درع حيوي ضد التلوث عواد جاسم الجدي

درع حيوي ضد التلوث

من الآثار الجانبية الضارة لفرط النشاط الصناعي للإنسان البيئـة، فهل نترك للطبيعة الحية فرصة مقاومة هذه الآثار؟ وهل تقوم بها؟

ظهرت مشكلة التلوث كـواحـدة من أهم المشاكل البيئية مع بـدايـة هذا القرن، حيث أدى التقـدم الصناعي الهائل الـذي صحب الثـورة الصنـاعيـة إلى إحـداث ضغط هـائل على كثير من الموارد الطبيعية خصوصا تلك الموارد غير المتجددة، كـما ظهرت أصنـاف جديـدة من المواد الكيمياوية لم تكن تعـرفهـا البيئـة من قبل، فتصـاعدت الأبخـرة والغازات الضارة من مداخن مئات المصانع ولوثت الهواء، وألقت هذه المصانـع بمخلفاتها ونفـايـاتها الكيمياوية السـامة في المجاري والبحيرات والأنهار، وأصبح تلـوث البيئة ظـاهرة تمسنـا جميعا، فلم تعـد البيئة قادرة على تجديـد مواردها الطبيعية، واختل التوازن بين عناصرها المختلفـة ولم تعد هذه العناصر قـادرة على تحليل مخلفـات الإنسان أو استهـلاك النفايـات الناتجة عن نشاطاته المختلفة، فتلـوث جو المدن بـالـدخان المتصاعد من المصانع أو عـوادم السيارات ولم تسلم التربـة الزراعية ولا الأغذية، وحتى المجـاري المائيـة وأجسـام الكـائنات الحيـة أصيبت بهذا الوباء.

ولا تخلـو منطقـة من منـاطق العـالم من التلـوث الخفيف، إذ تنتشر في الغـلاف الجوي المحيط بالكـرة الأرضية دقـائق من الجزيئـات الملـوثة، أما المدن الصناعيـة الكبيرة فهي موطن التلوث الخطـر الذي يـذهب ضحيته سنـويا مئات الأشخـاص يعانون أمراضا مختلفة معظمها تنفسية سببها التلوث.

وقـد عانت أماكـن أخرى في العـالم من التلـوث المدمر وما منظر مزارع بولندي بـالقرب من الحدود الروسية البولنديـة يلقي بحليب أبقاره في جدول ماء يمر بجانب المزرعة إلا شاهد على التلوث المدمر الذي أصاب المنطقة إبان حادثة تشرنوبل.

وتسعى البشرية جمعـاء ومنذ اكتشافها تزايد ذلك الـوباء وآثـاره المختلفة على المكـونـات الحية للنظـام البيئي Eco system إلى البحث عن سبل العـلاج لتلك المشكلة، حيث تأثرت جراءهـا الكائنات الحية على مختلف درجـات رقيها ابتـداء من بكتـيريا العقد الجذريـة R. Japonicum التي تعيش متكـافلة مع جذور نبات فول الصويا Soyaben وانتهاء بالإنسان الـذي دفع أثمن مـا لديـه ضريبـة للتقدم الصنـاعي فـاعتلت صحته وعانى من أمراض عديدة بسبب تلـوث الماء الـذي يشربه والغذاء الذي يقتـات بـه والهواء الذي يتنفسه.

وقد سعت المؤسسات العلميـة والاجتماعية جادة في سبيل البحث عن طرق للعـلاج حيث أصدرت قـوانين وتشريعـات مختلفـة كتلك التي تمنع بنـاء المصانع الكيمياوية ومصانع الأسمنت في مناطق قريبة من التجمع السكاني، وإيجاد مناطق لاستيعاب النفايات الصناعية، والعمل على استبدال وسـائل التـدفئـة التي تعمل على الفحم والبترول بـأخـرى كهربائية واستغلال الطاقة الشمسية.

كـما اعتمدت طريقة المكافحـة الحيوية وذلك للحد من استخـدام المبيدات حيث تربـى حشرة غير ضارة بأعداد هـائلـة للقضاء على الحشرات والكـائنات الضـارة دون اللجـوء إلى استخـدام المبيـدات الكيمياوية التي تؤدي إلى تلوث التربة، كـما أقيمت محطات وشبكات للرصد ومراقبة التلـوث بحيث تنذر بالخطر إذا وصل التلوث الحد الضار.

