، كـانت تجذبني بعنف إلى صـدرها، الخوف الشديـد من الموت كـان في عينيها اللتـين انطفأ بريقهما، أسترخت أمي قليلا وطلبت شربـة ماء، ناولتها الماء لتشرب، كـانت يداها ترتعشـان وهي تمسك الكوب، وكان أخي يقبع في ركن من الغرفة.

نـزعـت السيف القـديم من فـوق الجدار الجيري المتسـاقط ونزعته من جـرابه الحديد المكسـو بالقماش السميك وأمسكته من مقبضـه العاجي كفـارس قـديم محارب.

هبطت السلم المتـآكل إلى الطابق السفلي، حجـرتان في الطابق السفلي، يؤجر إحـداهما تاجـر كبير ليستخدمهـا مخزنا لبضائعه التي لا يريد عرضها في دكانه.

الغرفة الثانية كانت مقفلة بقفل كبير صدىء، نظرت إلى القفل ثم رفعت السيف القـديم، وبضربـة واحـدة أطحت به، منـذ سنوات طويلـة ولم تطأ قدماي هذه الغرفة، ركلت الباب بقدمي، ودخلت، وقف شعر رأسي من الخوف، تراجعت إلى الخارج وصعدت السلم مسرعا بحثت عن ثقـاب وشمعة، عدت بهما إلى الطابق السفلي مرة ثانية، رائحة عطنة تنفذ إلى صدري مباشرة، حاولت أن أضيء الشمعة عدة مرات ولكنها كـانت تنطفىء في كل مرة كان الهواء قليلا في المكان.

فتحت الباب تماما، دخل الهواء إلى الغرفة، استطعت أن أضيء الشمعة أخيرا، درت بالشمعة في أركان الغرفة، الماء الناشـع من جدرانها الرطبة، أنهار صغيرة تصب في وسطها المنخفض.

كومة من الخرق ملقاة في ركن بعيد من الغرفة، شباك الغرفة في مستوى تراب الشارع غير المرصوف، ضوء خافت يعبر الشباك المكسور.

سقطت نقطة من الشمعـة المصهورة فـوق يدي، انطفأت الشمعـة وسقط السيف في الظـلام، انحنيت أبحث عن السيف، لمست يدي الخرق القديمة، صرخة أخافتني في الظلام الدامس، تبعث من كومة الخرق الملقاة على أرض الغرفة، أضأت الشمعة مرة ثانية وقربت النور من الخرق، وجدت أبي جالسا يضحك ضحكاته المدوية.

سمعت صوت ذكر الحـمام يأتي في الليل كان ينادي على وليفته القتيلة، اختلطت ضحكات أبي بصوت ذكر الحـمام وصرخـات أختى وبكـاء أمي، صـوت أخي يحاول إسكـاتها، أنصت أبي قليـلا ثم ابتسم، امتطى حصـانـه الخشبي في الظلام وقفز من النافذة إلى الخارج، يئست من العثور على السيف القديم الـذي انزلق إلى أحد شقوق الغرفة.

 

المرسي محمد البدوي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات