السينما السورية سينما الموضوع وليس الممثل خليل صويلح

السينما السورية سينما الموضوع وليس الممثل

بدأت السينما في سوريا بمغامرة مبكرة، إذ يعود إنتاج أول فيلم روائي سوري إلى سنة 1928، وقد وقف وراءه شاب متحمس اسمه "أيوب بدري"، لكن المغامرة وإن كانت تصنع المبادرة، فإن الاستمرارية تتطلب نمطا آخر من السعي، فكيف كان سعي السينما السورية، وإلى أين وصل ؟.

كان الفيلم السوري الأول بعنوان "المتهم البريء" ولاقى الفيلم نجاحا باهرا، فتشجع مغامر آخر كان يهوى السينما وأقدم على إنتاج فيلم بعنوان "تحت سماء دمشق"، وكان هذا المغامر هو "رشيد جلال" الذي تعاون مع هاو آخر هو "إسماعيل أنزور"، وقد أنجزا الفيلم سنة 1932، مع انتهاء عهد السينما الصامتة، فأضيف إليه بعض المقطوعات الموسيقية المرافقة لأحداث الفيلم، ووجدت السلطات الفرنسية التي كانت تحتل البلاد ذريعة لإلغاء عرض الفيلم، بأن أصحابه لم يدفعوا حقوق التأليف الموسيقي فخسر الفيلم ثلاثمائة ليرة ذهبية، هي رصيد الشركة التي أطلقت على نفسها اسم "هيلوس فيلم".

وفي الأربعينيات بدأت مرحلة جديدة على يد مغامر أكثر خبرة ودراية بالفن السينمائي هو "نزيه شهبندر" الذي أنشأ استوديو خاصا به وجهزه بمعدات أسهم بصناعتها وأنتج فيلم "نور وظلام" سنة 1948 وهو أول فيلم سوري ناطق. وظلت المغامرات السينمائية الفردية مستمرة إلى أوائل الستينيات، حتى تأسست المؤسسة العامة للسينما في بداية سنة 1964، وبدأت مرحلة جديدة ونوعية في السينما السورية، تميزت منذ أفلامها الأولى بالجدية والعمق والهوية.

والآن بعد مرور ثلاثين سنة على تأسيس المؤسسة العامة للسينما، نلقي نظرة إلى أحدث إنتاجاتها خلال التسعينيات والتي حققها مجموعة من المخرجين المتميزين على مستوى الوطن العربي، وحصدوا عليها جوائز مهمة، من مهرجانات سينمائية عربية وعالمية.

بداية الموجة الجديدة

مع مطلع الثمانينيات، بدأت رياح موجة جديدة في السينما السورية، تمثلت في كوكبة من المخرجين الجدد الذين خاضوا تجارب جريئة في السينما، إن على صعيد اللغة البصرية، أو في اختراقهم لمواضيع أكثر خصوصية في الحياة العامة تجلت بالبحث في مشكلات الفرد وتفاصيل الحياة اليومية، والقلق الذاتي ضمن القلق العام. وهذه الهواجس الجديدة رسمت صورة مختلفة للفيلم السوري سواء على الصعيد المحلي أو العربي، أو عبر المهرجانات العالمية بتوصيفها للبيئة توصيفا على درجة عالية من العمق والكشف، وهكذا تعرفنا على سمير ذكري في فيلميه "حادثة النصف متر" و "وقائع العام المقبل"، وعلى محمد ملص في "أحلام المدينة" الذي نهج إلى أسلوبية شاعرية في تناول التاريخ على أرضية من السيرة الذاتية المشبعة بالحنين.

وقدم أسامة محمد في فيلمه الأكثر تميزا "نجوم النهار" رؤية شفافة وعنيفة بآن معا لعائلة تفتقد أواصر الحب والمودة بتكنيك إخراجي أخّاذ.

ومما يلاحظ في تجارب هؤلاء المخرجين ومن تلاهم، اعتمادهم على أنفسهم في كتابة سيناريوهات أفلامهم محققين الصورة المثلى لسينما المؤلف!.

خلال السنوات الثلاث الأولى من عقد التسعينيات، حقق مجموعة من المخرجين تجاربهم السينمائية الأولى في الأفلام الروائية، فكان الفيلم الأول للمخرج عبداللطيف عبدالحميد "ليالي ابن آوى" بمثابة العزف المنفرد في السينما السورية، حيث ذهب إلى منطقة جديدة هي الكوميديا السوداء، من خلال تناوله لحياة عائلة ريفية تعيش في قرية صغيرة: أب متسلط وأولاده والحياة اليومية لفلاح نصف متعلم يريد للحياة أن تسير على هواه، لكنه في النهاية يفقد كل شيء ويبقى وحيدا مع عواء بنات آوى.

وفي فيلمه الثاني "رسائل شفهية" ينهل عبداللطيف عبدالحميد من كنوزه القروية الساخرة موضوعا جديدا وآسرا على خلفية من قصة حب بين شاب بأنف طويل وفتاة وحيدة في القرية تعاكسها الظروف وتتزوج منه لتتكرر مأساتها بأولاده الذين جاءوا بأنوف طويلة أيضا.

يقول عبداللطيف عبدالحميد: "أنا أميل إلى الكوميديا الساخرة، كوميديا الحالة، وأعتمد البساطة في تقديم أفكاري حتى على صعيد الأسلوب السينمائي، فأنا أكره الرموز الخفية جدا، يهمني أن تصل أفكاري إلى كل الناس بسوية واحدة".

وإذا كان عبداللطيف عبدالحميد قد صّور البيئة الريفية في الساحل السوري فإن المخرج "ريمون بطرس" لجأ في فيلمه الأول "الطحالب" إلى ضفاف نهر العاصي، ونواعير حماة، من خلال حكاية أسرة وإخوة يتنازعون حول إرثهم في الأرض لينتهي الفيلم بفجيعة جسدها المخرج بمشاهد رؤيوية تحمل من التراجيديا المسرحية ملامحها، ومن التحولات الاجتماعية المعاصرة بؤرتها الجوهرية.

بيئات متنوعة

ومع فيلم "الليل" يعود بنا المخرج محمد ملص في تجربته الروائية الثانية إلى مدينة القنيطرة، التي ولد فيها مستذكرا طفولته على خلفية من الأحداث السياسية التي مرت بها سوريا وفلسطين خلال فترتي الثلاثينيات والأربعينيات ليمزج بين السيرة الذاتية والسيرة العامة، بين الحلم والواقع برؤية تشكيلية باهرة تجمع ضمن الكادر الواحد بين "الذاكرة والشاعرية البصرية المليئة بالألم والشجن والحسرة وعدم الرضا"، وبذلك يحقق أسلوبه الخاص الذي بدأه بفيلم "أحلام المدينة" متخذا من السيرة الذاتية موضوعا لفيلميه بإضافة الأحداث العامة إلى نسيجه المتفرد.

ويتناول المخرج غسان شميط في فيلمه الأول "شيء ما يحترق" حكاية عائلة نزحت من الجولان إثر حرب 1967، وحلمها في العودة إلى البيت الأول ورفضها التجذر بعيدا عن مطارح الأهل وتصاعد المشكلات التي تواجهها خلال عشرين سنة من فقدان الحلم.

أما المخرج ماهر كدو في فيلمه الأول أيضا "صهيل الجهات" فتلح عليه ذاكرة بدوية في تقديم بيئة ظلت مهملة في السينما السورية، هي بيئة الجزيرة والفرات الغارقة في الوهم والحلم. وقد جاء الفيلم بمثابة قصيدة متعددة الأصوات خلال حكاية فتاة تتعرض للاغتصاب في ليلة مظلمة على يد عصبة من الأشرار، بعد أن يُقتل والدها، مربي الخيول الأصيلة، ومكابدات هذه الفتاة خلال رحلة طويلة من السهول إلى الصحاري والجبال بحثا عن قتلة أبيها لإطفاء نارها المشتعلة في الضلوع.

الفيلم يعتمد اللغة البصرية ويقتصد في الحوار، فيكشف عن هواجس الأمكنة المتباينة من الطين إلى الحجر، كما يصل إلى مقولة مهمة عن معنى الاغتصاب بشكلـه الشامل، اغتصاب الحلم والبراءة والحياة البسيطة، وإرهاصات الفرد أمام طغيان الشر.

ويرى ماهر كدو في حوار معه: "أن الفيلم مبني على مستوين، الأول واقعي، والثاني متخيل، وقد حاولت أن أخلق في المستوى الأول حكاية وهذه الحكاية عتيقة من غابر الأزمان، وقد تحدث إلى الآن، وفي مزجي بين الواقع والمتخيل، أعمل ما بين المنطق والدلالة انطلاقا من مقولة صغيرة هي: الحق للوصول إلى الحقيقة".

التأكيد على دور الهامشيين

في سنة 1993، أنجز المخرج نبيل المالح فيلمه "الكومبارس" بعد غياب طويل عن الشاشة الفضية، وفيه يتجه إلى منطقة سينمائية جديدة، من الملحمية في أفلام قديمة كالفهد وبقايا صور إلى العزلة والذات في فيلمه الجديد شكلا وموضوعا، إذ تدور أحداث الفيلم في غرفة خلال مائة دقيقة هي المدة الزمنية للفيلم أيضا، ويتناول حياة الهامشيين أو "الكومبارس" في المجتمع.

شاب يدرس الحقوق ويعمل "كومبارس" في المسرح القومي، يلتقي بحبيبته الأرملة في بيت صديقه، ويحاول أن يتخلص من الخوف وأن يرفع صوته عاليا في الدفاع عن كرامته بتجسيده أدوارا متنوعة في مسرح متخيل للخروج من الهامش إلى المتن في الحياة، لكنه يظل محاصرا وأسيرا لحالة الإحباط والفزع من العالم الخارجي.

يريد المخرج نبيل المالح التأكيد على دور الهامشيين وحقهم في الحياة والكرامة والحلم عبر لغة بصرية ثرية باللون والحركة والتشكيل تتناسب مع قصة حب شرقية، محاصرة ومحبطة، وقد حاز هذا الفيلم على جائزة أفضل إخراج في مهرجان القاهرة السينمائي الأخير.

يلاحظ في هذه التجارب السينمائية خصوصيتها في تناول البيئة وفي تقديمها موضوعات جادة، بعيدا عن التسلية والتوابل التجارية، ومحاولتها التأصيل لسينما عربية تقول كلمتها الخاصة وصورتها التعبيرية المتميزة وإن تنوعت أساليبها في الطرح والمعالجة، كما يلاحظ أن صانعيها يحملون هموما عميقة في تشريح أورام المجتمع العربي المعاصر بكاميرا غير محايدة ولا تضع في ذهنها المتطلبات الآنية للسينما.

إن النجم في السينما السورية الجديدة هو الموضوع وليس الممثل، ومن هنا لجأ جميع المخرجين في أفلامهم إلى وجوه جديدة غير معروفة، في تقديم أفكارهم، كيلا تختلط الصورة في ذهن المتلقي.

صحيح أن الكم قليل في إنتاجات المؤسسة العامة للسينما، لكن النوع شديد الثراء والتنوع والقيمة الفكرية والبصرية.

ومن هنا حازت هذه الأفلام وأينما حلت على جوائز ذهبية في المهرجانات العربية والعالمية من دمشق إلى قرطاج إلى مونبلييه وفالانسيا وروتردام ونانت والرباط ومختلف المهرجانات الأخرى.

كما عرضت على معظم شاشات العالم كسينما من العالم الثالث تنافس أرقى الأفلام العالمية وتتفوق عليها في معظم الجولات.

 

خليل صويلح 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




لقطة من فيلم الليل للمخرج محمد ملص، أكثر من جائزة ذهبية





لقطة من فيلم صهيل الجهات - جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان دمشق





لقطة من فيلم شيء ما يحترق إخراج غسان شميط





لقطة من فيلم رسائل شفهية سينما  الكوميديا السوداء





لقطة من فيلم الكومبارس جائزة أفضل إخراج في مهرجان القاهرة