انقلاب في أبحاث القرحة الهضمية لمى حداد

انقلاب في أبحاث القرحة الهضمية

لعقود عديدة ظل دارسو الطب يتعلمون أن للقرحة الهضمية "بالمعدة والاثني عشر" علاقة بإفرازات العصارة المعدية، لكن هذا المفهوم يتغير الآن مما يعد بآفاق جديدة في معالجة هذا الداء.

يشكل داء القرحة الهضمية بنوعيه المعدي والعفجي "الاثنى عشر" واحدا من أكثر الأمراض شيوعا وإزعاجا للمريض بسبب نوبات الألم المتكررة التي قد تعاود المصاب، وفي بعض حالات القرحة المزمنة يضطر المريض لتناول الأدوية المضادة للقرحة طوال حياته، والاكتشاف الجديد الذي يربط القرحة الهضمية بنوع جرثومي جديد قد يحمل الأمل لملايين المرضى، وفي الواقع يمكن القول إن الربط بين التقرح الهضمي ووجود الجراثيم في المعدة قد بدأ منذ سنة خلت، حيث كشفت الأبحاث عن وجود جراثيم ملتوية الشكل في الطبقة المخاطية للمعدة البشرية، ومنذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا لاحظ عدد من العلماء وجود مستعمرات جرثومية في المعدة البشرية، ولكن أول بحث جدي حول الموضوع بدأ في عام 1983، حيث كشف د. باري مارشال وهو طبيب استرالي اختصاصي بالأمراض الهضمية وجود جراثيم عصوية منحنية في خزعات معدية مأخوذة من بعض حالات التهاب المعدة المزمن، ولاحظ مارشال تشابها بين هذه الجراثيم وبين جراثيم جنس المتقوسات Campylobacter وهو جنس جرثومي معروف منذ زمن بعيد وتسبب أنواعه إصابات انتانية مختلفة منتشرة في بعض المناطق ومنها بعض حالات الإسهال وخاصة عند الأطفال، وأطلق د. مارشال على الجرثوم المكتشف في مخاطية المعدة اسم المتقوسة البوابية Campylobacter Pylori، بعد عدة سنوات من البحث لاحظ د. مارشال وفريقه وجود بعض الاختلافات بين هذا الجرثوم وبين الأنواع الجرثومية التابعة لجنس المتقوسات، فاعتبر هذا الجرثوم جنسا منفصلا وسماه الهليكوباكتر بيلوري Helicobacter Pylori، وهي التسمية التي ما زالت جارية حتى الآن.

هل القرحة مُعدية؟

لقد كشفت الدراسات عن وجود مستعمرات هذا الجرثوم عند عدد كبير من الأصحاء الذين لم يعانوا من أية أعراض هضمية، ففي هيوستون في الولايات المتحدة قام فريق من الباحثين برئاسة د. ديفيد غراهام وهو طبيب اختصاصي بالأمراض الهضمية بالتحري عن وجود الجرثوم عند عينة من الأصحاء فوجدوا أن حوالي نصفهم كانوا مصابين بالالتهاب ولاحظوا ازدياد معدل الإصابة مع تقدم العمر، وفي أبريل (نيسان) 1992 أجريت في بريطانيا دراسة على عدد من المصابين بالالتهاب حيث وجهت إلى أفراد العينة أسئلة حول ظروف معيشتهم عندما كانوا أطفالا، وتبين ازدياد معدل تعرض الشخص إلى الإصابة بالهليكوباكتر إذا كان قد عاش طفولته في بيئة أكثر ازدحاما مما قد يشير إلى احتمال وجود العدوى، ولكن حتى الآن لم تتوضح آلية التقاط الجسم للجرثوم، وإن كان هناك بعض الأدلة حول انتقالها عن طريق البراز واللعاب وأظهرت دراسة أجريت عام 1991 أن 70% من المصابين ينقلون الجرثوم إلى أزواجهم و40% إلى أطفالهم.

