الترقيم في اللغة العربية عبدالستار العوني

الترقيم في اللغة العربية

أصبح الترقيم الآن أحد العناصر الحاسمة في إنتاج جماليات النص الأدبي البصرية والأسلوبية. ورغم أنها مسألة قد تبدو شكلية بعض الشيء إلا أنها عنصر أساسي من أجل بعث النظام في فوضى النص.

الترقيم مصطلح يطلق على مجمل الأشكال الخطية غير الهجائية الموضوعة في غضون السلسلة المكتوبة تنبيها للقارئ إلى مدد الوقف ومواضعه من المقروء وضبطاً لنبرات الصوت وإيقاعه ومنحناه. ثمّ إنّ للترقيم وظيفتين أخريين: الأولى نحوية تركيبيّة مناطها الإفصاح عن الوشائج القائمة بين عناصر الجملة الواحدة والحدود الفاصلة بين جمل النصّ بعضها عن بعض. والثانية طباعّية تنصرف إلى وضع النص في فقرات وعزل مفرداته ببياضات تميّز اللفظ عن سابقه ولاحقه داخل السطر المكتوب وإلى تسهيل تناول النص عقلياً - بواسطة العنونة والتّبويب والمراوحة بين أفنان الخطوط وما إليها من مواضعات الإخراج السليم - وإجرائياً - عن طريق ما يفي من الوضوح البصري بإحكام الأداء في القراءة الجهرية وربح الوقت في القراءة الصّامتة.

هذا، إلى أن الترقيم أصبح الآن أحد العناصر الحاسمة في إنتاج جمالية النّص الأدبي البصريّة والأسلوبية الكامنة فيما وراء المؤدّى المباشر.

محاولة لتلافي الفوضى

ولئن ألّف أحمد زكي باشا رسالة بعنوان: الترقيم وعلاماته في اللغة العربية من سبع وأربعين صفحة، فقد كان دافعه إلى ذلك تلافي الفوضى التي كانت تضج بها كتابات أواخر القرن الماضي ومطالع الحالي على صعيد الترقيم. فتعلّقت همته بإحالة كل مستخدمي العربية إلى مرجع مشترك وجمعهم حول ضوابط محددة دقيقة قارة يحتكمون إليها في تعيين أوجه استخدام كلّ علامة وأغراضه. لكنّه لم ينشر عمله بحيث يطلّع عليه النّاس كافة بل آثر الاقتصار على طبع خمسمائة نسخة منه تهيأت سنة 1912 ووزعت هدايا على أصفياء المؤلّف من وجهاء مصر والشام ومن أعلام المستشرقين.

واتّصف بحثه بكونه تقعيدياً صرفاً منطلقه تعريف التنقيط ورصد أبرز علاماته مع الاصطلاح عليها بأسماء من صميم العربية: الشّولة [،] والشّولة المنقوطة [؛] والنقطة [.] وعلامة الاستفهام [؟] وعلامة الانفعال [!] والنقطتان [:] ونقط الحذف والاضمار [....] والشرطّة [-]، والتّضبيب [" "] والقوسان [()]. ثم يتسع البحث في مرحلة ثانية إلى استيعاب حالات استخدام كلّ علامة على وجه التّفصيل مع الاستشهاد لها بجمل من صوغ أحمد زكي باشا نفسه وبأمثلة مقتطفة من القرآن الكريم والحديث الشرّيف وأقوال القدماء.

لكن يؤخذ على أحمد زكي باشا خلوّ وطابه من المعلومات الكافية عن الترقيم في الألسن الأجنبية (حيث اجتزأ منها بما جرت به أقلام الفرنسيين ممن تصدوا لتأليف الكتب المدرسية والمعاجم المستفيضة بين الناس) وعدم وقوفه على أبعاد الوقف والابتداء في فصحانا (إذ اكتفي بخلاصة المستشرق الفرنسي دي ساسي لكتاب أبي عمرو الدّاني: البحث المعروف في معرفة الوقوف). لذلك جاء عمله غير واف بالهدف، متضمنّاً من الأخطاء المنهجيّة والمعرفيّة أكثرها انتهاكاً لسنن العربية وإخلالاً بخاصياتها التركيبية.

