طائر في سماء ضيقة

طائر في سماء ضيقة

عمري 38 عاما، خضت ثلاث حروب، قبل عدة أشهر سرحوني من الجيش ذلك اليوم الذي انتظرته عشرين عاما هي مدة بقائي في الخدمة العسكرية شملت الإلزامية والاحتياط وغيرهما من التي لم تتضمنها القوانين، أنجبت أربعة أولاد بعد تردد في الزواج إذ إن مرتبي لا يسد نفقات أجور السيارات والقطارات من مكان وجود الوحدات العسكرية إلى بيتي في أقصى الجنوب، لم أمتلك زواجا طبيعيا، حصلت على أسبوع أجازة تزوجت خلاله، كان كل شيء على عجل حتى الأطفال جاءوا مسرعين، كلهم في أربع سنوات، هذا الزواج الذي لم أرغب في القيام به رغم أن حبيبتي انتظرتني خمسة عشر عاما لكن والدي قال:

ـ ربما استهلكت الحرب كل أعمارنا، يجب ألا نتوقف، تزوج دون السلام ودون مرتب، سترى أنك سوف تعيش.

لم أقتنع بكلامه لكني تزوجت بعد فترة قصيرة من حديثنا نكاية في وصف العجائز لحبيبتي بالعانس.

آخر مرتب أنفقته كله في ليلة تسريحي من الجيش. غنى زملائي الجنود الريفيون أغاني طالما أثارت اللوعة والحنين والحزن في نفوسنا. ليلتها كانوا يغبطوني.. يا لحظه السعيد.. تسرح من الجيش. ذكرتهم بأنني قضيت في الخدمة عشرين عاما، لم يأبهوا قائلين من الذي يتذكر الأعوام الماضية أنت طائر عاد إلى عشه.. لكنها أعوام نار ودماء ودموع أحملها في ذاكرتي المشوهة.

بعد أسبوع الراحة في البيت والولائم الصغيرة عند الأقارب والأصدقاء الذين تملص بعضهم من دعوتي بسبب العوز رحت أبحث عن عمل.. لا يوجد عمل.. بل وجدت آلاف الناس قبلي يبحثون عن عمل منذ سنين. طالبوني في البيت بتدبير نفقات الأولاد، بالأكل، بأمور أخرى.

عمري 38 عاما وأنا ما زلت أحمل مؤهلات ابن الثامنة عشرة من العمر، اليوم الذي ساقوني فيه إلى الجيش، لا أعرف كيف أتدبر أمر النفقات إذ إنني لم أعمل طيلة حياتي ولا أحسن أي نوع من المهن أو الوظائف.. الجيش ليس وظيفة.. إنه سخرة وسجن وموت. لم نكن كلابا مطيعة تتبع سيدها إنما ذئاب أسيرة يصفدها الحديد وحين يطلقونها على الضحية تنتشي بلذة الجري السريع وتمارس غريزتها في العض وإذا ما بقت محبوسة زمنا يجرح الحديد أرجلها، عندها تسارع إلى أكل بعضها فرائحة الدم تثير البطون الخاوية، هكذا عشنا ولانزال، حتى زميلي علوان عودة الذي لا أدعوه صديقي رغم أنه رافقني طوال الأعوام العشرين الماضية خرج خالي الوفاض مع أنه مارس كل طرق الاحتيال واغتنى فترات عديدة من حياته ثم فقدها ليس بسبب بلاهته فقد كان يتمتع بذكاء شيطاني ولا وجد من سرقه فهو ينتمي إلى عوائل اللصوص. سبب ذلك أن الهزائم تلاحقنا جميعا سواء كنا شياطين أم ملائكة. لم يتطهر علوان عودة بفقدانه جميع أمواله التي جمعها خلال العشرين عاما بل بقى متسخا حتى أثناء الفيضان.

أتذكر أول يوم دخولي الجيش كأنه حدث بالأمس، تماما مثل أول يوم دخلت فيه المدرسة. أرادوا أن يعلمونا الوقوف منتصبين كما زعموا، يرسمون لنا الخط المنحني في وسائل الإيضاح كرمز للخنوع يجب شطبه والاستعاضة عنه بالقامة الممدودة كالعمود، وهأنذا الآن أمشي محدودبا تتناهبني أكثر من جبهة، مكشوفا لا يسترني خندق فوالدي قد توفى وليس لعائلتي من معيل غيري، وأنا لا أحسن كسب المال حتى لو تضاءل لشراء الخبز فقط. أبيع حاجياتي بأرخص الأسعار وأشتري كل حاجة بأغلى الأثمان، لا أعرف المساومة إنها لغة أشد وطأة من سباب الضباط وصفعهم لنا.

عشت بعد اليوم السابع في جبهة مشتعلة لا تخمد نارها ليلا ولا صباحا.. الطبيب يطالب بأجرة المعاينة سلفا وابني يبكي من وجع الأسنان.. أفواه باقي أبنائي لا يملؤها الطعام. وددت الرجوع إلى العسكرية، إنها تشبه كونك طالبا مدرسيا بلا مسئولية. بعد عشرين عاما من الخدمة في الجيش خرجت لا أحسن شيئا غير حفر السواتر الترابية وتلقيم المدافع بالذخيرة وأخذ التحية للضباط ومشاهدة جثث الموتى.

تضغط علي لقمة العيش بأثقل من جنازير الدبابات، عجبت لعائلتي كيف عاشت في غيابي طيلة عشرين عاما مع أن والدي قد توفي منذ زمن. أشاهد زوجتي تحتضن ابني الصغير، تلتف حوله كمن تريد إعادته إلى بطنها. تذكرت تلك الكردية التي أيقظناها ليلا وهي متكورة حول طفلها، أخذت ترطن بكلمات لا نفهمها لكن عينيها كعيني لبؤة تعترضنا، يكسر شعاعها ماسورة البنادق المصوبة نحوها فبرغم دفء المغارة أخذنا نرتجف لمشاهدة جسد المرأة ينتفض كمن أصيبت بالصرع. كان رفاقي مصممين على قتل أي رجل يجدونه، ففي غروب ذلك اليوم ضربت رصاصة مجهولة رأس الجندي الطيب عبدالرحيم عناد وهو يعد الشاي لنا، رصاصة قادمة من المكان الذي اقتحمناه. كانت المرأة تشعر بالخطر ولعلها تعلم من الذي أرسل الرصاصة. استمرت ترطن وليس بيننا من يفهم كلامها، ربما كانت تهذي لكن الكلام غير المفهوم يكون أشد وقعا فتفرقنا عنها لكننا أخذنا بعض الشيوخ أسرى من المغارات. علوان عودة الشرير استولى على بنادق الصيد سارع قبل أن يتم تسجيلها وإيداعها في مخازن الوحدة العسكرية لإعادة بيعها إلى الأهالي. عندما علم الشيوخ أن القتيل هو عبدالرحيم عناد بكوا بكاء مرا فقد كان الوحيد من بيننا الذي أقام صداقة نزيهة مع هؤلاء القوم حتى أنه فكر أن ينضم لهم يوما لمشاهدته أحد الضباط يضرب شيخا منهم، أمسك يد ضابطه فكان جزاؤه السياط والحبس شهرا. عجبنا لدموع هؤلاء الشيوخ وقد انغلقت أعينهم كنبع أهيل عليه التراب يبلل لحاهم وشواربهم، كانت عيونهم قبل لحظات ترسل النيران بأمضى من الرصاصة التي أصابت عبدالرحيم عناد، تصلينا بحريق من البغضاء والكراهية، لم تطفر ولا دمعة شاردة منهم وهم يتلقون ضرب الضباط والجنود طوال الطريق من مغاراتهم إلى معسكر الوحدة لكنهم انهاروا عندما وجدوا القتيل عبدالرحيم عناد وليس غيره ممن يودون خنقهم بأيديهم.

أمر الضابط الأقدم بإطلاق سراحهم قائلا:

ـ لم يطلبوا منا المغفرة بل طلبوها مباشرة بدموعهم من عبدالرحيم عناد.

حيرني أمر الضابط الأقدم فقد كان نصف فاشي ونصف إنسان، استمر الجدل بيننا حوله إلى أن غادرنا يوما بصحبة عنصرين من الاستخبارات فلم نعد نسمع عنه شيئا.

زارني والد زوجتي في البيت، سبقته عربة محملة بأكياس الرز والطحين والفاصولياء وغيرها، حينها علمت من الذي كان يطعم عائلتي في فترات غيابي الطويلة فالآباء يمارسون الخدمة حتى وهم على فراش الموت، شكرته قائلا:

ـ سأرد لك ذلك يوما ما.

رد بضحكة قصيرة. سألني إن كنت قد تعلمت إحدى المهن في الجيش كالخياطة أو البرادة أو غيرهما، أجبته إنهم لا يعلمون جنود الجبهات الأمامية أي شيء سوى اتقاء أنفسنا من القصف ونيران القناصة والرد بالمثل وقد قضيت كل السنوات العشرين في الجبهات الأمامية. أخبرته أنني أحسن قيادة السيارات الكبيرة كاللوريات والشاحنات. ضحك مرة أخرى يكشف جهلي بالحياة المدنية.

على مدى يوم كامل تفحصني والد زوجتي بأسئلته المتنوعة، لاحظ كسلي وعزوفي عن تعلم مهنة كمساعد ميكانيكي سيارات فقد أحرقت العشرون عاما من الحروب المتواصلة كل بقايا الصبر في نفسي، أردد له (بعد ما شاب ودوه للكتّاب). أريد مهنة جاهزة مللت أوامر النهي والزجر التي عشتها طويلا في الجيش. على عكس كبار السن العصبيين كان والد زوجتي هادئا، ربما تفهم عمق التخبط والخوف داخل نفسي. في النهاية أخبرني أنه وجد عملا لي، كاتب مناوب في فندق صغير، مرتبه قليل لكني ربما أحصل على بعض الإكراميات أو الهدايا.

في نهاية ذلك اليوم أخبروني أن علوان عودة قد قتل، لقد رفض التسريح من الجيش آملا بجمع ثروة سريعة يعود بعدها للحياة المدنية فقد كان الجيش رغم الفقر يملك ميزانية مفتوحة يوجد قربها الأفاقون واللصوص. قتل علوان عودة بأحد المسدسات المسروقة، ظنها ولده الصغير دمية يلعب بها، فاجأ والده بإطلاق رصاصة استقرت في رأسه، فلقد كان علوان عودة يسرق السلاح والذخيرة.

عجيب هو قدر الموت يأخذ قويا كأخيل بكعبه وربما في قرصة ذبابة لأنف أسد، كان يملك شراسة ذئب له العديد من المخالب ودهاء ثعلب حفر المئات من الجحور أوصلها تحت الأرض لتسهيل هروبه فلم يقبص عليه ولا مرة واحدة في العديد من سرقاته، رأيته مرة يزحف لميدان المعركة والرصاص يتساقط بغزارة من حوله فيما غيره يفر هاربا، جمع بنادق القتلى، ملأ منها شاحنة، ثم قادها إلى أقرب قرية لبيعها. لم يقامر أو يلهو لكن النقود تفر من جيوبه. شكا لي يوما أنه لا يفهم لماذا لا يكون غنيا مع أن الأغنياء أكثرهم من اللصوص. أجبته ربما في دخيلته لا يحمل روح لص لذا بقي دائما من الهواة في دائرة الأشرار، أقر لي أنه يحب المال ويراقبه مثل ماسك الدفاتر في خزانة الحكومة. حضرت عزاءه، بكيت حظه، بكيت الأعوام العشرين التي قضيناها معا، كنت أنفر منه لكنه عاد الآن إلى قلبي كروح لم تجد طريقها في زحام الناس.

في الحرب الثانية اغتنى علوان عودة كثيرا فالبنادق التي تركتها الجثث الملقاة بجانبها لا تحصى، تلقفتها أياديه فيما اشتغلت أنا دفانا. كنت أشتمه فيرد علي هازئا:

ـ كل شيء من حولنا قذر.. أقذرها الحرب وأنت مشارك فيها.

