قراءة نقدية في شقة الحرية محمد حسن عبدالله

قراءة نقدية في شقة الحرية

تأليف الدكتور: غازي عبدالرحمن القصيبي

"ومضة واحدة في عمر الزمان، ثم اختفى جمال عبدالناصر" بهذه العبارة الحاشدة عبرّ "فؤاد الطارف" - بطل رواية "شقة الحرية" - عن لقائه الوحيد الخاطف بجمال، ممهدا لانتهاء روايته الطويلة، المثيرة كأنما كان العمر كله يجري، وأحداث الزمان تتدافع، ليتم هذا التلاقي النادر، صانعا ذروة البهجة، ونور الكبرياء، فإذا حدث الاختفاء لم يبق غير الأسى وطرح الأسئلة.

"إنك لا تعرف البشر إلا إذا انغمست في غمارهم، ولا تعرف المدن إلا إذا تشردت في أزقتها، ولا تعرف الحضارات إلا إذا قذفت بروحك في أتونها. هل تصدق يا سيدي أنني بعد خمس سنوات من الدراسة في القاهرة جئت بأسئلة أكثر من التي حملتها معي؟" وهذا الاقتباس قرب ختام الرواية "580" وهي تلملم إشعاعاتها المتفرقة، لتصنع مغزاها الذي أراده الكاتب، وإن تجاوزته محاورها، وتكويناتها الغنية بالفكر، وبالشعر، وبالفن. ولعل الإشارة إلى عبدالناصر، وهو شديد الحضور بما يجعل منها "رواية سياسية"، وتلك الإشارة الأخرى إلى محاولة الانغماس في الحياة المصرية، والخروج منها بأسئلة "وليس بأجوبة كما كان فؤاد الطارف يتطلع ويرجو" يجعل من "شقة الحرية" "رواية اعترافية"، على أن نشاط الذاكرة، وهذه القدرة الفائقة على استدعاء حوادث صغيرة، وشخصيات كثيرة، كثيرة، وسلوكيات واقعية دقيقة، مع الحرص على التوثيق الزماني والمكاني، يدفع بهذه الرواية نحو "المذكرات" - وقد قسم الكاتب فصولها تحت تواريخ الأشهر والأعوام - فكادت تكون رواية وثائقية أو تسجيلية. وقد يؤدي هذا التصور إلى أن أسئلة النقد في قراءة "شقة الحرية" لا تقل عن تلك التي عاد بها "فؤاد" إلى البحرين، بعد خمس سنوات من معايشة الحياة الصاخبة "بكل أنواع الصخب" في القاهرة، كان فؤاد يركب زورقا صغيرا، لا يكف عن التأرجح أبدا، كما أشرف على الغرق بين هذه الضفة أو تلك من ضفتي النيل، غير أن "فؤاد الطارف"، لم يكف مطلقا عن التجديف، والاندفاع إلى الأمام، مستعينا بذراعيه إذا فقد المجداف، ومتجردا تماما من ثيابه إذا استدعى الحال. وكما يرى راكب الزورق أبعد مدى تدركه العين، ويدرك من حركة الحياة على الضفتين ما لا يدركه المقيد بالمكان، أو بالألفة، فكذلك كان الحال في زورق الحرية، أو شقة الحرية، بإحدى عمارات الدقي. هي شقة من أربع غرف، لكنها اتسعت لمسرات قليلة، وأحزان كثيرة، وقلق أكثر، وأحلام أكبر، تنداح عبر هؤلاء الأربعة الذين يقطنون غرفها، لتشمل، الوطن العربي كله.