الغطاء النباتي العلاج الواعد

قد يلفت نظرك وأنت تسير بجانب منطقة صناعية نمو بعض النباتات على تربة ملوثة بالزيوت السوداء والشحوم والمخلفات البـترولية، ويهدىء من روعك تجاه مشكلة التلوث إذا ما سمعت عـن نباتات تروى بـماء البحر وتستطيع أن تعيش وتتكاثر وتنمو خضراء زاهية، هذه الملاحظات وغيرها من سلـوك الأنواع النباتية المختلفة وإمكان نموها في أجواء وترب ومياه ملـوثة تجعل الغطـاء النبـاتي "رعـوي- حرجي- زراعي " في مقـدمة الـوسائل والطرق المستخـدمـة لمعالجة التلوث أو الحد منه.

ترشيح بأوراق حية

فعلى مستوى التلوث بـالغبـار تلعب الغـابـات والمناطق المشجرة حـول المدن وداخلها دورا مهما في تنقية الهواء من الغبار والجزيئات العالقة به خاصة في المناطق الصناعيـة ويذكر أحد العلماء " 1980 Khanbekov " أن الغـابـة يمكن أن تخفض عـدد هـذه الجزيئات بمعـدل يتراوح بين 100- 1000 مرة.

كـما تحتجـز كميـات من الجزيئات المعلقة تتراوح بين 40 - 80% من كميتها الموجودة في الهواء.

وللأنواع النباتية المعمرة والأشجار فعـالية نشطة في هذا المجال فـالأشجار ذات الأوراق الموبـرة كـالصنـوبـر والسرو والعفص تستطيـع احتجـاز كميات أكـبر من هذه الجزيئـات إذا مـا قورنـت بالأشجـار ذات الأوراق المسطحـة، وبينـت القيـاسات أن تركيز الغبـار في الحدائق العـامـة أقل منـه في الأماكن الجرداء بـ 42% صيفـا و 37 % شتاء.

وتمتص الأشجـار والنبـاتـات قسما كبيرا من الغازات السامة الملوثة، إما مباشرة أو بعد ذوبانها في مياه الأمطار وتمثلها، وبالتالي تحول دون وصولها إلى الزبـة وكـائناتها الحيـة الـدقيقـة ويذكـر "العـودات محمد" عن Moltchanov أن الهيكتـار الواحـد من الغـابات ينقي 18 مليون متر مكعب من الهواء على مدار العام الواحد.

والنباتات المختلفـة تمتص غاز 02S "ثاني أكسيد الكـبريت" بدرجات متباينة، ومـا تمتصه الأشجـار والنباتات من غاز 02s محسوب على أساس 15 كغ من الأوراق الجافـة لـلأشجـار و 3 كـغ من الأوراق الجافة للشجيرات، وذلـك في العام الواحد. وتعتبر أشجار الموز من أكثر الأشجار قـدرة على امتصاص هذا الغاز بطاقة تبلغ 180 جراما.

ومن المؤكـد أن الـدراسـات المختلفـة ستطالعنا مستقبلا بالعديد من الأنواع النباتية التي تقوم بنفس الغرض، ولـلأوراق العريضة الملسـاء قدرة أكبر علي امتصاص غاز 02s من الأوراق الموبرة، وذلك عائد إلى طبيعة تكوينها الفسيولوجي والمورفولوجي.

تحول الأوراق النباتيـة غاز 02s الذي تمتصـه إلى سولفات ممـا يخفف من سميتـه، وينتقل إلى الجذور حيث تفرزه إلى التربة وبـذلك يتخلص النبـات من هذا الغاز السام.

وتلعب عوامل المناخ المختلفة دورا مهما فالرطوبة المرتفعـة تزيـد من معدل امتصـاصه حيث وجـد أن نبات الفـاصولياء يمتـص هذا الغاز بمعـدل عال إذا كانت رطوبة الهواء 70% ويتفوق بثـلاث مرات إذا كانت رطـوبة الهواء 35%، وتمتص النبـاتات في الجو المشمس بمعدل أعلى من الجو الغائم، وعند النباتات النجيلية تزداد شدة امتصاص SO2 طردا مع ارتفاع درجات الحرارة.

