آفاق جديدة للعلم عبدالله العمر

آفاق جديدة للعلم

من كشف أسرار الدماغ، إلى البحث في إمكان استنساخ البشر، ثورة بيولوجية كبيرة وخطيرة نعيشها، تحيل خيال الأمس إلى حقائق مذهلة، وتثير من قضايا القانون والأخلاق ما تثير..

بلغت عظمة الاكتشافات العلمية مرتبة متقدمة جدا في عصرنا الراهن، وقطعت تكنولوجيا العلم شوطا بعيدا في كل ميدان، حتى باتت جماعة من العلماء تظن أن فك رموز الطبيعة بأسرها قد بات على الأبواب. والحق أن هناك معطيات تجيز للعلماء أن يذهبوا إلى مثل هذا الرأي الذي قد لا يكون مألوفا لدى الكثيرين أو مستساغا عند بعض الناس، فقد أصبح الإنسان في يومنا هذا يعرف عن نفسه أشياء كثيرة لم يكن له علم بها من قبل، ذلك أن العلماء قد تمكنوا من كشف جانب كبير من الأسرار التي تتعلق بوجوده ومراحل تطوره وغير ذلك كثير، فلقد تيسر للباحثين - مثلا - أن يعرفوا الطريقة التي تتضافر بها أنشطة الجسم المختلفة، وكيف تقوم الأجهزة المتعددة بوظائفها، وكيف تتم عملية التفكير، وما علاقة الدماغ - وهو جهاز التفكير - بسائر أعضاء الجسم وأجهزته. ونظرة إلى الأثر العميق الذي واكب كل هذه الاكتشافات العظيمة في ميدان البيولوجيا تطلعنا على أن الإنسان بات يفكر جديا في التحكم بمصيره بنفسه، وأنه صار يتطلع بشغف إلى اليوم القريب الذي يستطيع فيه تشكيل حياته القادمة على النحو الذي يرغب فيه.

ومهما كانت طبيعة النزاع الحاد الذي ما انفك قائما بين جماعات مختلفة حول تحديد شكل الإنسان في المستقبل، وحول شرعية التحكم بخصائصه الوراثية، فإن المحصلة النهائية تتمثل في أننا أصبحنا اليوم نعيش ثورة بيولوجية بكل ما في الكلمة من معنى، فعلى غرار ما فعل الكيميائيون والفيزيائيون عندما أقبلوا على دراسة المادة اللاعضوية وتوصلوا إلى كشف الكثير من أسرارها، وجدنا البيولوجيين يعملون - بشغف شديد - على دراسة الخلية الحية ويبحثون في نواتها ومكوناتها، بل لعل الثورة التي صرنا اليوم نشهدها في ميدان البيولوجيا قد فاقت - بكثير - نظيراتها التي تحققت في ميادين علمية أخرى.

ثورة بيولوجية كبرى

ولعل اللافت للنظر هنا أن كثيرا من العلماء لم يولوا الثورة البيولوجية أهمية كبيرة في بادئ الأمر، ولم يكونوا قادرين على تصور ما يمكن أن تسفر عنه الاكتشافات الجديدة في مجال الجينات، فلقد كان البعض منهم يظن أن الثورة البيولوجية لا تعدو أن تكون نمرا من ورق، أو ماردا من الشمع، بل إن بعض علماء البيولوجيا لم يرهقوا أنفسهم كثيرا في دراسة ما درج بعض كتاب الروايات العلمية على كتابته وتصويره - منذ زمن طويل - حول الإمكانات الواعدة للأبحاث البيولوجية.