إن بطل الرواية لم يصنع حياته، لم يختر موقعه في الأرض، أو الطبقة، أو التسلسل العائلي، لكنه اختار، أو اختار له الكاتب، حياة تتطابق وخبرته الخاصة، الشعورية، والفكرية، والسلوكية "بهذا الترتيب" كما اختار لأحداث روايته أن تبدأ في البحرين: أغسطس 1956، وهو يتأهب للمغادرة، للمرة الأولى، إلى القاهرة، وهو في سن السادسة عشرة، ليحصل على "التوجيهية" ثم ينتظم في كلية الحقوق "جامعة القاهرة" أربع سنوات، ليحصل في نهايتها على"الليسانس"، ويعود إلى البحرين "في الفصل الأخير، الحادي والعشرين": سبتمبر/ أكتوبر 1961، تأهبا لسفر جديد إلى أمريكا، مثقلا بالأسئلة، والمسئوليات، والأمنيات. الفرق بين أغسطس 56، وسبتمبر 61 هو الفرق بين تأميم القناة، وانفصال سورية عن "الجمهورية العربية المتحدة". وإذا كانت هذه السنوات الخمس سنوات التكوين - بالنسبة لفؤاد، الشاب المتوثب حماسة لكل ما تنطوي عليه الحياة من المثالية، والقوة، والجمال، والمعرفة، فإن هذه السنوات الخمس ذاتها - كانت - بالنسبة لجوانب معينة للأمة العربية سنوات التكوين، "ونقد" التكوين و"نقض" التكوين أيضا. ولهذا كان اللقاء الحميم بالقاهرة عام 56، والوداع الحزين لها عام 1961، وفي الصفحة الأخيرة يتوقد الحس الرومانسي، وتعصف الذكريات: "يا أم الدنيا! هل أراك مرة أخرى؟ وماذا لو رأيتك، وتلاقينا لقاء الغرباء؟".

التشكيل الفني

إن غازي القصيبي، الشاعر، الكاتب، بلغ من حجم الموهبة، بحيث لا يتمكن من إخفاء نفسه، أو تغيير هيئته. لقد استقر في الضمير العربي، والعقل المثقف: شاعرا، متفرد الرؤية، والنغم. من هنا كان السؤال الأول خارجا عن موضوع الرواية: ما الذي يحمل شاعرا يملك أداته، ويتقن اجتذاب المشاعر والأفكار، ويستجمع المريدين بها، أن يطرحها جانبا، ليكتب "رواية"، لا يحتاج إليها، بمعنى أنها لن تكون "أوراق اعتماده" لدخول ديوان الأدب العربي الحديث، لأنه "متوطن" في هذا الديوان منذ زمن طويل؟ هل يعني هذا أن محتوى التجربة يفيض عن طاقة القصائد بكل ما تقدر عليه لغة الشعر، وتعجز عنه لغة النثر من تكثيف الشعور، وابتداع الصور، بتوليد المجازات، ورسم اللوحات؟ إن هذا واضح من الصفحات الأولى، وإلى الصفحة الأخيرة: العناية بالتفاصيل، واختلاف زوايا الرؤية تبعا لاختلاف طبائع الشخصيات، ورسم المواقف والحوارات ، وتقديم تجربة "مختلفة" في التشكيل الفني للرواية، لا نستطيع أن نقول إنه مسبوق إليه، حتى وإن اختلفنا عليه، ثم يأتي أخيرا المضمون، وهو مضمون "روائي" يستعصي على القصيدة، يتأسس على "الصراع" بين أطراف أو أضداد، وليس على "الغنائية" ، أما أطراف الصراع من البشر فإنهم عدد غير قليل من الرجال الذين ألفهم الكاتب، والذين "ألفوه" من أساتذة الجامعة، والأدباء، والفنانين، ومن النساء، أو الفتيات، على كل مستوى ولون، ومن جهات شتى، وأيديولوجيات مختلفة، من أنحاء الوطن العربي، هذا غير فتيات بلا مستوى، وبلا أيديولوجية أيضا، ولكن، بقي لهن الوطن، "حبيبا" وحيدا في قرارة القلب الجريح، لا ينافسه "طابور" المحبين العابرين، الذين يشترون الحب بالبيزات!!.

