ظاهرة طبيعية أم مرضية؟! الشيخوخة

ظاهرة طبيعية أم مرضية؟! الشيخوخة

لطالما حلم الإنسان بإيجاد وسيلة لإطالة عمره، ولما كان (العمر المتوقع للفرد) في معظم مجتمعات العالم في ازدياد، أصبح حلم الإنسان أن يكون عمره الجديد.. شبابا دائما!!

بعد أن تمكنت المجتمعات المتطورة من إطالة ما يسمى في علم السكان (العمر المتوقع للفرد)، ظهرت تيارات فكرية واجتماعية تطالب بتحسين نوعية الحياة للأفراد، وتنادي بفكرة إضافة حياة كريمة إلى سنوات ذلك العمر لا مجرد إضافة سنوات جديدة إليه:Adding lives to years but not years to lives. والمقصود من ذلك أنه ليس المهم إطالة عمر الفرد فقط، وإنما المهم تحسين مستوى هذه السنوات المضافة للعمر، إذ إن الهيئات الاجتماعية والصحية وجدت نفسها منهكة بسبب ما يدعى شيخوخة المجتمعات. وهي ظاهرة تعاني منها الدول الراقية نتيجة الازدياد المستمر في نسبة الأفراد ذوي الأعمار المتقدمة، وما ينجم عن ذلك من زيادة احتياجاتهم الصحية والمعاشية والنفسية. وفي الوقت نفسه تبين أن شيخوخة المجتمعات تؤثر اقتصادياً في الدول التي تحدث فيها هذه الظاهرة، لأن الكهول الذين طالت أعمارهم غدوا يعانون من مختلف الأمراض والمشكلات الصحية والنفسية الناجمة عن التنكس الجسدي المواكب للشيخوخة. ولذلك توجه الباحثون والأطباء إلى مخابرهم وعياداتهم محاولين البحث عن عقار مضاد للشيخوخة بغية تحسين نمط الحياة للأفراد.

فيزيولوجية الشيخوخة

يعتقد الكثير من الباحثين أن شيخوخة الجسم البشري تبدأ مباشرة بعد توقف النمو في أواخر فترة المراهقة، ولكن ذلك لا يظهر سريرياً على الأفراد ـ إذا استثنينا ظاهرة توقف النمو نفسها ـ إلا بعد بدء سن الضَّهى ـ أي سن اليأس ـ في الأعمار المتقدمة.

إذن المرحلة الأولى من الشيخوخة الجسدية تظهر بعد توقف النمو بسبب التناقص التدريجي في مستوى هرمون النمو Growth Hormone حيث وجد أن مستوى ذلك الهرمون يتناقص بشكل كبير بعد سن العشرين، ويستمر هذا التناقص إلى أن ينعدم الإفراز نهائياً.

لا يعاني الأفراد الطبيعيون من أي أعراض سريرية بسبب هذا التناقص لأن هناك هرمونات أخرى تحاول التعويض عن ذلك، وهي هرمونات الجنس ـ الأندروجين عند الرجل والأستروجين عند المرأة ـ التي يزداد إفرازها بشكل كبير بعد سن البلوغ، ويبقى مستواها ثابتا في الجسم إلى أن تبدأ بالتناقص في العقد الرابع أو الخامس من العمر. ومتى توقف الجسم عن إفرازها ظهر سن اليأس سريرياً ، لاسيما عند النساء، وكيميائياً ، خاصة عند الرجال.

كذلك الأمر في الكثير من هرمونات الجسم التي يتغير مستواها مع تقدم العمر. فمثلا هناك بعض الأفراد الذين يعانون من نقص ضئيل في هرمون الدرق، أو من ازدياد كبير في هرمون الأنسولين مسببا ظاهرة مقاومة الخلايا الجسدية لهرمون الأنسولين وما ينجم عنها من ظهور الداء السكري الكهلي عند الشيوخ.

ماذا يحدث؟

ربطت معظم التغيرات الحادثة مع شيخوخة الجسد بنقص هرمون النمو التدريجي، لأن هرمون النمو هو هرمون بناء، على حين أن عملية الشيخوخة هي عملية هدم يحدث فيها توازن بروتين سلبي ناجم عن نقص قدرة الجسد على صنع البروتينات المختلفة المؤدية إلى بناء خلايا الجسم المختلفة وتجددها. وبرهان ذلك ظهور تجاعيد الجلد ونقص القدرة على التئام الجروح وشفائها. كذلك يحدث نقص في الخلايا العظمية مسبباً ظهور ما يدعى تخلخل العظام Osteoporosis مما يسبب نقص الكثافة العظمية في الجسم. ويظهر ذلك بكثرة حدوث الكسور في الكهولة وصعوبة شفائها وترممها، وحدوث تقوسات في العمود الفقري مسببة انحناء الظهر وتناقص الطول.

وفي الوقت نفسه تنقص كتلة العضلات في الجسم، ويظهر ذلك سريرياً بتناقص القدرة على ممارسة الرياضة وألعاب القوى، وتنكس المفاصل المختلفة فتتضاءل مرونتها وحركتها ويزيد إيلامها.

أما على مستوى النسيج الشحمي في الجسم فيحدث ازدياد في كتلة الشحم الكلية، ويظهر ذلك في ازدياد الوزن مع تقدم العمر وحصول البدانة ـ لاسيما عند النساء ـ إضافة إلى حدوث تغيرات سلبية في شحوم الدم مما يسبب زيادة حدوث أمراض القلب الإكليلية وجلطاته مع تقدم العمر، بالإضافة إلى ضعف عضلة القلب.

وعلى مستوى سكر الدم تزداد ظاهرة مقاومة خلايا الجسم لهرمون الأنسولين مما يرفع مستواه في الدم مسببا زيادة التأهب للداء السكري. كذلك تنقص نوعية النوم، ويحدث تعكر مستمر في المزاج، ونقص في الاستمتاع بالحياة.

على مستوى الجهاز المناعي يحدث نقص في وظيفة الكريات البيض المدافعة عن الجسم فيزداد حدوث الأخماج. ويواكب هذه التغيرات الجسدية تغيرات ناجمة عن نقص هرمونات الجنس، فينشأ نقص في الرغبة الجنسية والفعالية الجنسية، وتوقف الدورة الشهرية عند النساء.

عكس الشيخوخة

لقد لوحظ أن الكثير من التغيرات الجسدية الحاصلة في الشيخوخة تماثل تلك الحاصلة للأطفال والمراهقين المصابين بعوز هرمون النمو أو بظاهرة الشيخوخة المبكرة، أو عند البالغين الذين يستمر لديهم عوز هرمون النمو في الكهولة. ولوحظ أيضا أن الكثير من هذه التبدلات يمكن عكسها باستخدام هرمون النمو، وهذا غير النظرة التقليدية إلى مرحلة الشيخوخة من كونها ظاهرة طبيعية إلى اعتبارها ظاهرة مرضية يمكن عكسها.

وكانت الأبحاث قد أظهرت أن تعويض هرمون الأستروجين عند النساء بعد سن اليأس يعاكس بعض تغيرات الشيخوخة لاسيما ترقق العظام وبعض الأعراض النفسية المواكبة لسن اليأس. وعلى العكس من ذلك لايبدو أن سن اليأس عند الرجال ـ وهي تشخص مخبريا أكثر منها سريريا ـ بحاجة إلى تعويض الأندروجين بكميات كبيرة، لأن تناقص هرمون الأستروجين عند النساء هو أكثر بكثير من تناقص هرمون الأندروجين عند الرجال.

لذلك توجهت الأنظار إلى هرمون النمو ليكون مرشحا أساسيا لعكس الشيخوخة. وظهرت أخيرا دراسات قام بها المعهد الوطني للشيخوخة في الولايات المتحدة وبعض الجامعات الأمريكية والأوربية أعطي فيها متطوعون ـ تتراوح أعمارهم بين العقدين السادس والثامن ـ جرعات مختلفة من هرمون النمو. وكانت النتائج الأولية باهرة في عكس التغيرات المرضية الحادثة في الشيخوخة، إلا أن تلك الدراسات كانت لفترة قصيرة فلم تتسن دراسة هذه التأثيرات على المدى الطويل. وإن كان كثير من هذه الدراسات لايزال مستمرا حتى الآن.

في بعض هذه الدراسات يعطى المتطوعون هرمون النمو وحده، وبعضها الآخر يعطى هرمون النمو مع الأستروجين للنساء والأندروجين للرجال، ونتائج هذه الاختبارات كلها تبشر ببدء اكتشاف (اكسير الشباب). فلقد أظهر هرمون النمو قدرة كبيرة على عكس حالات الاستقلاب الهادم التي تصيب الجسم أثناء الأمراض المدنفة والحروق ومرض عوز المناعة المكتسب (AIDS). بذلك تحول هذا الهرمون من عقار بسيط للأطفال المصابين بقصر القامة إلى عقار ذي فوائد لا تحصى. ودفع ذلك الباحثين إلى محاولة إلقاء مزيد من الضوء على فيزيولوجية هـذا الهرمون.

