عندما يصبح الرجل حمارا محمد الزفزاف

     " كانت الشمس تلمع في جناح من السماء، عابثة بغيمات ضائعة في عالم الصيف القائظ. ولأن الحرارة كانت على أشدها، فقد كان الناس ينفثون الهواء الثقيل من صدورهم آملين في هواء بارد منعش، بينما كانت الحيوانات لا تقل عنهم رغبة في طلب البرودة والهواء ذي اللفحات الربيعية. الكلاب تمد ألسنتها والبغال والحمير تعبر هي الأخرى عن رفضها لهذا الصهد الثقيل، فالدواب الواقفة لا تلبث بين الفينة والأخرى أن تدك الأرض بحوافرها بينما التي تمر في عرض الطريق ترخي رأسها وأذنيها إلى أسفل كأنها تفتش عن شيء في الأرض. وكان الحمار مسعود قد بدا متعبا للغاية. خطواته تتثاقل بعد أن كان يرمي قبل لحظة قوائمه إلى الأمام بسرعة كبيرة آملا في أن يصل، وقد ازداد ثقل هذه الخطوات مما جعل عليا يعالجه بضربة على ظهره، ورغم أن الضربة لم تكن قاسية أو عنيفة فقد توقف الحمار على أثرها. لكن الضربات استمرت يسيرة فعسيرة أو قليلة فكثيرة. غير أن الحمار قد أصر في النهاية على ألا يتحرك بتاتا. هدأ علي، وبدأ ينتظر، ولم يتحرك الحمار، فقال:
- الله يهديك، سر.

لكنه لم يسر، ولم يتزحزح، ولم يخط خطوة واحدة، بل استمر في إحناء رأسه إلى الأرض، وأرخى أذنيه أكثر من ذي قبل، وعاد علي يعالجه بعصاه، لكن عبثا. وظن أن قطع الآجر الأحمر الذي تحمله العربة ثقيلة جدا. بينما عاد يؤكد لنفسه بأن ليست هذه هي المرة الأولى التي يجر فيها مسعود العربة وهي محملة بهذا القدر من قطع الآجر أو غيره، لكنه عاد ليثبت صحة تخمينه الأول. وفكر مليا ثم عزم على أن يفرغ جزءا من حمولته هذه، يترك نصفها على الأرض ريثما يذهب بالنصف الآخر فيعود لينقل النصف الثاني، وكان الصهد لا يزال محتدا، غير أن عليا نسي الحرارة وفظاظة الجو لدى توصله إلى هذه الفكرة أو هذا الاقتراح الذي قدمه لنفسه والذي يؤكد أنه من الذكاء بمكان، وبدأ في تنفيذ المشروع. كان جسده يتفصد عرقا كأنه قربة مثقوبة ولم يبال لذلك، واستمر في نقل قطع الآجر من عربته العتيقة إلى الأرض بجهد لا يحد. وسرعان ما بدأ الحمار يتحرك ليس إلى الأمام أو إلى الخلف، ولكنه كان يتحرك في مكانه، يضرب الأرض بقائمتيه الخلفيتين، ويهز رأسه إلى أعلى بقوة كأنما يطرد حشرة من الحشرات لدغته لدغة مؤلمة فبعثت فيه رد فعل عنيفا، وإذ كان الحمار يتحرك ظن علي أن المشكلة الآن قد بدأت في طريق التسوية، واستبشر مهنئا نفسه على الحل الذي اهتدى إليه بغير مقدمات، والذي نزل عليه من السماء وكأنه الوحي. لا يبلغ مقدار الثلث على كل حال. ثم قفز إلى العربة ماسكا بزمام الحمار وأخذ يجذبه إليه، وهو يطلق صيحة خاصة، لكن أمله خاب، فالحمار لم يتزحزح خطوة إلى الأمام، وأكد على نفسه أنه لابد من تتمة تنفيذ المشروع الذي اقترحه بادئ ذي بدء لكي يصبح الآن على ما يرام، فقفز إلى الأرض وبدأ من جديد ينقل قطع الآجر من أعلى العربة إلى أسفل، وانتهى في الختام بأن قال في نفسه إنه قد أشرف على نقل نصف كمية الآجر إلى الأرض. لكنه عندما انتهى فعلا مني بالفشل، فقد خيب الحمار أمله، وجعله يتساءل عن إيجاد حل لهذه المشكلة التي لم يصادفها قط منذ أن اشترى حماره هذا.