حكاية السنوات الخمس

ولعل القارئ الذي يعرف جيدا مدى شاعرية غازي القصيبي، وتوجهاته، سيدرك سلفا أن تجربة "الروائي" لن تختلف عن، فضلا عن أن تناقض مع، تجربة الشاعر. وقد تجلى "الشاعر" في أمرين كانا في خدمة التشكيل الروائي، ولم يكونا - بأي درجة - عبئا عليه: إن تجارب الحب، لجميع شخصيات الرواية بمستوياتها: العذرية، والوجودية، والجنسية، ظلت إطارا أو غلافا خارجيا، لطرح قضايا أساسية، هي الركائز الفكرية للرواية: قضية الحرية، وقضية العدل، وقضية الانتماء، وما يؤدي إلى هذه القيم من شعارات الساسة، ومبادئ الأخلاق، وأصول الدين. ثم تجلى الشاعر ثانيا في الحلم بالمثال، الذي تجسد - إنسانيا - في زعامة جمال عبدالناصر، وفكريا في اعتناق الإيمان بأمة عربية واحدة. أما استهلال كل فصل ببيت من شعر المتنبي، وظهور بعض الشعراء في الرواية، وتبادل القصائد المتوهجة عشقا، بين فؤاد، وليلى الخزيني، فليس مما تختص به هذه الرواية، وإن تميز بأنه يعمق فيها مجرى "الواقعية" أكثر مما يدفع بها نحو الرومانسية، كما هو متوقع عادة من الاستعانة بالشعر والشعراء.

انقسمت حكاية السنوات الخمس وما جرى فيها في واحد وعشرين فصلا، أو قسما، بدأت في الخريف "أغسطس 56" وانتهت في الخريف "أكتوبر 61" وقد انبسط فراق البحرين، ومشاهدة القاهرة - من الخارج - على فصلين، انتهى بهما عام 1956، ولم ينل عام 1957 غير فصل واحد، استهلكته محاولة التكيف مع البيئة الجديدة، وترويض التعامل معها، ثم كان الانتقال مع ثلاثة من الأصدقاء إلى "شقة الحرية" يوم 10 مارس 1958، وهنا تتسع بيئة الرواية، وتتنوع تجارب الشخصيات، إذ اتسعت شقة الحرية لأمة العرب، وجرت بين أركانها حوارات السياسة ممزوجة بعبارات الغزل، وصدام الأفكار والسلوكيات وبهذا اختلف نوع التفاصيل المرصودة، لم تعد "اكتشافا" لأماكن وشخصيات وطرائف، وإنما أصبحت "كشفا" لمشاعر ومعتقدات ومواقف، فجاء العام الأول في "شقة الحرية" "1958" في ثلاثة فصول، ثم استأثر كل عام من الأعوام الثلاثة الباقية بخمسة فصول، فكان هذا الامتداد موافقا لاتساع شريحة الأشخاص، وتنامي الصراعات وتنوعها، وكما جرى الصراع بين أضداد - في الطبائع والأهداف - من البشر، فكذلك كان بين "أطراف" من المعتقد: السياسة، والدين، والعلم، والتجربة المكتسبة، وقوة الأمر الواقع.