وما أن مضت فترة قصيرة حتى أصبح الخيال حقيقة،. وتحول الحلم إلى واقع ملموس بالفعل، فلقد دار في ذهن كل من ت.هـ. مورجان T.H.Morgan، وهـ.ج. مولر H.J.Muller مثلا أن يصورا كروموزومات الحشرة، بل وتخيلا إقامة بنك للحيوانات المنوية - مثل بنك الدم - كيما يستطيع العلماء الاستفادة منه في "إنتاج" فنانيين مثل شكسبير، أو علماء من طراز آينشتين، أو عباقرة مثل ابن الهيثم، أو فلاسفة كبار على غرار الفارابي أو ابن سينا، وها نحن اليوم أمام فتوحات عظيمة في ميدان البيولوجيا تحقق بالفعل ما كان يعتبر بالأمس القريب خيالا جامحا. ومالنا لا نلتفت إلى المسار الذي يمكن أن يجسد لنا جانبا من هذه الملحمة العظيمة التي صرنا نلمس آثارها في كل يوم تقريبا، فلقد نشر الدوس هكسلي Aldous Huxley كتابه الرائع "عالم جديد شجاع" Brave New World في عام 1932، وكان التصور الذي طرحه آنذاك حول إمكان مجيء الأطفال وولادتهم بنفس الطريقة التي يتم بها تفريخ الصيصان الصغيرة يعتبر محض خيال في ذلك الوقت، أو قل: إن التصورات التي طرحها هكسلي في كتابه ذاك كانت أقرب إلى الخيال العلمي منها إلى التصور أو الخطة العلمية المعقولة، ولكن العلماء اليوم يؤكدون إمكان تحقيق تلك التصورات التي داعبت خيال هكسلي آنذاك، فليست الهندسة الوراثية حلما أو خيالا بل صارت الوقائع المؤكدة تتوالى علينا في كل يوم تقريبا، وأصبحت المجلات والكتب والدوريات العلمية تتخذ من موضوع الثورة البيولوجية مادة لها، وكذلك لم تعد مسألة تشكيل الإنسان مجرد وهم أو ضربا من الخيال وإنما صار المنظرون والعلماء يرسمون الصفات ويحددون السمات التي يودون أن يكون إنسان المستقبل حائزا عليها، وها نحن نرى الناس في يومنا هذا يؤكدون أهمية استشارة مكاتب الزواج ومراكز تحسين النسل لأجل أن تكون ذريتهم خالية من العاهات أو الأمراض الوراثية المستعصية، وما إقبالهم على مكاتب الاستشارة تلك إلا لأن العلم قد أثبت أن عشرات الأمراض تعتبر اليوم وراثية وأن أسبابها كامنة في جينات الخلية نفسها.

علاج بالمعلومات!!

إن الإنجاز الأكبر في ميدان البيولوجيا والطب الحديث لا يتمثل اليوم في معرفتنا بأن أمراضا كثيرة ترجع في أصولها إلى أسباب وراثية، ومن ثم يمكن وضع الإرشادات وتحديد الضوابط والقيود التي تحول دون الإصابة بها عن طريق استشارة مكاتب الزواج ومراكز تنظيم النسل وتحديده، أقول: إن الإنجاز الأكبر لا يتمثل في اتباع هذا الطريق فحسب بل في ابتكار وسائل جديدة من شأنها معالجة الأمراض الخطيرة والحالات المستعصية عن طريق ميدان جديد في الطب يسمى "علاج الجينات"، فالأطباء يتحدثون اليوم عما يسمى بـ "المعلومات عن السرطان" مثلا، أو عن المعلومات الخاصة بأي مرض وراثي يتم تحديده عن طريق الجينات، ذلك أن الجين نفسه عبارة عن جزيء من المعلومات التي يتم بواسطتها برمجة الأحماض الأمينية في الخلية، وعلى ذلك فإنه لو تيسر للطبيب أن يدخل معلومات تصحيحية أو علاجية إلى الخلية فإنه يصبح ممكنا القضاء على الداء أو تلافيه مسبقا. وحال المرء الذي يخضع لعلاج من هذا النوع يماثل حال المرء الذي يتلقى مصلا واقيا أو طعما يجعله بمنأى عن الإصابة بمرض معين، وكل الفرق هنا هو أن الأمصال الواقية تؤخذ بعد الولادة في حين أن العلاج عن طريق الجينات يعتبر بمثابة تطعيم ضد الأمراض أو العاهات يتلقاه الجنين من قبل أن يولد أو يتشكل في رحم الأم.