أمـا بالنسبـة لغاز أول أكسيـد الكـربون فتمتصـه الأنـواع النبـاتيـة المختلفـة وتتمثلـه في عمليـة الاستقلاب، حتى النباتـات الصغيرة في مرحلة البادرات تمتص هذا الغاز وبصورة نشطة فيذكر أن بادرات الشيلم والذرة والفاصولياء تمتصه في الضوء والظلام وتحولـه داخل أنسجتها إلى SO2 حيث تتم الاستفادة منه في إتمام عملية التمثيـل الضوئيء Photosynthis لـذلك فإن امتصـاصـه في الضـوء يتم بمعدل أعلى منه في الظلام، وتشير الـدراسات البيئية إلى أن حزاما من الأشجار عرضه 30 مترا، يخفض تركيز CO بنسبة تصل إلى 60%، وأن كيلومترا مربعا من الأشجـار يمتص يـوميـا من 12- 120 كـغ من هذا الغاز.

وكشأن بقية الغـازات تمتص النبـاتات أكـاسيد النيتروجـين وخـاصـة 02N ويـدخل النيتروجين الممتص في تركيب الأحماض الأمينية في النبات ، كـما تقوم النباتات بامتصاص أيون النترات من الـتربة الزراعية ضمن المحاليل المائية التي تمتصها من التربة ، وتقوم النباتات باستخدام عنصر النيتروجين الموجود في أيون النترات في تركيب المواد التي تحتاجها لبناء أجسامها وللقيام بعملياتها الحيويـة المختلفة، وقـد يحدث أن تختلف السرعة التي يمتص بها النبات أيون النترات من التربـة عن السرعة التي يحول بها النبـات هـذه النترات إلى الأحماض الأمينيـة وغيرهـا من المركبات الحيـوية فيعمـد النبات إلى تخزيـن الفائض منها في أنسجته وباعتبار هـذه المركبات سامة فيصبح النبات سامـا خـاصـة الأنواع العلفية حيث لـديها القـدرة على تخزين كمية من النترات تتجـاوز حـد الأمان وتتضرر الحيوانات التي تتغذى عليها ومثالها نبات الـذرة البيضاء "السـورغوم " Sorghum sp في بدايـة مراحل نموها، ومن النباتات التي تختزن في أجسامها وأنسجتها نسبة عالية من النترات دون الحد السـام بعض أنواع البقول والفجل والجزر. وبينت طرق التحليل الدقيقة أن أنسجة هذه النباتات تحتوي على قـدر صغير مـن أيـون النتريت الـذي ينتج من اختزال مركبات النترات ويوجد مصاحبا لها في كثير من الحالات.

تطلق النبـاتـات وخـاصـة الأشجـار إلى الجو الأوكسجين وغاز ثـاني أكسيد الكربون وفي مناطق الغـابات والأحـزمة الخضراء وجـد أنه لتكـوين متر واحـد من المادة الخشبية الجافـة تستهلك الأشجـار 83 ر1 طن من غـاز ثاني أكسيـد الكـربـون وتطلق 23 ر1 طن من الأوكسجين، وبـذلـك يخفف إنتاج متر واحـد مكعب من المادة الخشبيـة من وجود غاز 02C من الجو، كـما يضيف إلى الغلاف الغـازي كمية من الأوكسجين التي تسهم في تنقية الهواء.

أما الكيلو متر المربع الـواحد المزروع بنبات الحور ذي الأوراق المسطحة الملساء والقامة الباسقة والنمو إلى ارتفـاع يصل إلى 14 مترا فيعطي خـلال فصل النمو الواحـد نحو 1200 طن من الأوكسجـين، وفي نفس الـوقت يقوم بـامتصاص 1640 طنا من ثاني أكسيـد الكـربـون، والحور نبات يعيش في المناطق الجافة وشبـه الجافة ويتحمل المنـاطق البيئيـة الحارة بشرط توافر مياه الري، إذن فـالأحزمـة الخضراء والغـابـات وجميع أنـواع الغطاء النبـاتي تعتبر بحق الدرع الحيوي الواقي من التلوث.