الحفّاز!

تبين أن هذا الهرمون الذي تفرزه الغدة النخامية Pituitary Gland في الدماغ يقع تحـت تأثير هرمون حفاز يدعي الهرمون المفرز لهرمون النمو GHRH أي Growth Hormone Releasing Hormone وهو هرمون يفرز من منطقة تحت المهاد Hypothalamus في الدماغ. وهذا الهرمون يقع بدوره تحت تأثير مواد بروتينية بسيطة تفرزها بعض النوى القاعدية في الدماغ وتدعى Growth Hormone Releasing Peptides تم اكتشافها حديثا، ويعتقد أنها الآمر الأول لإفراز هرمون النمو.

وقد استطاع العلماء تركيب الهرمون المفرز لهرمون النمو GHRH معمليا، وسمحت هيئة الغذاء والدواء الأمريكية باستخدامه في بعض حالات عوز هرمون النمو. ولهذا الهرمون الحفاز مزية كبيرة وهي أنه يحفز الجسم على إفراز هرمون النمو بذاته، وبذلك يفرز الجسم الكمية الفيزيولوجية التي تنقصه، كما أنه أرخص سعراً من هرمون النمو. وقد بدأت بعض عيادات معالجة الشيخوخة في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية استخدامه لتحسين نوعية الحياة، وعكس بعض ظواهر الشيخوخة، وحتى معالجة البدانة التي يصاب بها الكهول. وينتظر الجميع الآن من شركات الأدوية أن تصنع مشتقات مماثلة لتلك المواد البروتينية المفرزة من الدماغ كي تكون الشكل الفيزيولوجي الأمثل لعكس ظواهر الشيخوخة.

مشاكل غير طبية

أثارت فكرة اختراع مضاد للشيخوخة مشاكل أخلاقية وطبية واجتماعية. وهناك الكثير من الأسئلة التي يصعب الإجابة عنها.

فبعض الباحثين يقترح علاج شيخوخة المدنفين فقط على حين يقترح آخرون علاج الجميع. وهذا يطرح عبئا اقتصاديا كبيرا على الجهة التي يفترض أن تدفع الثمن المرتفع نسبيا لهذا العلاج. وترفض شركات التأمين في الولايات المتحدة الأمريكية حاليا تغطية كلفة هذا العلاج، وهذا بدوره يقود إلى مشكلة اجتماعية أكبر وهي أن الكهول الأثرياء يستطيعون دفع ثمن العلاج في حين لا يستطيع الفقراء ذلك.

كذلك يصعب معرفة العمر الذي ينبغي فيه بدء العلاج بالضبط والجرعة المثالية له، ولا يعرف بالضبط إن كان من الممكن أن يعطى مثل هذا الدواء لشخص أصيب سابقا بسرطان ما خشية أن يحفز هذا العقار نمو خلايا سرطانية هاجعة. وإن كانت النتائج الأولية تشير إلى بعد هذا الاحتمال.

ولا يخلو مثل هذا الدواء من تأثيرات جانبية مثل حبس الماء في الجسم وما ينجم عن ذلك من وذمات موضعية ضاغطة على بعض الأعصاب، وكذلك بعض الآلام العضلية الموضعية أو ارتكاسات الحساسية. إلا أن النتائج الأولية تشير إلى أن الفوائد المتوقعة من (اكسير الشباب) هذا تفوق مخاطره بكثير.

ولكن رغم كل هذه المعطيات، مازال البعض يتساءل عن جدوى تعويض الهرمونات التي ينقص إفرازها في الجسم. ويرى بعض الأطباء أنه لا جدوى من ذلك، ويبررون ذلك بأن الجسم يبدو (مبرمجا) في حالته الطبيعية لحدوث هذه التغيرات فما الضرورة إلى عكسها؟ ليس هناك جواب واضح تماما إلا أن الوقاية هي دائما خير من العلاج ولعلنا نصل يوماً إلى حالة وقاية طويلة من الشيخوخة.

 

محمد اليافي

 
 




مقاومة الخلايا لهرمون الانسولين يسبب داء السكري الكهلي





هرمون النمو يستخدم بفاعلية مع الشيخوخة