فالمستخلص من بحثه أنه لم يتمعّن في التّطور التاريخي للترّقيم ولم يستمرئ نظرياته بالقدر الذي يمكنه من تمييز الآفل منها بحكم التطوّر عن الجديد البازغ الناسخ ما قبله. فترتب عن ذلك أن باشر تعريف الترقيم على أساس النّظريّة التنفسيّة التي كانت سائدة في القرن الثامن عشر بفرنسا. ثم ما عتّم أن صدف عنها ليعتنق - في مستوى حالات استخدام كلّ علامة - مزاحمتها النظريّة النحويّة المنطقيّة التي صار معمولاً بها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وإن شئت فعد إلى رسالته المتقدّم ذكرها؛ فإنّك واجد فيها أنه لم يطوع عملية الترقيم للغاية منها حتى لقد شاع الجفاء بين النظرية وتطبيقاتها، وقام حاجز متغلغل بين هدف الترقيم في كليته والأهداف المرتجاة من كل علامة على حدتها. وفي سنة 1921 افتر يراع عبدالرءوف المصري عن رسالة من أربع وثلاثين صفحة بعنوان: الترقيم والإيقاع ألمع بمقدمتها إلى أنّه استنار في وضع خطّتها ومرماها بنصائح أستاذه أحمد زكي باشا. والحقّ أنّه قد وفق في نزع الطابع التهويلي الذي كان أستاذه أضفاه على مبحث الترقيم، مع إجراء تعديلات على بعض الأسماء (علامة التوضيح بدلا عن النقطتين، علامة التنصيص أو الشّناتر عوض التضبيب...) فضلا عن سلك العلامات في أصناف فرعيّة وعن الاقتباس من "أسلوب كسباي" لهرتمن الألماني.

إلا أنّ دراسته، مع ذلك، تبقى موصومة بشائبة الافتقار إلى الشروط المنهجيّة إذ تضوع من ثناياها رائحة التناقض بين المقدمة والنتائج، فكأن الباحث أفضى به النّظر والتحقيق إلى اختتام البحث بنسف ما كان أسسه عليه في المدخل وتقويضه. هذا، عدا الأخطاء المعرفية المعزوّة إلى قلة الاطلاّع على الأمهات من كتب التراث العربي وعلى أبحاث المستشرقين أمثال جويار ورايت ولين في مجال الإيقاع وعلى ما سوى ذلك ممّا يعد بمثابة جواز مرور الباحث بحث استقصاء واستيعاب إلى دنيا الترقيم.

ثم ما لبثت وزارة المعارف بمصر أن ألحقت الترقيم بسائر مواد المناهج والبرامج العمومية وقررّت ابتداء من سنة 1932 سفر الترقيم والإيقاع لعبدالرءوف المصري على طلبة الصّفين في المدارس. ثم بادر مجمع اللغة العربية بالقاهرة إلى إيلاء هذا الموضوع ما يستحقه من عناية وذلك بإعداد مشروع يمد أصوله من قرار وزارة التربية المصرية المتعلق بحروف التاج وعلامات الترقيم المصادق عليه سنة 1931- ويحض على استعمال علامات الترقيم "على النحو الذي أقرّته وزارة المعارف بمصر سنة 1932 وعددها عشر: الفصلة والفصلة المنقوط، والوقفة والاستفهام والتأثر، والنقطتان الفوقيتان، والنقط الثلاث المتجاورة علامة على الحذف، والشرطة أو الوصلة، وعلامة التنصيص والقوسان".

هذا كلّ ما حدث في مصر؛ ولا أعلم أن أحدا - أو هيئة - عني بالترقيم خارجها، حاشا مؤلفي الكتب المدرسية وكتيبات الإملاء في سوريا وليبيا ولبنان والأردن فإنّهم لا جرم يعقد الواحد منهم في مصنّفه فصلاً موجزاً عن الترقيم يكون عالة فيه على أحمد زكي باشا وعبدالرءوف المصري، أحدهما أو كليهما. على أنّ دراستيهما لو وزنتا بموازين المنظور اللساني الرّاهن لما صمدتا للنقد والتمحيص، ولتبين أنهما بلا ريب "كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً".

ولو رمنا وضع أي من تينك الدراستين في سياقها الحضاري لأفضى بنا المطاف إلى أنهّا تشذ كليّاً عن المسار التاريخي الطّبيعي للثقافـة العربية. فالترقيم بعامّة إن هو إلاّ موروث خطّي وشاهد علامّي على الانتقال الحضاري التدريجي من ثقافة الصوت والأذن إلى ثقافة العين والكتاب. بل في مصر بالذات "كانت العناية بالقراءة الجهريّة واضحة حتى العقد الأوّل من القرن العشرين؛ وترجع تلك العناية إلى أسباب تاريخية ولغوية".