وبقي اللغز المحير فعلا وهو لماذا تتطور القرحة الهضمية فقط عند بعض المصابين بالتهاب الهيلكوباكتر حيث دلت الدراسات على وجود الجرثوم عند 70% من مرضى القرحة المعدية، و90% من مرضى القرحة العفجية، ويبدو أن الجرثوم يساعد في خفض قدرة المعدة والعفج على حماية أنسجتهما من الإفراز الحمضي، ولم يستطع الباحثون إيجاد أي ارتباط بين التدخين وتناول الكحول وبين الإصابة الإنتانية بالهليكوباكتر وحدوث القرحة، أما الشدة النفسية Stress فقد كان قياسها صعبا لذلك لم يستطع العلماء تأكيد النظرية الشائعة القائلة بان الشدة النفسية تثير القرحة.

ما زال العديد من اختصاصي الأمراض الهضمية في الولايات المتحدة غير متفقين مع د. مارشال ود. غراهام في النتائج التي توصلا إليها حول دور الهليكوباكتر في القرحة الهضمية، وإن كان الكثير منهم قد أقر بأن جرثوم الهليكوباكتر قد يكون هو العامل المسبب لالتهاب المعدة المزمن وخاصة بعد قيام د. مارشال بتناول جرعة من مرق يحوي مزروع الجرثوم نظرا لافتقاده لحيوان التجربة المناسب ونشأ لديه بعد أسبوعين التهاب في المعدة، ويقول د. غراهام إن نتائج الأبحاث التي قام بها تشكل دليلا على أن القرحة الهضمية هي النتيجة النهائية للإصابة الإنتانية بالهليكوباكتر بيلوري، وإن معظم القرحات المترافقة مع هذا الجرثوم هي قرحات قابلة للشفاء، والاستثناءات هي القرحات التي سببها إما الاستعمال المديد لمضادات الالتهاب غير السيتروئيدية كالأسبرين أو الأيبوبروفين أو اضطرابات أخرى مثل بعض الأورام التي تحرض الإنتاج الزائد من الحمض في المعدة.

إن فوائد هذا الاكتشاف تتجلى في ناحيتين مهمتين وهما تشخيص ومعالجة القرحة الهضمية، ففي مجال التشخيص تعتبر طريقة التنضير الهضمي العلوي هي الطريقة الرئيسية المعتمدة حاليا لتشخيص القرحات المعدية والعفجية، ولكن هذه الطريقة لا تخلو من بعض الإزعاجات للمريض كما أن تطبيقها قد لا يكون متاحا في بعض الأحيان، أما تشخيص الإصابة الإنتانية بجرثوم الهليكوباكتر بيلوري فيمكن إجراؤه بعدة طرق أحدثها هي الطريقة المناعية التي تعتمد على تحري أضداد الجرثوم في مصل المريض، والأضداد هي عبارة عن بروتينات تظهر في المصل كرد فعل لدخول الجرثوم إلى الجسم وهذه الطريقة لا تحتاج إلا إلى بعض ملليترات من الدم الوريدي للمريض، ولكن التأكد من وجود الإصابة الإنتانية لا يعني بالطبع وجود قرحة هضمية، لأن الإصابة الإنتانية بالهليكوباكتر بيلوري كما ذكرنا تنتشر أيضا عند نسبة لا بأس بها من الأصحاء، ولكن يقترح د. غراهام أن تجري معالجة المصابين بالإنتان بمضاد مناسب وفي حال فشل المعالجة في التخلص من الأعراض الهضمية التي يشكو منها المريض والتي دفعته لمراجعة العيادة الهضمية، يمكن عندها اللجوء إلى التنظير.