على ضفاف (الكارون) جمع بنادق القتلى بأعداد هائلة نال عنها وساما من القائد لكننا في الليلة نفسها ألقينا بأنفسنا في (شط العرب) نسبح إلى الضفة الأخرى والرصاص يطاردنا متخلين عن كل سلاحنا. أضحكني يومها وجه علوان عودة الواجم كمن فقد فجأة ملايين الأسهم في بورصة (الوول ستريت). لمحنا من خلال وميض الرصاص كوخا يرقد بين النخيل، أردنا أن نطرق بابه الخشبي لكننا سمعنا من النافذة المفتوحة صاحب البيت في لقاء حميم مع زوجته. تمهلنا قليلا ثم طرقنا النافذة. أدخلونا البيت نرتجف، خلعنا ملابسنا نجففها ونتدفأ على موقد نار فيما راح الرجل وزوجته يغتسلان في الغرفة الأخرى.

حماني علوان عودة من السقوط فقد كانت أعماله المشينة كأمصال اللقاح تزيد من مناعتي، أراها مخجلة فتتحصن نفسي. في بداية سوقه للعسكرية أوكلوا له حمل صناديق الذخيرة الثقيلة، كان يسير بها على ظهره المنحني وسباب الضباط المقذع يلاحقه. أسرّ لي أنه ربما يعمد إلى تفجير كل صناديق الذخيرة في المخزن وينتحر معها، لمته على ذلك ثم بدأ يسرق الذخيرة ويتطوع لحملها، تمنيت عليه أن ينفذ ما فكر به وينتحر أو يتوب عن أفعاله، فاجأني برده:

ـ الاغتراب يخلخل المعتقدات.. في أي ظروف نحن نعيش؟

قلت له من أين سمع هذا الكلام، أجابني من الضابط الأقدم، ثم أردف:

ـ ألا ترى أنه كلما طالت الحرب قصرت الثياب إلى أن نمشي يوما ما عرايا!

أعطوني مناوبة ليليلة دائمة في الفندق الذي يعج بالسكارى أواخر الليل، يأتون كأنهم مصابون بلوثة ثم يبكون بمرارة قبل أن يأووا إلى فرشهم، عرفت أن معظمهم جنود سابقون حديثو التسريح مثلي بعضهم يعمل ليوم واحد، وينام أياما لكنهم جميعا يسددون الأجرة في النهاية، لا يأكلون ليالي، يشترون الخمر أولا لدى توافر النقود.

في كل يوم أعلق على باب غرفة الجلوس يافطة صغيرة (ممنوع شرب الخمور) في الصباح لا أجدها إذ إن أحد السكارى ممن لا يعجبه هذا التحذير ينزعها من مكانها ويلقي بها بعيدا عن الفندق.

في أول ليلة لي جاء حوالي الساعة الثانية عشرة ليلا رجل الأمن المكلف بمراجعة أسماء نزلاء الفندق وأرقام هوياتهم كان ثملا هو الآخر، ظننته بادئ الأمر أحد النزلاء طلبت منه الذهاب إلى غرفته، رمقني بعين حمراء قانية زاد من احمرارها الخمر والغضب، أشاح بوجهه ثم قال:

ـ أعطني هويتك مع كشف أسماء النزلاء.

مع نهاية كلامه وضع يده على خاصرته ليريني كعب المسدس. رمى الهوية ودفتر السجل، أمرني أن أقدم له تقريرا يوميا مكتوبا عما يدور في الفندق ليلا، أجبته: ليس هناك غير السكارى، لا نسمح بالدعارة في الفندق مطلقا، رد متبرما:

ـ لا يهمني أمر الدعارة بل الكلام ضد الحكومة.

أجبته أنني لا أستطيع أن أكتب له تقارير خطية يومية لكني سوف أوجز له ما يدور في الفندق شفويا من ناحية الإخلال بالنظام. رمقني بنظرة احمرار بعد تحديقة طويلة قال:

ـ سنكتفي بهذا في الوقت الحاضر لأنك جديد لكن يجب أن تعلم أننا قادرون على تطويع أي فرد حتى لو جُبل من حديد لأننا نملك أفران الصهر.