يمكننا أن "نراقب" هذه العناصر الخمسة، كيف ظهر كل منها في سياق "الحكاية" المستمرة، وكيف تآلف، أو تقاطع، أو تحور، في عنصر آخر، إن هيكل "الحكاية" لم ينقطع، ولم يفقد حضوره، وقد تأكد بهذه "المحطات" الزمنية المنصوص عليها كمداخل للفصول، كما تأكد أيضا بظهور الشخصيات الأربع الرئيسية، في كل فصل، بغير ترتيب، كما تأكد ثالثا بالربط الدقيق بين أحداث اجتماعية مصرية موازية، وانتقالات نفسية خاصة بهؤلاء الشبان الأربعة، مثلا: أحب عبدالكريم الشيعي المذهب زميلته المصرية فريدة حسين عياد، واتفقا على الزواج، وإذ عاد إلى البحرين ليستأذن والده الشيخ "ولم يأذن بزواج سنية، مصرية" صمم على التمرد، لكنه فوجئ حين عاد إلى القاهرة أن فريدة تزوجت "ضابطا"، وكانت "الموضة" تفضيل الضباط، باعتبارهم "ملوك" العهد الجديد!! وكما استعان الكاتب بالقصائد الشعرية المتبادلة بين عاشقين، فكذلك استعان بالرسائل، التي امتزج فيها الحب، بالسيكولوجيا، بالسياسة. غير أنه أضاف - في التشكيل الفني - إضافة غير مسبوقة، إذ وضع في سياق روايته إحدى عشرة قصة قصيرة، تداولها الصديقان فؤاد ورءوف، "كتب الأول ست قصص" وكما كانت قصص فؤاد صادرة عن خبرته الخليجية، كانت قصص رءوف معبرة عن معاناته المصرية، ولكنهما، في قصصهما الأخيرة، وبطول الصحبة انتهيا إلى كتابة قصص إنسانية عامة، وكأنما أصبحا شخصا واحدا.

مخزن الشخصيات

تنطوي "شقة الحرية" على عدد غير قليل من الشخصيات، بل قد يبدو كبيرا إذا قيس إلى مداها الزمني المحدود، وطابع الحياة، والقدرة على الاتصال التي يملكها طالب في الجامعة، مغترب. وهذا يرجع إلى نمط الحياة التي عاشها غازي القصيبي - شخصيا - في القاهرة إذ ذكر عددا ليس بالقليل من الشخصيات العامة، وأنطقهم - في مواقف قد تكون قصيرة، بل عابرة - بأفكار وعبارات لا يملك سرها إلا من عايشهم عن قرب، وسمعهم، وحاورهم فعلا. ولا يعني هذا أن "شقة الحرية" رواية شخصية، حتى مع وضوح الجانب الاعترافي فيها، وإنما يعني أن بقية الشخصيات، قدمت إلينا كما يراها فؤاد غالبا، وليس كما ترى نفسها، أو كما يراها "المؤلف" من خارجها. لقد كان لكل "شخصية" قضيتها الخاصة، الحادة، التي تضعها على محك الاختبار القاسي. إن عبدالكريم، في القاهرة، تلقى صدمة طائفته، في مدينة لا تعرف الطائفية، وهي صدمة لم يتلق مثلها في مدينته المقسمة بالوراثة بين سنة وشيعة!! لقد قادته التجربة إلى عالم الروح، وقادته الروح إلى عشق "ريري" - نسخة مصرية من غادة الكاميليا. وكان يعقوب لا يمل اعتناق القضايا، وتغييرها، فمن التصوف إلى أبيقور، ومنه إلى ديكارت، والشك والتجريب، فاستقر به المقام عند "النظرية العلمية"، أما قاسم، الذي يرفض زعامة عبدالناصر لأنه يركب سيارة "كادلك" ويلبس كرافته "سولكا" فإنه - وهو طالب يدرس على منحة من الحكومة المصرية - يفتح مكتبا للخدمات، ويتهرب من الضرائب!! لأن حقيقة الحياة - كما يراها - هي "البيزات"، أو الفلوس!! هذه الشخصيات رغم ما تحقق لها من وجود خاص هي - في السياق الروائي - بمثابة تنويعات على لحن أساسي يمثله فؤاد، وهمه المستمر، وهاجسه أو شاغله المتسلط: مستقبل أمته العربية، والمبدأ الذي ينبغي أن تعتنقه ليحفظ لها ذاتها وخصوصيتها، ويفتح أمامها طريق النهوض، وإذ تبدو هذه الشخصيات عناصر سلبية، أو نقيضا، مقابلا لما يعتنقه فؤاد، فإنها - فنيا - تعمق الصراع، وتدفع الأحداث حركيا إلى الأمام، وفكريا - تكشف عن جوانب من إحباطات المسيرة القومية. على أنها - من منظور روائي خالص - تحقق مبدأ "التكامل من خلال التناقض"، ، فيتكامل عبر تحاربها المتناقضة وعي الإنسان بذاته، وبما حوله.

ذاكرة بركانية

أما فؤاد، وهو شاطر في السياسة، وخائب في الحب أحيانا، وعكس هذا في أحيان أخرى. وإذ نتأمل مستويات العشق عند فؤاد، نجدها تتوازى، وتتوازن مع علاقات العشق التي عاشها زملاؤه الثلاثة، وكأننا في الحقيقة، نتأمل شخصية واحدة، في مرايا مختلفة، فهل كان الكاتب محقا حين جعل فؤاد يتصور "نفسه مزيجا عجيبا من شخصيات أصدقائه، ركبه صيدلي غشيم، أخذ من يعقوب قسطا من الثورية، وأخذ من قاسم قدرا من المحافظة، وأخذ من عبدالكريم التوجس والتردد" "ص 45". لقد كان هذا - أيضا - محورا أساسيا في بناء الرواية.

أما الشخصيات غير المؤلفة التي ظهرت في الرواية، وتحدثت، بأسمائها، فأهمها: الشيخ أبوزهرة، وميشيل عفلق، والدكتور أحمد الخطيب، وطه حسين، العقاد، وإبراهيم العريض، وسليمان العيسى، ونجيب محفوظ. وقد تحدث كل منهم بصوته الحقيقي، وهذه مقدرة عالية للكاتب، على أن الأكثر أهمية أن أحدا منهم لم يكن مقحما على موضوع الرواية، أو مفتعلا في حجم مشاركته.

على أن رواية "شقة الحرية" يمكن أن تقرأ من زاوية خاصة، بعيدة تماما عن السياسة وصراعات الفكر. لقد كان "فؤاد" يملك صورة، أو تصورا للقاهرة، قبل أن يعيش فيها، استمد مفرداته من إذاعة "صوت العرب" المهيجة، وخلاصته أن القاهرة عاصمة الأمة العربية، وزعامتها رائدة المستقبل، ومن بعض أهله الذين سبقوه إليها، وشكاواهم من المطار، خاصة الجمارك، وتطلع صغار الموظفين للرشوة، وحين عرف أن في القاهرة حيا يطلق عليه "العجوزة"!! استغرب هذا وقال: يا له من اسم مضحك "ص 22" وتكتمل حواشي الصورة المنقولة عبر قاسم سليل البرجوازية الجديدة في البحرين، فالقاهرة عنده مدينة قذرة، الناس يمشون بالبيجامات، والجو جحيم لا يطاق، ولا يوجد من يحسن الإنجليزية، والطعام المصري لا يؤكل، وهم لا يكفون عن التشويش على إذاعة لندن!! "ص 46". ونزل فؤاد ليعيش تجربته الخاصة، ضايقه من أستاذ اللغة الإنجليزية، في المدرسة السعيدية أن يسميه: "بتاع البحرين"، وإذ يكتفي الناس في بلده بعبارة "طال عمرك"، تقال لكل المستويات تأدبا، ففي مصر الأمر أشد تعقيدا: جنابك، حضرتك، سعادتك، سيادتك، يا أفندم.

فؤاد نفسه عند الست خيرية: سي فؤاد، وعند المكوجي: فؤاد أفندي، وعند جرسونات الكلية: فؤاد بيه، وعند بواب العمارة: الأستاذ فؤاد!! لكن الذي لا خلاف عليه أنه أحب القاهرة، حتى بعد أن اهتز يقينه بزعامة عبدالناصر حين رضي بمهادنة الانفصال، أحبها بعمق وصدق، التمس لها الأعذار، وجمع شواهد البراءة حتى بإدانة نفسه.