لا شك أن هناك سرا. وإذ كان يضع سبابته بين أسنانه كتعبيرعن شيء لايعبرعنه، انطلق الحمار في نهيق بعيد الصدى رددته البنايات القائمة هناك عن بعد. وبدأ يضرب الأرض بإحدى قائمتيه الخلفيتين ثم رفعها في الهواء، ولبثت كأنها معلقة، واستيقظ علن من تفكيره القصير على إثر نهيق الحمار الذي داهمه كنفير سيارة شحن كبيرة، وجعل ينظر إلى رجل مسعود وهي معلقة في الهواء، ولكن هذا الأخير أعادها إلى وضعها الأول وكأن في نيته أن يطمئن عليا بينما اعتبر علي هذه الحركة بادرة فيها أمل. لقد قالت له هذه الحركة مرة بأنه سيربح نقودا كثيرة في يومه ذاك. عندما وقف ذات صباح أمام الحمار وقال قبل أن يشده على العربة " إذا تحركت إحدى رجلي الحمار الخلفيتين فإن اليوم سيكون مربحا ". ولم يخيب الحمار يومها ظنه وكان له أمل، وحصل على ما رغب، أما اليوم فلم يقل شيئا ولكن رجل الحمار الخلفية- التي اتخذ حركتها آية للخير منذ ذلك اليوم- تحركت، ولا شك إذن أن معجزة ستقع، وتقع المعجرة عندما تحرك الحمار. وضحك هو ضحكة أربت على نهيق حماره مسعود، وقال بصوت مرتفع "لا عدمت يا رجل! " وقفز فوق العربة، وأخذ يحرك رجليه وجسمه ويديه وكأنه طفل يتقي ضربات حزام والده التي تسقط عليه كالأحجار من كل مكان، ولم يفكر في غمرة فرحه في الآجر الذي تركه على الأرض هناك.

ومضى الحمار وهو يعرج، فبهت علي، لقد كانت الرجل الميمونة هي التي تعرج. ما الذي حدث إذن؟ وإذ تساءل هكذا، توقف الحمار مرة أخرى. ولم يتحرك وكانت الحرارة والجفاف على أشدهما، أما الهواء فكان أثقل مما يتصور، وقد بدت الشمس في كف السماء تتحدى الناس والدواب بحرارتها المفرطة، وأشعتها الثاقبة كأنها سهام حادة تنخر فلا ترحم. توقف مسعود بعناد، رفع رجله الخلفية مرة أخرى، فانحنى علي يتفحصها.. وبينما هو كذلك جاء صوت خشن:

- " يا بني آدم!! "

ووقف علي لتوه وهو يقول " لا شك أن بهذا الحمار شيئا"، فقال له الرجل:

- يا سيدي، إن العربات الثلاث وصلت منذ ساعتين وأنت لاتزال هنا، هل تتحرك أم أنادي على عربة أخرى؟.

- إن بالحمار شيئا.

- لا يهمني، هل تتحرك أم..... أيعجبك أن ننتظر سيادتكم يوما كاملا.

فقال علي وهو يمضغ ريقه:

- إن هذا مستحيل. الحمار لا يريد أن يتحرك، قلت هل تتحرك؟ لا يهمني، جر العربة على كتفيك وكان الرجل يتكلم بفظاظة مرفقا كلماته بتعابير قاسية من وجهه. وأمام هذا العالم المتجهم بدت لعلي الدراهم الثلاثة تسقط من يده، وفكر بأن أدنى حركة أخرى منه تعني الرفض، ستؤدي حتما إلى ضياع الدراهم الثلاثة منه وإذ كان يتحدث لنفسه صهل الرجل:

- " لا أريد أن أبقى طيلة اليوم هنا. لا أريد أن أضيع وقتي، لماذا تتصامم هكذا؟ ".

شرع علي في فك العربة عن الحمار. كان بعض الأطفال قد تجمعوا حول المعركة المسالمة، وهم يحدقون في الرجلين منتظرين أن تقع الواقعة كي يتفرجوا ويقهقهوا، كما اعتادوا أن يفعلوا عند كل اصطدام يقع بين شخصين في هذا الحي. وشد علي العربة إلى ظهره لكنه ما إن خطا خطوتين اثنتين حتى قال الرجل:

- والباقي من يحمله؟ أنا؟

قال علي:

- سأعود لأنقله.

ومضى يجر العربة، كان بعض الأطفال يدفعونها من الخلف. لقد وجدوا الفرصة لتمضية بعض الوقت وللمزاح. كان علي يتميز غيظا. ولما توقف وتخلص من العربة فر الأطفال كالأرانب التي أبصرت صيادا. غير أن عليا لم يكن ينوي بهم شرا. لقد توقف فقط ليخلع فردتي حذائه، ليضعهما بين قطعتين من الآجر، ثم عاد إلى عربته واستمر يجرها وجسده يتفصد عرقا، كان يحس بأشعة الشمس تعبث فوق قفاه العاري غير أنه لم يجد القدرة على مقاومة الشمس.أما حمارة فقد تركه للأطفال يتلهون بجذب ذيله القصير.