شعرت بدوار فلقد ثملت قبلها من منظر السكارى المساكين ثم أكمل علي رجل الأمن بكلامه الذي نزل على رأسي كالمطارق لكن النوم محرم علي ليلا كما أنني لا أملك ولع الراقصات بالسهر.

أغلقت باب الفندق لأستريح جاء الطق بالقناني أعدت فتحه ثم أغلقته، تكرر ذلك عدة مرات بعدها تركته مفتوحا.

أثارني بكاء السكارى العائدين فجرا من الخمارات، دخلت إحدى الغرف رأيت أربعة منهم يبكون واثنين في الفراش، طلبت منهم بعصبية أن يكفوا عن إيقاظ ليل الفندق ببكائهم، استيقظ الاثنان وانضموا يشاركون زملاءهم البكاء. سألتهم ما الذي يبكيهم، أجابوني:

ـ نحن جنود سابقون نبكي رفاقنا الذين قتلوا من الأمام ومن الخلف.

شرعوا في هذيان يصفون لي كيف قُتل رفاقهم.. أحدهم يبدأ من منتصف قصته الثاني من نهايتها كي يزداد حزنا، يتكلمون في آن واحد تدخل أصواتهم إلى رأسي كالرعد يسبب لي الصداع، ألم لا أستطيع تحمله وجدت نفسي عاجزا.. انخرطت معهم في البكاء.

في الحرب الثالثة جعت أشد الجوع مع أن البلد الذي دخلناه كان أغنى من أن يوصف، ليس الحال كما كناه من رفاهية أيام الحرب الثانية رغم أننا وقتها سكنا البراري والمرتفعات البعيدة. كان الطعام يأتي لنا بأكثر مما نملك من عتاد، طعام متنوع يحوي الحلوى، لم نألفه أيام السلم القصيرة التي أعقبت مغامرتنا في كردستان ولا وجدناه على أرفف محلات بيع الغذاء المحلية.

بعد شهر من الجوع هربت من وحدتي العسكرية، في هذا الشهر ترك الجميع القتال وانهمكوا في النهب العلني.. سارع اللصوص والدولة كفرسي رهان يتسابقون في أيام (الفرهود) هذه بدءا من إطارات السيارات إلى تفكيك وسرقة مصانع بكاملها.

قبل فراري شهدت عرضا تراجيديا لم تبتدعه مخيلة شكسبير.. لينفوا تهمة السرقة أتوا على عجل بضابط كبير علقوه في (ساحة الصفاة) شنقا على رافعة (كرين) فهم مستعجلون دائما عندما يتعلق الأمر بالقتل مما عزز شائعات اعتراضه على أعمال السرقة. لم يكن مشهد قتله الفاجع نهاية المسرحية فقد كان يجري على الأرض عرض آخر كوميدي فتحت أقدامه المتأرجحة كانت سرقة المحلات التجارية تجري علنا.

نشط علوان عودة في جمع أكبر ما يمكنه من المسروقات فلأول مرة لم يستعمل حيله وأحابيله كي ينجو من المساءلة ولا كان بحاجة لليل كي يستره، ضحك كثيرا من وجهي المتجهم قائلا:

ـ أظنك لا تشتمني هذه المرة فالجميع تحول إلى اللصوصية.

ـ ليس الجميع، سأعتـرض بالفرار من هذا المكان.

استأجر علوان عودة دارا قرب منزله كمخزن للمسروقات أما داره فقد أفرد غرفة واحدة لزوجته وأطفاله ينامون بها وملأ باقي الغرف بالحاجيات المنهوبة، لم يشأ أن يبيع منها، ينتظر أن تنفد الحاجيات ليعود يبيعها بأغلى الأثمان لكن الفقر لازم علوان عودة منذ مولده فقد عمدت الحكومة إلى تجربة عملية لإخلاء المدينة إلى البساتين المحيطة بها خشية تعرضها للقصف في أي لحظة لتقليل الإصابات في الأرواح في حالة حدوث ذلك. أجلوا السكان من المدينة ومنعوا دخولهم لها يوما كاملا كان كافيا للصوص الرسميين أن يسرقوا كل مدخرات الناس وكل ما جمعه علوان عودة في سنواته الماضية والحاضرة. وجدته ضائعا خاطبني:

ـ أنا أشتم نفسي هذه المرة، لقد ضاع كل الذي (لممته) في حياتي.