هل تنجح المضادات الحيوية؟

لعل الأهمية الكبرى لهذا الاكتشاف تكمن في نظام المعالجة الجديد الذي يعتمد على المضادات الحيوية، والذي استعمل بنجاح في بعض حالات القرحة الهضمية، ولكن قبل الحديث عن هذا النظام العلاجي لا بد من الإشارة إلى الأشخاص الذين يمكنهم أن يستفيدوا من مثل هذه المعالجة، يقترح د. غراهام أن تطبق المعالجة على كل من يعاني من أعراض هضمية ويحمل الجرثوم، بينما يرى د. مارشال أن المعالجة بالمضادات قد تكون مفيدة بشكل خاص عند المرضى الذين تكون قرحاتهم مؤلمة ومعاودة، وثبت بالتحليل المخبري وجود الإصابة الجرثومية لديهم ونصحهم أطباؤهم بإجراء معالجة جراحية "قطع الأعصاب المتحكمة بإنتاج الحمض أو إزالة الجزء المتقرح" حيث يقول د. مارشال إن أحدا يجب ألا يصل إلى مرحلة المعالجة الجراحية قبل أن يعالج من الإصابة الالتهابية "بالهليكوباكتر" إلا في حالة المعالجة الإسعافية لوقف النزف.

ذكر فريق من الباحثين في هيوستون برئاسة د. غراهام أن نظام المعالجة الذي استعملوه أدى إلى القضاء على جراثيم الهليكوباكتر بيلوري عند أكثر من ثلاثة أرباع المصابين بالإنتان وبالقرحة وخلال السنة التي تلت انتهاء المعالجة لم تحدث أية حالة انتكاس للقرحة عند المرضى الذين تخلصوا من الجرثوم بينما حدث الانتكاس عند 4 ممن بقي الجرثوم في قناتهم الهضمية، وفي مجموعة ثانية من مرضى القرحة اعتمدت المعالجة فقط على السيميتدين وهو دواء تابع لزمرة مضادات الهيستامينH2AntagonistsH2 وهي الزمرة الدوائية الأكثر استعمالا لمعالجة القرحة وبقي الإنتان الجرثومي لديهم كلهم بطبيعة الحال وحدث انتكاس القرحة عند أكثر من ثلاثة أرباع المرضى خلال شهور قليلة.

اشتمل نظام المعالجة الذي استعمله فريق الباحثين في هيوستون على نوعين من المضادات الحيوية "تتراسيكلين، مترويندازول" بالإضافة إلى مضاد حموضة حاو على البزموت ودواء من زمرة مضادات الهيستامين H2 واستمرت المعالجة مدة أسبوعين.

تجدر الإشارة إلى أن نظام المعالجة المذكور ليس سهل التناول فعلى المريض تناول أحد المضادات 3 مرات يوميا والمضاد الآخر 4 مرات يوميا ومضغوطتين من مضاد الحموضة 4 مرات يوميا ومضغوطة من الدواء المعالج للقرحة "مضاد هيستامين H2" مرة يوميا، بالإضافة إلى احتمال حدوث بعض الأعراض الجانبية الناجمة عن تناول هذه الأدوية، لذلك بدأت دراسات لإيجاد معالجة أبسط وأفضل، كما أن تطبيق مثل هذه المعالجة بشكل عشوائي وعلى نطاق واسع يمكن أن يؤدي لظهور سلالات جرثومية مقاومة وبالتالي يبقى الإنتان وتتطور القرحة مرة أخرى.

ومما يؤخذ أيضا على التجارب التي أجريت لتطبيق النظام الجديد في المعالجة أنها لم تخضع بعد لما يسمى بالاختبار السريري بالتعمية المزدوجة أي ألا يعرف لا المريض ولا الطبيب ما إذا كان المريض يتلقى نظام المعالجة الجديد أم لا، وبذلك نتجنب انحياز الطبيب أو شعور المريض بالتحسن لمجرد معرفته بأنه يتناول دواء جديدا وقويا.

ويبقى لهذا النظام العلاجي فوائد جمة إذا استعمل ضمن شروط محددة وخاصة عند المرضى الذين يضطرون لتناول أدوية H2 antagonists طوال حياتهم.