لقد استطاع غازي القصيبي أن يتغلغل في الحياة المصرية، من باب المحبة، وليس من باب الصعلكة، وقد امتلك مفتاح الدخول "الظرف" الطبيعي، ثم أضاف إليه نهكته القاهرية، التي شعر بالحنين إليها، إلى تلك الرائحة القاهرية المميزة، المتخمرة عبر ألف سنة، من ألف رائحة، ورائحة "ص 84" من هنا دخل القاموس المصري في لغته دخولا طبيعيا.

إن هذه القدرة الواضحة على التوحد مع عناصر التكوين في الرواية، وبخاصة لغتها، تستند إلى ذاكرة غير عادية، لا يكفي أن توصف بأنها ملتهبة، إنها ذاكرة بركانية، تستدعى مخزونا لا ينفد من كل الاتجاهات، يتحدث عن البوفيه "ص 85" وفي حال إطلاق التسمية يكون بوفيه كلية الآداب، وكيف حملت الجماهير السورية سيارة جمال عبدالناصر "ص 115" وإذ يتحدث صديقه رءوف عن الترعة المتجددة العذرية منذ عصر كليوباترا، يقول فؤاد: "آه!! عودة الروح!! فهمت" "ص 132" ولا ينسى بدعة أنيس منصور وتحضير الأرواح بالسلة، والجلسات التي يعقدها أحمد فهمي أبوالخير، ويحضرها الدكتور عثمان خليل "ص 296 - 301" ويتساءل إذ يحضر ندوة العقاد في بيته: ماذا تفعل يد العقاد تحت البيجامة؟ "ص 443" ويذكر أن ليلى الخزيني "الكويتية" شاركت في حادثة حرق العباءات الشهيرة، رغم صغر سنها "ص 494" ويسجل وقائع اختباره شفويا في الليسانس، أمام الدكتور سليمان مرقص!!.

وتلتقي طاقة الظرف، وقوة التغلغل، وحدة الذاكرة لتصنع حوارا ذكيا، متدفقا، لبقا، يقفز فوق مشكلات شائكة، لا يجاب عنها بغير هذه الطريقة التي برع فيها. نذكر حوارا طرفاه يعقوب ومعيد في قسم الاجتماع "ص 124" وحوارا بين شاب معجون بالسياسة وفتاة من بنات الليل وموضوعه الوحدة العربية "ص 161" وحواره اللاهب مع ليلى الخزيني "ص 497" وحواره المحرج مع زميل عن مدى تواصل عبدالناصر مع مريديه "ص 253" أما حواره مع نجيب محفوظ، فإذا كان من مختزن الذاكرة فيا لها من ذاكرة، وإذا كان من تأليف غازي القصيبي فأشهد أن نجيب محفوظ - كما أعرفه - لن يخرج عنه في كلمة:

- أستاذ نجيب، ممكن آخذ منك نصيحة؟.

- نصيحة؟ يا ابني أنا لا أعطي نصايح، إذا كنت تريد نصيحة أكتب لأمينة السعيد.

........

- سأسألك عن نفسك يا أستاذ.. هل أحببت؟.

- يوه!!.

- كم مرة؟.

- ثلاث مرات في اليوم، قبل الأكل.

وإذ يضحك فؤاد مع الضاحكين "ص 263" يتسلل غازي القصيبي ليقارن بين مجلس نجيب محفوظ، ومجلس ميشيل عفلق. نجيب محفوظ حرفوش يجلس بين مجموعة أصدقاء يضحك، ويعلق، ويدخن، لا تسقط عليه الحكمة من عل، ولا يلقى نصائح مقدسة على حوارييه. إنه النموذج المحتذى لشعب "شقة الحرية" ولكن: ما أشق "الحرية"!!.

 

محمد حسن عبدالله

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الدكتور غازي عبدالرحمن القصيبي





غلاف الرواية