عندما أعود لبيتي صباحا تطرد ضياءات الشمس النوم من أجفاني، يتواصل أرقي نهارا، أغفو قليلا في الظهيرة لتعب جسمي، أفتقد متعة الليل، راحتنا المعتادة بعد يوم مضن.. كم هي إذن صعبة حياة الراقصات إذ لا يمتلكن ليلا. أولادي الأربعة يعودون من المدارس في الظهيرة فتقصر إغفاءاتي رغم حرص زوجتي أن تبعدهم عن غرفة النوم لكنهم ما إن يدخلوا البيت إلا وتدب الفوضى.

سمعت طرقا متواصلا على الباب، صرخت في زوجتي أن تبعد الأولاد، جاء صوتها مرتعشا:

ـ افتح الباب، صاحب الفندق ومعه شرطي يطلبانك.

دخلت برفقتهم إلى إحدى غرف الفندق التي تحوي سريرين أحدهما يتمدد عليه شخص والآخر فارغ، في الطريق أشار الضابط على صاحب الفندق الذي بدا شاحبا بالصمت. سألني الضابط:

ـ من هذا الشخص؟

ـ أيقظوه.

ـ إنه ميت.

أخبرتهم أنه جاء البارحة بمعية شخص آخر.. كل شيء مدون في السجل، أسماؤهم وأرقام هوياتهم. أخذوني إلى الحبس، أرسلوا الجثة إلى الطبيب الشرعي. جاء التقرير بأن المتوفي قد قتل خنقا وأن هوية القاتل مزورة. تضاعف الضرب والتعذيب طيلة شهرين عندما ذكرت في إفادتي أنني رأيت القاتل من النافذة قبلها بأيام يتحدث مع رجل الأمن في الشارع وأن الأخير أشار صوب الفندق. لاحظت أن المحققين غير عابئين بمعرفة القاتل مما جعلني أطمئن لقرب إطلاق سراحي وهكذا كان.

طردني صاحب الفندق من العمل، سألت والد زوجتي السبب مع أن مالك الفندق يأتمنني على كل شيء. أجاب والد زوجتي:

ـ أنهـا أوامـر الحكـومة. لا يستطيع رفضها.

عدت إلى الشارع لا أحسن شيئا ألتهم حبوب الصداع، فبسبب عملي الليلي السابق أصبحت لا أنام في الليل ولا في النهار. وصف لي الطبيب حبات (الفاليوم) التي أدمنت عليها ثم امتنع عن وصفها لي والصيادلة لا يبيعونها إلا بتوقيع الطبيب. فكرت أن أسبق موتي لكن أولادي يمنعونني بعيونهم البلهاء فالوالد حتى لو كان مقعدا يبقى أبرز معالم البيت، يرونه مظلة فوقهم وإن كانت مهلهلة لا تستر كحالي. لا تزال مستقرة في أذني صيحات: (استعد) فأقفز من فراشي ليلا أؤدي التحية. حياتي التي أردتها أخذتها العسكرية، أي ذكريات أحمل.. أصوات المدافع، نيران، مغارات أغلقت على أهلها المتردين داخلها، غازات سامة تفسد عليل الهواء، جثث بعضها دفن وبعضها ترك في العراء، إهانات الضباط اليومية أقسى من نيران الحروب.. عبدا عشت عشرين عاما وعندما استعدت حريتي لم أتحرر من العبودية فالرغيف بقي بأيدي السادة رغم كثرة الأنهار عندنا كأن ما يجري فيها ليس ماء إنما من دموعنا المسفوحة والتي لا تنبت زرعا فقط تدفئ المقابر وتترك الملح على الخدود.

اشتركت في ثلاث حروب دون أن أجد عدوا، القتلى جميعهم من الأهل والجيران، طيلة الأعوام العشرين التي قضيناها نحارب لم نخضها مع أعداء.. لماذا إذن الحروب إن لم يكن هناك أعداء؟!

 

حميد الأمين