هل يمكن أن تفكر بدون لغة؟ الطيب بوعزة

هل يمكن أن تفكر بدون لغة؟

في بداية الدراسات اللسانية المعاصرة تركز الأهتمام على تحليل ظاهرة اللغة داخليا من خلال الكشف عن علاقاتها وبناها الصوتية والنحوية ... ونسقها التركيبي ... وابتعد التفكير اللغوي - وقتئذ - عن طرح التساؤلات الخاصة بعلاقة اللغة بالمعرفة.

إن العـودة السريعة لهذا الموضوع تؤكـد أن علاقة اللغة بالفكـر علاقة وطيدة، ذات أهمية في فهم ليس فقط طبيعة ظـاهرة التفكـير، بل أيضا فهم طبيعـة ظاهرة اللغة نفسها، لذا لم يكن ممكنا إغفال هذه القضية طويلا، فانبعثت كموضوع يستفز التفكـير والنظر حتى من داخل علم اللسـانيـات، وذلك جلي في تآليف تشومسكي وجوليا كـريستيفا وبلو مفليد... وغيرهم.

واستعادة لهذا النقاش الحي نتساءل هذا السؤال الإشكالي الذي عنونـا به هذه السطور: هل يمكن أن تفكر بدون لغة؟ سؤال سنحاول معه إجراء مقارنة بين أجوبة التصورات اللغوية القديمـة والمعاصرة، قصد الإسهام في إضاءة القضية وتجليتها.

لقد كان التصور الفلسفي القديم يعتبر اللغة مجرد وعاء لفظي يأتي المحمول الفكري ليستبطنه ويحل فيه. فـالأفكار حسب التقليد الفلسفي الأفـلاطوني، ماهيات وجواهر، وما اللغة إلا أغلفة وقنوات لفظية تستخدم للقبض على الفكرة والتعبير عنها! وجرى تناقل هذا التصـور الأفلاطوني معطيا نوعا من الاستقـلاليـة للتفكـير عن التعبير، وللفكـرة عن اللفظ... بل تشكل حـس لغوي يعطي نـوعـا من الأسبقيـة في الـوجـود للتفكـير، حس تعـززه تجارب التعبير اليـوميـة نفسها، ألا نقـول عادة: "لا أجـد الألفاظ للتعبير عن آرائي " أو "لا تسعفني اللغة في نقل مشاعري وأفكاري ".

من هنـا تشكل ذلك الوعي اللغوي الـذي يعتبر اللغـة مجرد أداة ووسيلة، يستخـدمهـا التفكير في مختلف عملياته لنقل مقصـوده ومعنـاه. وفي هذا السيـاق يقـول ابن خلـدون: "اعلم أن اللغـة في المتعارف هـي عبارة المتكلم عن مقصـوده، وتلك العبارة فعل لساني ".

وهكـذا نلاحظ أن هذا التصور اللغـوي الـذي يفصل بين فعـل التعبـير وفعل التفكير، يصفـه ابن خلـدون أنـه من " المتعارف " أي من المتـواضع عليه والمتفق على القول به، وفي ذلك دلالة على شيوع هذا التصور وتداوله قديما.

لذا تصبح الإجابة عن السؤال: هل يمكن التفكير بدون لغة؟ إجابة بنعم. هذا رغم أن التفكير اللغوي القـديم لم يكن بحكم طبيعـة انشغـالاتـه المعـرفية الموجهة نحو قضايا اللغة النحوية والبلاغية... بقادر على طرح مثل هذا السؤال الـذي ينتمي إلى فضـاء التفكـير المعاصر الحابل بهواجس التجديد والتساؤل، رغم وجود بعض اللمعات الفكـرية والفلسفية التي أدركت الصلة بين اللغة والفكر من خلال أبحـاثها وجدالاتها المنطقية، مثل محاورة المفكر الإسلامي أبي سعيد السيرافي والمنطقي متى التي قدمها أبوحيان التوحيدي في كتابه الممتع "الإمتاع والمؤانسة" حيث خلص السيرافي إلى رفض منطق اليـونـان بحجـة ارتباطه بـاللغة اليونانية! ومن ثم سيكـون استنساخه في الفضاء الثقـافي العـربي استنسـاخا خـاطئا غير مسوغ:

يقول السيرافي مناظرا متى: "-.. ولكن إذا كانت الأغراض المعقولة والمعاني المدركة لا يوصل إليها إلا باللغـة الجامعة لـلأسماء والأفعال والحروف. أفليس قد لزمت الحاجة إلى معرفة اللغة؟".

فأجاب متى: "نعم! ".

قال السـيرافي: "أخطأت. قل في هذا الموضع: بلى! قال متى: بلى، أنا أقلدك في مثل هذا.

فقال السيرافي: أنت إذن لست تـدعونـا إلى علم المنطق، إنما تدعونا إلى تعلم اللغة اليونانية...". لكن هذا الوعـي اللغوي المبكـر بـارتباط اللغة (نظام التعبير) بالمنطق (نظام التفكـير) لم يجاوز حدود القول بالعلاقة بينهما إلى الـوعي بكون اللغة إنتاجا للفكـر، كما ستـذهب إليـه الاتجاهات اللسـانيـة المعاصرة. وهذا ليس مستغـربا، إذ لكل زمن ثقافي أسئلته المعـرفيـة الخاصـة به، والتي تشـد إليها انشغالات العقول والأذهان.

اللغة والفكر في الثقافة المعاصرة

سيـؤدي التسـاؤل حول وظيفـة اللغة من حيث علاقتها بـالوعـي والفكـر إلى تبديل التصـورات القديمة، وإرساء تصورات بديلة جديدة! ذلك لأن أهميـة اللغة تأتي من كـونها تنظيما للـواقع بمختلف تجلياتـه ومعطياته. وتصنيفا لظـواهره وتقطيعا لـوحـداته، واستدخـالها في رمـوز (أسماء، أفعـال، علاقـات (حروف)، فيصبح ذلك الـواقع منقولا إلى وحدات رمزية مجردة تسهل عملية التواصل، وتجعل عملية التفكير ممكنـة. فأفراد المجتمـع وحكماؤه- كـما قـال ابن جني قـديـما- يتـواضعـون على مجموعـة من الأسماء الـرمزيـة قصـد "الإبـانـة عن الأشيـاء المعلومات، فيضعون لكل واحد منها سمة ولفظا إذا ذكر عرف به مسماه ليمتاز من غيره، وليغني بـذكره عن إحضاره إلى مرآة العين ".

فلنتصور حال عالم الثقافة وعالم التواصل الإنساني بـدون وجود لغـة! إن اللغـة كـما سلف مع ابن جني تغني عن إحضـار الواقع المادي بشخـوصه وسماته وأعيانه، لأنها تجريد رمزي متواضع عليه، لذا فبدون لغـة "يستعصي " التفكير في الواقع، إذ يستحيل هذا الأخـير إلى شتات من الظـواهر وفـوضى دامسة لا نميز فيها شيئا. لكننا نذهب بفكـرة ابن جني- تحت تأثير التفكـير اللساني ومستجداته المعاصرة- إلى أبعد مما سبق، إذ لا تكمن وظيفة اللغة في "تسهيل " عملية التفكير بنقلها للواقع وتجريده فحسب، بل إنها أيضا تؤثر في عمليـة التفكير ذاتها، لأنها لا تنقل الواقع كـما هو، بل تقطعـه وتجزؤه وتصنفه على نحـو خـاص. فكل لغـة كـما يقول أنـدريه مارتينيـه "تمثل طريقة خـاصـة في تنظيم العـالم " وبـما أن التفكير في الـواقع يستحيل حصوله بدون لغة، فلاشك أن هذه الأخيرة تـؤثـر تأثيرا كبيرا على عمليـة التـأمل والنظـر في "الـواقـع "، إذ هي التي تعطي لهذه العمليـة منظار الرؤيـة إلى الموضـوع (الـواقع)، بل هي صـانعة موضوع التفكير، وأكثر من ذلك هي صانعتـه على نحو خاص. فاللغات مختلفة كثيرا في عملية تصنيفها وتنظيمهـا للـواقع، ولتسهيل إدراك ذلك أستحضر للقارىء أمثلـة من بعض اللغات البـدائية، لأنها أقل تعقيدا، ومن ثم فتأثيرها على التفكير والعيش أكثر وضوحا وبروزا.

إن اللغة البدائية عادة ما تتسم بطابع حسي مادي، فمفهوم "العدد" عند بعـض القبائل البدائية، كقبيلة " التسمانيين " لا يجاوز الاثنين (واحـد، اثنان ، كثير)، فكل ما يتعدى اثنين هـو " كثير" هذا بـالإضافـة إلى ربط حسي للعدد بالشيء، إلى درجة أن قبيلـة دامارا ترفض مقـايضة أربعـة أكياس من الحنطة بأداتين للصيد (قوسين مثلا)، وتقبل مقايضة كيسـين بقوس واحد، على أن تعيد العملية مرة أخرى!!.

من هنا يتضح كيف تؤثر اللغـة بمفهومها العددي الحسي المحـدود، ليس فقـط على عمليـة التفكير، بل حتى على عمليـات الحياة الاقتصاديـة والاجتماعيـة بكل شموليتها. صحيح أن اللغة هي طريقة معينة في تنظيم العالم، وبالتالي طريقة محددة في فهمه والتعامل معـه. ولـذا يـذهب كلـود ليفي ستروس في كتابـه "الانثربولوجيا البنيوية" إلى أن أقصر السبل إلى فهم منطق تفكير شعب معين هو دراسة لغته.

ومن هذا الوعي بخطـورة الوظيفة اللغـويـة وتأثـيرها على التفكير سيقرر علم اللسانيات المعاصر لا أن هـذا المضمون (الفكـري) يتعـين أن يمر باللغـة ويستعير منها أطره، وعلى غير هذا الوجه فإن الفكر سيتحـول إن لم يكن إلى لاشيء، فعلى الأقل إلى شيء هو من الغموض وعدم التحدد بحيث لا تكون لدينا أي وسيلـة للتمكن منـه كـ "محتوى"... إذن ليس الشكل اللغوي شرطا لإمكان التبليغ فقط، بـل هو قبل كل شيء شرط تحقق الفكر".

واستنادا على هذه القناعة يدعوك هذا المقال أيها القارىء العزيز إلى محاولـة تفنيـده، بإيجاد فكرة ما خارج اللغة، حاول- دون نطق أو كتابة- في داخل نفسك الإمسـاك بفكرة ما مجردة عن تجاويف اللغـة وأسمائهـا أو أفعالها أو حـروفها!! لاشك ستتـوصل إلى ضرورة اللغة للتفكـير، ضرورة أكيدة!

وخلاصة القول: إذا كـان التصور اللغوي القديم يفصل بين المعطى اللغـوي والمعطى الفكـري، فإن التصور اللسـاني المعاصر سيوحـد بينهما إلى درجـة التداخل والتـلازم، إن لم نقل التماهي المطلق. ومن هنا نفهم لماذا انمحت في الـدراسات النقديـة الأدبية المعـاصرة تلك الفـواصل التقليـديـة بين الشكل والمضمون، فأصبح المعطى اللغـوي كيانـا بنيـويـا تتداخـل فيه الأجزاء وتتشابك. ومما لاشك فيه أن لظاهرة اللغة علاقتها الوطيدة بظاهرة التفكير، وإذا كان الإنسان يتميز عن الكائن الحيواني بالتفكـير، فإنه يتميز أيضا بفعالية اللغة، بل لعل امتيازه واختصاصه بالتفكير مستحيل بدون اختصاصه باللغة، وربـما لهذا كان للغـة حضورها منذ أولى لحظات خلق الإنسان فقال الله عزوجل: وعلم آدم الأسماء كلها.

 

الطيب بوعزة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات