الزخرفة الفارسية: انطلاقات الخيال في الفن الإسلامي عبدالعزيز التميمي

الزخرفة الفارسية: انطلاقات الخيال في الفن الإسلامي

للزخرفة الإسلامية حضور قوي في المجال الفني، فهي فن مكاني ارتبط بتزيين المعالم الأساسية، وازدهر مع نمو المدن الإسلامية وأكسبها طابعها المميز، وهي فن بصري يأخذ بعده الأساسي من تشكل اللون والفراغ ويقوم بدور الوصل بين الحضارات الغابرة والحاضرة.

تدل الدراسات التي قام بها المختصون في دراسة فنون الزخرفة بصورة عامة والزخرفة الإسلامية على خصوصية بحتة على أن هذا النوع من الفن ظل مستمرا بفضل ما يحتويه من أصالة وجمال وطابع جمالي وروح زخرفية ذات صفات واضحة على عناصرها ووحداتها الزخرفية التي تشكل في نهاية الأمر عملا واحدا مترابطا بهذه العناصر والوحدات.

ولو عدنا قليلا إلى الوراء وتحدثنا عن الزخرفة الإسلامية وبداية نشأتها وسبب تأخر هذا الفن هكذا لوجدنا أن المسلمين في بداية عهد الخليفة عمر بن الخطاب والخليفة عثمان بن عفان - رضي الله عنهما - كانوا منشغلين بالفتوحات الإسلامية التي تبعها بعد ذلك الخلاف بين الإمام علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - وبين معاوية، لهذه الأسباب كان التفكير متجها نحو بناء دور العبادة بمثل التي بنيت في بلاد فارس، وقد كان أول من فكر بهذا هو عبدالملك بن مروان عندما اعتنى بقبة الصخرة في القدس وأعطاها جل اهتمامه لتكون رمزا معماريا يحتوي على أرقى الزخارف الإسلامية التي كما قلنا تبتعد عن تصوير كل ما به روح حتى ورقة الشجرة تجزأ إلى نصفين لتظهر بشكل جامد لا حياة فيه فأسند الإشراف على بناء قبة الصخرة عام 72 هـ إلى رجاء ابن حياة الكندي ويزيد بن سلام اللذين بذلا كل ما لديهما من فن لإخراج القبة بهذا الشكل الذي لا يضاهيه فن حتى يومنا هذا من حيث التقنية الفنية والروعة في المعمار.

وقد يعترف معظم مؤرخي الفنون بأن هذه القبة متكاملة من جميع الجوانب: الفخامة والإبداع الزخرفي بالإضافة إلى البساطة في التصميم وتناسق الأجزاء وروعة في البناء بحيث بنيت القبة وهي تحيط بالصخرة المقدسة التي عرج من عليها الرسول الأكرم "صلى الله عليه وسلم" إلى السماء.

جذور فن الزخرفة

ويتفق النقاد على أن الزخرفة الفارسية هي أساس للزخرفة الإسلامية التي اعتمدت في غالبها على الابتعاد عن أي صورة لأي كائن حي، فاتخذت النباتات وأوراق الشجر عناصر أساسية متداخلة مع بعضها لإعطاء لوحة زخرفية في نهاية الأمر وقد استخدم هذا الفن في تزيين المساجد وقصور الأمراء وبعض الدواوين.

وكذلك الزخرفة العثمانية التي استنبطها المتخصصون من الزخرفة الإسلامية، ولهذا نجد التقارب وثيقا بين الزخرفة الإسلامية التي استخدمت لتزيين بعض المساجد في صدر الإسلام مع تلك التي ظهرت خلال السلطنة العثمانية، وهي واضحة على أغلب المساجد الأثرية الموجودة في تركيا ومصر، وهي شاهدة على هذا حتى أيامنا هذه.

ولو عدنا إلى بداية الزخرفة الفارسية لوجدنا أن جذور هذا الفن تمتد في أعماق الزمن وقد تصل إلى أبعد من ألفي عام، عندما تجلى هذا الفن في رسومات السجاجيد الفارسية القديمة التي عرفت كمفارش على الأرض والأثاث، وقد كانت هذه المفارش مقصورة على تزيين قصور الملوك والأمراء في ذلك العهد.

ولأن الوقت المبذول في إنجاز مثل هذه السجاجيد ليس بقصير بل تستغرق صناعة سجادة واحدة بقياس 2م×2م مدة سنة كاملة يعتكف الصانع خلالها على بذل ما لديه من جهد وفن في إخراج هذه القطعة بشكل فني متكامل.

ويقدر ثمن السجاد بعدد الغرز التي تحتويها السجادة في كل 10 سم2 تقريبا، فكلما تزايد عدد هذه الغرز ارتفع سعر السجادة واتصفت بالدقة والرقة، فالسجادة العادية من الدرجة الثالثة يكون عدد الغرز في مساحتها لا يزيد على سبعين غرزة وهي المتوافرة والمنتشرة بشكل عام حاليا.

وبسبب اعتماد الصانع الفارسي في صناعة السجاد على الفنون التشكيلية اتجه أغلب صانعي السجاد إلى الاعتماد على الأساطير والقصص القديمة التي يعتمد في أغلبها على الخيال والتصوير الرمزي، فهناك من أخذ من قصة مجنون ليلى مادة تعبيرية لصناعة السجاد وهذا ما يرفضه بعض المزخرفين الإسلاميين ويتحاشى الوقوع فيه، لكن الزخرفة الفارسية القديمة لا تجد حرجا في إدخال صور الكائنات والبشر ضمن العناصر الزخرفية، وهناك العديد من هذه اللوحات والصور التي تروي بعض الحكايات والقصص التي تشتهر بها بلاد فارس.

وقد تجد أيضا من يستخدم حروف الهجاء أو أجزاء من قصائد المشهورين أمثال عمر الخيام وسعدي الشيرازي وغيرهما من الشعراء، هناك أيضا العديد من هذه السجاجيد التي تروي ملحمة شعرية كاملة قضى في نسجها فريق من العمال المهرة سنوات طويلة. والفرق واضح بين اللمسات التي اشتهرت بها السجاجيد في إيران مع تلك التي تصنع في باكستان وأفغانستان وتركيا وبلاد القوقاز لأن الناسج الفارسي يعتمد على الرقة والدقة في النقوش، والرشاقة في الخطوط. وينفرد السجاد الفارسي بظهور البعد الثالث ضمن رسوماته.

وقد لا يختلف النسج القديم عن النسج الحديث إلا بظهور البصمات التكنولوجية التي تبدو واضحة في بعض لمساته من حيث اللون ونوعية الخيوط الصوفية أو الحريرية المصنوعة بشكل دقيق وتمتاز بأنها أرفع من تلك الخيوط القديمة مما يعطى للسجاد ثمنا أعلى بسبب الجودة في صناعة المواد الأولية.

كما أن الزخرفة الفارسية دخلت في صناعة الحلي والمصوغات أو بعض الأواني الفضية والبرونزية وأصبحت أساسا لبناء مداخل القصور والمباني التي يمتلكها الملوك والأمراء. وقد استمر هذا الفن الزخرفي حيا نابضا حتى هذه الأيام لأسباب عديدة أهمها تعلق الناس بامتلاك واقتناء ما تحتوي هذه الزخارف من قصص وروايات منسوجة على السجاد أو محفورة على الأواني والحلي. كما أن الزخرفة الفارسية اعتمدت على خامات عديدة غير التي ذكرناها كالفسيفساء والبلور الملون والفخار إلى جانب الحرير والصوف.

الزخرفة وفن الأسطورة

ولأن الزخرفة الفارسية تعتمد على الأساطير والروايات الخيالية كان المجال مفتوحا أمام الفني الذي ينسج السجاد للتعبير بشكل حر ودون فرض قيود فيعطي لخيال الفنان المجال لإدخال لمسات جمالية وخطوط رشيقة بشكل رائع وأوسع. إلا أن هذه الصناعة بدأت في أيامنا هذه تتجه نحو الاضمحلال بسبب ارتفاع تكلفة المواد الأولية التي تدخل في صناعة هذه الفنون.