ثمّ جاء العقد الثاني من القرن العشرين وانتقل تعليم القراءة من العناية بالقراءة الجهرية إلى القراءة الصّامتة. وكان وراء هذا التغيير نتائج البحوث التي أجريت في الخارج. أما الترقيم، على نحو وروده في عمل أحمد زكي باشا ثمّ في رسالة تلميذه عبدالرءوف المصري، فإنّه مؤسس بالخاصّة على مواضعات القراءة الجهريّة وهو أوثق صلة بالشفوي منه بالمدون. لكن لا تثريب على الرجلين اليوم، ولا جناح عليهما أن يكون قد جاء في دراستيهما من الهنات مالو تحرّينا أسبابها لعذرناهما كلّ العذر. بل حسبهما فخراً إحراز قصب السّبق في الوعي بقيمة الترقيم، ترقيم العربية.

ألا ما أحوجنا اليوم إلى دراسة للترقيم ترمي إلى الإفصاح عماّ إذا كان هذا الجهاز الرامز المرافق للكتابة حتمي الحضور في المكتوب العربي، وتقوم نظرياً ومنهجياً على الأسس اللسانية السائدة في الظرف الرّاهن. ولئن تحتّمت على خائض هذا العباب الدراية الحقيقيّة والإحاطة الكاملة بخفايا الترقيم وقضاياه الكبرى في اللغّات الأجنبية، فلا معدى له - مع ذلك - عن الانطلاق، من العربية ذاتها اغترافاً من منهلها الثرّ الذي تمثله مصنفات أسلافنا واستنطاقاً لعلامات الترقيم المنبثة في غرر الأدب العربي المعاصر، مسطورة بأسنة أقلام الكتاب الأعلام.

وإن مثل هذا المسعى ليجنبنا التّردي في إسقاط تقاليد ثقافة على ثقافة أخرى ويجعلنا ننتشل الترقيم - بالتالي - من الاعتباطية التي لم يفتأ واقعاً تحت طائلتها منذ أن ألف أحمد زكي باشا رسالته المذكورة. ويعصمنا ذلك من إرسال الأحكام في غير محالهّا، فلا نسلّط على اللّسان ما ليس من صميمه.

الترقيم وأحرف الربط

والحقّ أن جانباً مهماً من الترّقيم بمعناه المعاصر كان قائماً في أذهان العرب القدامى، ثمّ فيما جرت به أقلام البعض منهم، وإن ضمنيّاً وبمصطلحات أخرى أو بطريق غير مباشرة. ففي الجاهليّة قال أبوبكر لأعرابي عن ناقة "أتبيعها؟" فأجاب "لا عافاك الله"؛ فقال له أبو بكر: "لا تقل هكذا ولكن قل: لا وعافاك الله". فأحرف الرّبط عندهم. والواو منها بالخاصّة، كانت تقوم مقام النقطة في الكتابي ومقام الوقفة في الشفوي. وهذه الطريقة ليست خصيصة للعربية بل كان شائعاً العمل بها في اللهجات اليونانيّة القديمة ثمّ في لغة الإغريق المشتركة.

وفي الإسلام "جاء رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فتشهد أحدهما فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما! فقال رسول الله صلىّ الله عليه وسلم: قم أو اذهب بئس الخطيب أنت". وفي رواية أخرى قال له: "بئس خطيب القوم أنت؛ قل: ومن يعصهما فقد غوى". ففي الخبر دليل واضح على كراهة القطع، فلا يجمع بين من أطاع ومن عصى، فكان ينبغي للخطيب أن يقف على قوله: فقد رشد، ثمّ يستأنف: ومن يعصهما فقد غوى". ولمّا كان للوقف في غير مواقيته المضروبة (ولعدم الوقف) مساس بمعنى المنطوق تبديلاً أو تشويهاً فقد خيف على فحوى القرآن أن يتلاشى أو يتردّى كلّما أخطأ قارئ في الوقف - وما أكثر ما كان يحدث ذلك - فتكرّس الرّاسخون في النحو والأئمة في القراءات إلى رصد مواقع الوقف في القرآن الكريم حتى بلغت مؤلفاتهم في الوقف والابتداء زهاء المائة كتاب أهمّها الإيضاح في الوقف والابتداء لابن الأنباري، والقطع والاستئناف لابن النحاس، والمكتفي في الوقف والابتداء للدّاني، ووقوف القرآن للسّجاوندي، والاهتداء في الوقف والابتداء لابن الجزري، ومنار الهدى في الوقف والابتداء للأشموني.

هذا عن الجانب التّنفسي من عملية الترقيم؛ أما ما يتعلّق منها بالجانب الخطي فالظاهر أن أوّل علامة ترقيم حفلت بها الكتابة العربية إنما هي البياض؛ إذ ورد عن العرب الأول في صبح الأعشى للقلقشندي وغيره "أنّهم وضعوا كتاباً واحداً وجعلوه سطراً واحداً موصول الحروف غير متفرق". ثم "فرقه ثبت وهميع وقيدار" وإذا صح هذا الخبر فإن مقدم البعثة وما استوجبته الظاهرة القرآنية من حفظ في السطور كان هو الحافز إلى تفريق الألفاظ دفعا للالتباس وتحسيناً للمقروئية.

على أنّ الكتابة العربية لم تكن بدعاً في ذلك من سائر الأنظمة الخطّية السائدة في سالف الزمان. فكتابة اليونانيين كانت خلواً من البياضات بين وحداتها ولم يكن سائداً من أنواع القراءة بينهم غير الجهرية المتردية غالباً في التهجئة والتعثر. ويعد النحوي الإغريقي أرسطوفان البيزنطي (257- 180 ق.م؛ أمين مكتبة الإسكندرية الشهيرة على عهد البطالمة) أوّل من حاول تفريق المفردات عن بعضها البعض في الكتابة اليونانية حين قام نحو 196 ق.م. بوضع أول جهاز للترقيم في التاريخ. أما اكتشاف البياض للاّتينية في القرن السابع للميلاد بأيرلندا فإنّه كان بمثابة الثورة التي لا تقلّ أهمية عن اكتشاف الطباعة فيما بعد.

والحق أن تصوّر السلف للخدمات المرجوة من الكتابة كان في غاية الدقة والصواب. فهم كما ورد في مقدّمة لسان العرب لابن منظور يعتبرون أنّ "الخط ينوب عن اللسان". وقد كان لسان حالهم بليغاً في الإعراب عن الوجهة التي قد طالما حاولوا تعيينها لكتابتهم حيث قال: "وإنّما يلزمنا أن نترجم بالخطّ ما نطق به اللسان". فالمكتوب ينبغي أن يكون تبليغاً أميناً وتصويراً خطيّاً وفياً كل الوفاء للمنطوق. هذا ما ينبغي أن يكون. أما ما هو كائن فعلى خلافه. إذ لا نكاد نعلم بين لغات العالم الحديث لغة تكتب كما تنطق سوى اللغة الفنلندية. بل إنّ "الكتابة الهجائية كانت وما زالت وسيلة ناقصة للرمز إلى الألفاظ كما تنطق".

ومن هنا اتّجهت النيّة لدى الأمم إلى التزود بجهاز خطي رامز يفي بتسجيل فوق المقطعي من اللغة كالتنغيم والنبر وما إليهما مما عجزت سائر الكتابات عن تسجيله بوحداتها الهجائية. والترقيم بأدائه هذا الدّور يقوم مكملا للكتابة، ومعاضدا لها في القيام بوظيفتها الأساس، وإن نسبيا وكان العرب قد حفظوا عن جالينوس قوله: "الكتابة كلام مّيت يتناوله قارئه كيف شاء". وتفطّن بعضهم إلى عدم كفاية الكتابة في الوفاء بتسجيل الأصوات اللغوية فانتهى بهم التدبّر إلى أنّ "واضع الهجاء لم يحكم وضعه".

بل وأشاروا إلى وجود أصوات عربية ليس لها ما يقابلها من صور الخطّ في رسم لسان العرب "منها أربعة أحرف جارية في العربية على ألسن أهلها ولم يخصّوها بصور وهي النّون الغنّاء والهمزة والواو والياء الليّنتان" - بل لئن كان العرب، قد اقتصروا في خطهم على ثلاث حركات - الفتحة والضمة والكسرة - فإنهّا في كلامهم أكثر من ذلك - قال ابن جنّي: "ومحصولها في الحقيقة ستّ؛ وذلك أن بين كل حركتين حركة". وقال فخر الدّين الرازي: "الحركات إما صريحة أو مختلسة؛ والصريحة إما مفردة أو غير مفردة. والمفردة ثلاث: الفتحة والكسرة والضمّة. وغير المفردة ما كان بين بين وهي ستّ لكل واحدة قسمان: فللفتحة ما بينها وبين الكسرة وما بينها وبين الضمة. وللكسرة ما بينها وبين الضمة وما بينها وبين الفتحة، والضمة على هذا القياس فالمجموع تسع. وهي إمّا مشبعة أو غير مشبعة، والمجموع ثماني عشرة. والتاسعة عشرة المختلسة وهي ما تكون حركة وإن لم يتميّز في الحس لها مبدأ، وتسمى الحركة المجهولة".