أما الأكثر من هذا وذاك فهو أن "الهندسة الوراثية" قد فتحت لنا أبواب عهد جديد في حياة الإنسان وتطوره يصعب على العقل أن يتصور أبعادها وإمكاناتها في كثير من الأحيان، ذلك أنه إذا كانت مكاتب الاستشارة للزواج وأسلوب علاج الجينات مسبقا يهدفان إلى القضاء على الأمراض أو تلافيها على النحو الذي ذكرناه، فإن هندسة الجينات تفوق ذلك باستهدافها إكساب الأجيال القادمة إمكانات جسمية وعقلية متميزة تفوق القدرات التي يتمتع بها البشر عادة في عالمنا المعاصر، أو قل بأن "هندسة الجينات" باتت تكشف أن الإنسان قد أصبح قادرا على التدخل عن عمد وبشكل مقصود في صنع إنسان جديد يتم تحديد سماته وخصائصه بصورة مسبقة، ولقد بلغت أهمية هندسة الجينات أو ما يسمى اليوم بـ "الهندسة الوراثية" حدا فاق بكثير ما كان ينسب بالأمس إلى عمليات الإخصاب الصناعي من أهمية أدهشت البشر جميعا، فما قولك مثلا في أن البشر يمكنهم - عن طريق الهندسة الوراثية - أن يتحكموا في جنس الجنين، فما يكون على الوالدين اللذين يرغبان في الإنجاب سوى أن يحددا "المواصفات" التي يودان الجنين القادم حاصلا عليها مثل رغبتهما في أن يكون الجنين ذكرا أو أنثى، أو تفضيلهما أن يكون الجنين ذا شعر أشقر، أو عينين عسليتين، أو طول فارع، أو ذكاء متوقد، أو ما إلى ذلك من صفات كثيرة يختارانها بمحض إرادتهما و"حسب الطلب"، بل إن اللافت للنظر أكثر في يومنا هذا هو إمكان أن "يستنسخ" المرء لنفسه ذرية تماثله تماما في كل صغيرة وكبيرة.

قتل "أ" لصالح "ب"

ولكن الثورة البيولوجية التي صرنا نلمح اليوم جانبا من إمكاناتها العظيمة قد كشفت في الآن نفسه عن إشكالات قانونية خطيرة، وأفرزت لنا معضلات اجتماعية لم يكن لنا عهد بها من قبل، فإطالة عمر الإنسان أصبحت موضوعا يظن العلماء أنه قابل للإنجاز، وما عليك إلا أن تتصور المشكلات التي تنجم عن الوسائل المتبعة من أجل تحقيق هذا الهدف مثلا، ذلك أن الثورة البيولوجية قد أوحت للعلماء بأن الطريقة التي يعمل بها جسم الإنسان تماثل الطريقة التي تعمل بها الآلة الميكانيكية أو الساعة التي تضبط الوقت بموجب الأجزاء التي تتركب منها، ومن هنا فإن المحافظة على جسم الإنسان أو إطالة مدة حياته تناظر - إلى حد بعيد جدا - عملية المحافظة على الساعة عن طريق تزييتها، وإجراء الصيانة الدورية لها، واستبدال قطع الغيار القديمة فيها، ولكن المشكلة هنا تتمثل في أن المحافظة على جسم إنسان معين، أو إطالة أمد حياته لا تتحققان - في بعض الأحيان - إلا على حساب حياة إنسان آخر بطبيعة الحال، ذلك أن "قطع الغيار" اللازمة لإطالة حياة "أ" من الناس لا تكون متوافرة إلا من خلال استئصالها من "ب" الذي سوف يلقى حتفه أو يكون عرضة لمخاطر كثيرة نتيجة ذلك.

وعلى هذا فإن المشكلة هنا لا تكمن في تصورات علمية نظرية أو في تطبيقات تكنولوجية يمكن أن نحقق بها هدفا محددا، وإنما المشكلة تكمن في اعتبارات إنسانية وأبعاد أخلاقية وقانونية على أقل تقدير، ومن المؤكد أن كل هذه الاعتبارات والأبعاد الجديدة للثورة البيولوجية ستظل بحاجة إلى حلول مناسبة على كل صعيد، وذلك من قبل أن يقطف الإنسان ثمار الاكتشافات الجديدة والتطبيقات المبتكرة في ميداني الطب والبيولوجيا، ذلك أن الجدل الحاد الذي يدور اليوم بين فئة من العلماء، وجماعة من رجال القانون، وفرقة من الخبراء في علم النفس والاجتماع، إنما يستهدف الوصول إلى صيغة "إنسـانية" للتطبيقات العلمية في هذين الميدانين، وتتمثل الصيغة الجديدة - بطبيعة الحال - في كيفية تحقيق الآمال المعقودة على منجزات العلم والتكنولوجيا في مجالي الطب والبيولوجيا دون أن يترتب على ذلك تهديد لحياة أي إنسان أو ينجم عنه أدنى امتهان لكرامته.

 

عبدالله العمر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الحلزون المزدوج حامل الشفرة الوراثية الذي يحمل ثلاثة بلايين من المكونات





هل يشهد المستقبل علاجا يتكون من مجرد حقنة بها شفرات وراثية معدلة؟





عام 2005 يتوقع علماء الوراثة الوصول إلى تحديد كامل لخريطة الموروثات البشرية