أما الزخرفة الفارسية التي تعتمد على خيال الفنان واعتماده على القصص والقصائد والأساطير فتأتي مختلفة كل الاختلاف عن الفن الإسلامي ولا وجه للمقارنة بينهما إلا من الناحية التقنية والصناعية، ويعود هذا إلى أن الزخرفة الفارسية تعتمد على تصوير الأجساد وبعض قصص وحكايات بالإضافة إلى استخدام النباتات والأوراق والأزهار كعناصر مساعدة لإعطاء اللوحة أبعاد تجسيم أكبر، أما الزخرفة الإسلامية فاعتمادها على التسطيح أكثر من التجسيم وإيجاد البعد في العمل الزخرفي، إلا أن كلا من الفنين ينطلق من مبدأ زخرفي واحد هو الرشاقة والتناسق في النسب والكتل المرسومة في اللوحة الجدارية أو السجادة.

ومن أشهر صانعي الزخرفة الفارسية وفناني هذه الزخرفة في إيران هو رضا الأصفهاني الذي يعتبر أحد أشهر المزخرفين المعاصرين في أيامنا هذه وهو الآن يعتمد على سجله الحافل بالمنمنمات والخطوط القديمة بالإضافة إلى معرفته الواسعة بقواعد الزخرفة الفارسية والإسلامية مما يعطي لأعماله رونقا وانسجاما فنيا بين الفن الفارسي والزخرفة الإسلامية ولهذا الفنان العريق جيل من التلاميذ الذين لا يقلون عنه مهارة ودقة في الحرفة والصناعة.

ومن أجمل الأشياء التي أدخلها الجيل الجديد على الزخرفة الفارسية تلك البراويز المصدفة وبنفس الخطوط والنقوش التي تشاهد في السجاجيد الفارسية القديمة والحديثة.

وإذا ابتعدنا عن ساحة القصائد الدينية والمعتقدات الفارسية وتوغلنا في أدغال الهند والصين لوجدنا بحرا زاخرا من التراث الفني المشترك بينهما يعطي للمشاهد من النظرة الأولى الانطباع الخاص بتلك البلاد، فالفنان الهندي أو الصيني يعتمد بشكل عام على مميزات البيئة هناك، فالفيل والطاووس هما أهم عناصر الزخرفة الهندية وطائر الكركي والأوز تتميز بهما الزخرفة الصينية التي لا يعتمد في رسمها على ألوان كثيرة كمثيلاتها في بلاد فارس، ومن هنا نجد أن اعتماد الفنان أينما كان على حاسة البصر واضح في تسجيل تلك الصور وتصميمها، فالفنان الهندي يرى في الفيل والطاووس المساحة الفنية التي يجد فيها ذاته كما أن الفنان الفارسي يجد في الغزال ورشاقة جسم المرأة والطيور الصغيرة فنه وأحاسيسه، وكذلك الفنان الذي يقوم بتزيين بيوت العبادة الإسلامية يتفنن في توزيع الخطوط وانحناءاتها وعناصرها، إلا أن الفنون الزخرفية الصينية هي أقدم من الفن الفارسي لكنها لا تعتبر أساسا للزخرفة الفارسية حتى وإن كانت أساسا للزخرفة الهندية المشابهة لها نوعا ما، وعلى هذا نكون قد سلطنا الضوء على جانب من الفن الزخرفي خصوصا في بلاد فارس.. آملين من الله التوفيق.

 

عبدالعزيز التميمي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




عمر الخيام الشاعر والملهمات أو الأرواح الشعرية





فتاة الصباح أو الفجر الحميل - قصة من القصص الفارسية





لوحة مجنون ليلى حسب الرواية الفارسية





الحورية كما تصورها الفنان الفارسي من خلال أشعار سعدي الشيرازي





زخرفة فارسية تعتمد على الرشاقة والتناسق في النسب والكتل المرسومة