إضافة لذلك تلعب الأشجار والمسطحات النباتية والأحزمـة الخضراء دورا مهما في عمليـة تأين الهواء حيث تزيـد نسبة الأيونات السـالبة في الهواء بمعدل أكثر بنحو ثلاث مـرات في الأماكن المشجرة عنها في المناطق الجرداء، وتنعكس زيادة الأيونات السالبة في الهواء إيجابـا على نشـاط الإنسـان والحيـوان وعلى مقـاومة الإنسـان لـلأمراض. ومن مـزايـا الغابـات والأحزمة الخضراء والمنتزهـات والأشجار المزروعة إفرازها مواد مختلفة " Phytocide" ذات تأثير مثبط أو قاتل للبكتريـا، فالمواد الطيـارة التي تفرزها أشجار الصنوبر تثبط وتميت أحيانا عصيات السل والدفتيريا وغيرهما، كـما أن إفرازات الآس Myrtus والكينا Eucayptus والعـرعر Juniperus والـزيزفـون Tilia والحور Populus وغـيرهـا لها تـأثير على البكتيريـا والفيروسات، كـما وجـد الكاتـب فائدة دخـان نبات الرمث في الشفاء من الزكـام وليس ذلك بجديـد، فالشاعر أبوحنيفة قال:

يقولـون: ما أشفى؟ أقول لهم:

دخـان رمث من التسريـر يشفيني

كـما أن المواد الطيارة التي تفرزها أشجار الخروع تعد مادة تنفر منها حشرات البعوض.

وثمة وقفـة أخـيرة نقفها عند بعض النباتات التي تقاوم تراكيز عالية من الأملاح المختلفـة خاصة أمـلاج كلوريـد الصوديوم والسلفات وغيرهـا من التراكيـز المرتفعـة الأخرى من المواد العضـويـة واللاعضوية في التربة الزراعية ومياه البحر والأنهار.

ومن هذه الأنواع نبات الساليكـورنيا Salicornia herbacea حيث يعيش هذا النبات وينمو في السباخ والممالح العـربيـة، ويتحمل تراكيز مرتفعـة جـدا من الأملاح.

وليس نبات الفاسول "السـاليكورنيا" هذا وحيدا في قائمة النباتات الملحية أو التي تتحمل تراكيز عالية من الأملاح والشـوارد الكيمياوية الملحيـة في التربة، بل هناك العديد من النباتـات التي تقاوم زيادة تركيز الأملاح والملوثات في التربة.

ولهذه النباتـات آلية عجيبـة للتخلص من الأملاح الزائدة إذ تجمع هذه المواد السامة في فجوات خاصة تحاط بغشاء هيولي خاص وتبقى داخل الـورقة دون أن تختلط بـالسـائل العصيري الخلـوي، أو أن هذه الأملاح تتجمع في أوعية شعـريـة خـاصة تسمى الأوكزالات، وعندما تمتلىء هذه الأوعية بـالأملاح تنفجر وتلقي بمحتوياتها على سطح الورقـة العلوي وبـدرجـة أقل على السفلي. وتتجـه العلـوم الحديثـة والأبحـاث العلميـة إلى إكثـار مثـل هـذه النبـاتـات بـالزراعات النسيجية في مخابر خـاصـة، كـما تتجـه الهنـدسـة الوراثيـة إلى تنمية صفات المقاومة هـذه وإمكـان تـوريثها لنبـاتـات أخـرى أسهل إكثارا وانتشارا.

وعلى مستوى محلي فالاهتمام الآن بـالنباتـات التي تنمو على الترب الملـوثة بالبحيرات النفطيـة قائم على قـدم وساق، خـاصة تلك النبـاتات التي تتعايش مع البكتيريا حيث تستطيع بكتيريـا معينة تحليل المركبات البتروليـة إلى مركباتها العضويـة الأساسيـة وبتكسير هذه الروابط تخف إلى درجـة سمية هذه المركبـات، وتتحول إلى عناصر أساسية تضاف إلى عناصر الـتربة.

يبشر اكتشاف صفـات مقـاومـة جـديـدة في النباتات ، باكتشاف أنواع نباتية جديدة تقاوم التلوث النووي وتستطيع امتصاص ذرات الغبار النووي أو ترسيبها، ولا يسعنا هنا إلا التوجه إلى كل المؤسسات العلمية المعنية بصحة البيئة والإنسـان للاهتمام بنشر الغطاء النبـاتي واستزراع الحدائق والأحـزمة النباتية الخضراء والتـوسع بتكـاثـر ونشر النباتـات ذات الصفات المقاومة للأملاح وبقايا الملوثات المنتشرة في الهواء والماء والـتربة.

 

عواد جاسم الجدي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




النباتات في البيوت ليست مجرد زينة إنها علاج بسيط للتلوث





حيثما امتدت الخضرة كان ذلك درعا ضد التلوث





مصادر التلوث هائلة والغطاء الأخضر واق بسيط من التلوث





الحدائق رئات المدن ووسائل دفاعها ضد التلوث