لقد شكل هذا الاكتشاف تهديدا للأرباح التي تجنيها ثلاثة من أكبر معامل صناعة الدواء في العالم، وهذه المعامل في الواقع هي التي تولي أكبر الاهتمام لدراسات تطور علاج القرحة، فمعمل غلاكسو Glaxo يجني ما يقارب 3 بلايين دولار سنويا من مبيعاته لدواء Zantac وهو من أكثر الأدوية مبيعا، أما شركة Smith Klin فإنها تربح ما يعادل 1.2 بليون دولار سنويا من مبيعاتها لمستحضر Tagamet خصوصا أن مثل هذه المستحضرات الدوائية التابعة لزمرة مضادات الهيستامن H2 تشفي القرحة ولكنها لا تعالج حالات القرحة المزمنة، لذلك فإن الكثير من المرضى يتناولون هذه الأدوية بشكل متقطع ولمدة شهر أو سنة أو حتى أحيانا طوال العمر مما يجعل هذه المجموعة الدوائية من أكثر الأدوية المبيعة جلبا للأرباح.

وسرطان المعدة أيضا

ذكر فريق من الباحثين من جامعة ستانفورد في الولايات المتحدة عام 1991 أن جرثوم الهليكوباكتر بيلوري يمكن أن يكون أيضا عاملا مساعدا في إحداث سرطان المعدة، ويعتقد الباحثون أن هذا الجرثوم يمكن أن يلعب دورا في إثارة التهاب المعدة ويسبب طفرات تؤدي إلى حدوث أمراض خبيثة تتضمن سرطان المعدة وسرطان القولون، أجريت دراسة ستانفورد على عينة من المصابين بسرطان المعدة، ووجد أن أكثر من ثلاثة أرباعهم كانوا مصابين بإنتان الهليكوباكتر بيلوري بينما لم تتجاوز النسبة الثلثين في مجموعة مقارنة من الأصحاء.

ويقترح د. ستانلي بنجامين رئيس قسم الأمراض الهضمية في كلية الطب في جامعة جورج تاون أن تجرى دراسة تتضمن عددا كبيرا من الأشخاص المصابين بإنتان الهليكوباكتر بيلوري لتحديد عدد الذين سيتطور لديهم سرطان معدة بالمقارنة مع مجموعة مماثلة من غير المصابين بالإنتان، ويبدو أن نسبة قليلة فقط من المصابين بالإنتان مهيأة لأن تصاب بسرطان المعدة حيث إن الإنتان بالهليكوباكتر شائع بينما سرطان المعدة نادر، وهذا ما قاد الخبراء إلى الاعتقاد بوجود عوامل مساعدة أخرى تتدخل في إحداث سرطان المعدة مثل نظام الغذاء "الإكثار من الملح، نقص تناول الخضراوات والفواكه الطازجة" أو عوامل وراثية أو مواد سمية، وتعتقد د. جولي بيرسونات رئيسة فريق الباحثين في ستانفورد أن حوالي 1 من أصل 125 أمريكيا مصاب بإنتان الهليكوباكتر بيلوري سوف يصاب بسرطان المعدة وهذا يشكل نسبة خطورة أكبر بعشر مرات منها عند غير المصابين بالإنتان.

وما زال البحث مستمرا

على الرغم من مرور عشر سنوات تقريبا على أبحاث د. مارشال وزملائه، فما زال البحث مستمرا ومازال هناك الكثير من الأمور التي تحتاج لمزيد من البحث والتوضيح، مثل آلية التقاط الجسم للجرثوم والعدوى وكذلك ماهية العوامل المساعدة للعامل الجرثومي والتي تؤدي لحدوث القرحة، كما أن البحث جار لإيجاد معالجة بسيطة للإنتان سهلة التناول وبأقل ما يمكن من التأثيرات الجانبية المزعجة للمريض، ولكن رغم ذلك كله فقد حققت التجارب المجراة حتى الآن نتائج ملحوظة وخاصة على صعيد معالجة مرضى القرحة الذين يعانون من النوبات المعاودة والمزعجة، ويبقى الأمل معقودا على نتائج الأبحاث الجديدة لتحمل البشرى إلى ملايين المصابين بالقرحة الهضمية في العالم.

 

لمى حداد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الجهاز الهضمي يعج بالبكتريا فهل تكون البكتريا سببا لحدوث القرحة الهضمية؟