رسوم العربية وأصواتها

وإذن فقد كان باديا لذوي القدم الرّاسخة في قضايا اللسان أن أشكال رسم العربية أقلّ عدداً من أصواتها، فانفسح المجال إلى قيام ثغرة بين الخطي والصوتيّ وحدوث تفاوت بين المنطوق والمكتوب. أضف إلى ذلك طروء علامات خطية تكتب ولا ينطق بها مثل واو عمرو وألف عصا ومثل همزة الوصل واللاّم الشمسيّة. ويعزو الأصفهاني (نحو 250 - 355 هـ) تمكن التّصحيف من كتابة العرب في الصّدر الإسلامي الأوّل تمكنّا تامّا إلى "أن الذي أبدع صور حروفها لم يضعها على حكمة، ولا احتاط لمن يجيئ بعده. وذلك أنّه وضع لخمسة أحرف صورة واحدة، هي الباء والتّاء والثاء والنون، وكان وجه الحكمة فيه أن يضع لكل حرف صورة مباينة للأخرى حتّى يؤمن عليه التبديل".

وأما التصحيف فهو "أن يقرأ الشيء بخلاف ما أراده كاتبه". وكانت الكتابة العربية من قلّة الضبط بحيث يجوز أن يقرأ الرسم الخطيّ الواحد بطرق شتّى. فالرّسم [س] يتصحّف على ثلاثين مثالا. و"إذا اتّفق على الاسم الثلاثي أن يكون أحد حروفه السّين تصحف على نحو مائتي مثال".

وتلافيا لهذا النّقص اقتبس العرب النقطة عن السرّيان ووضعوا الإعجام والشكل؛ ثمّ أفردوا الشكل بعلامات خاصة استحدثوها من صميم خطهم. لكن الزيادة في التدقيق بالنقد والإعجام والشكل لم تصن الكتابة من أن يعتريها التصحيف، - وإن أسهمت في تخفيض العيوب الحائقة برسم العربي - إذ "كلّما أغفل الاستقصاء عن الكلمة فلم توفّ الحقوق كلّها من النّقط والإعجام اعتراها التصحيف". ثم إن الشكلة المنفصلة عن الحرف كثيراً ما تقع على حرف قبله أو بعده لعدم ضبط يد الكاتب الأصلي أو الناسخ!...

ولا بدّ أن أسلافنا، إيماناً منهم بما نقلوه عن أرسطو من أنّ "ما في الخط دليل على ما في القول وما في القول دليل على ما في الفكر، وما في الفكر دليل على ما في ذوات الأشياء" لم يألوا جهداً في مواصلة البحث عن سبل تدقيق أخرى... قال الأصفهاني: "فالتمسوا حيلة أخرى فلم يقدروا عليها". والحقّ أنه لم تنجز حتى الآن دراسة سيميولوجية من شأنها الإفصاح عن الحقائق التفصيلية لتاريخ حياة العلامات في المجتمع الذي لسانه العربية كي نقطع بأن العرب عجزوا عن إيجاد وسائل خطية إضافية لدعم كتاباتهم.

ونحن لا نؤيّد الأصفهاني فيما ذهب إليه. بل إنّ الأصفهاني نفسه أورد في كتابه "التنبيه على حدوث التصحيف" أن أحمد بن الطيب تلميذ الفيلسوف الكندي "لمّا احتاج إلى استعمال لغات الأمم من الفرس والسريانيين والروم واليونانيين وضع لنفسه كتابة اخترع لها أربعين صورة مختلفة الأشكال متباينة الهيئات، فكان لا يتعذر عليه كتب شيء ولا قراءته". ولا ننسى أنّ المسلمين أوجدوا علامات للترقيم خاصّة بالوقف في القرآن الكريم لا تزال إلى الآن قيد الاستخدام في المصاحف. أمّا في غير القرآن، فقد اكتشف المستشرق جروهمان، لمّا كان يشغل كرسي التاريخ الإسلامي في جامعة القاهرة (1954) ويعنى بتحقيق أوراق البردي العربية وفهرستها بتكليف من مصر - اكتشف أن العرب كانوا يستخدمون النقطة في مكتوبهم كعلامة ترقيم.

أما علماء الحديث فقد أوجدوا الضبّة لفصل كلام النبي صلى الله عليه وسلّم عماّعداه ممّا يسبقه ويلحقه داخل السلسلة المكتوبة. فهي كانت تؤدي وظيفة الشناتر والأقواس المعمول بها في الترقيم الحالي. وإن هذا إلاّ غيض من فيض العلامات الخطية التي قد طالما عاشت وأدّت دوراً ثقافيا في صلب المجتمع الإسلامي والتي تقوم الحاجة الماسة إلى تناولها بالدّرس في بحث لساني وحضاري.

 

عبدالستار العوني

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات