دائرة المعارف الإسلامية من لها الآن؟ مصطفى شعبان جاد

دائرة المعارف الإسلامية من لها الآن؟

في الثلاثينيات من هذا القرن اجتمع أربعة من الشبان المثقفين على مشروع حضاري كبير يستطيعون من خلاله الوصول إلى هوية قومية تصوغ التاريخ الإسلامي العربي من ناحية ، وتحقق ذواتهم الفكرية من ناحية أخرى. هذا المشروع التاريخي هو ترجمة "دائرة المعارف الإسلامية" التي قام على تصنيفها وجمع موادها نخبة من أساتذة الغرب في تخصصات الحضارة الإسلامية المختلفة.

ولعل الدارسين في المنطقة العـربية لتـاريخ الحضارة الإسلامية بصفة عامة لا يستطيعون حتى اليـوم أن يغفلوا الـرجـوع لـدائرة المعـارف الإسـلامية كمصـدر أصيل في هـذه النـاحية، حيث وجدوا فيها مواد تقوم على التوثيق العالمي الموضوعي لتـاريخ المنطقـة.. والمتأمل في هذه الـدائرة العلميـة سيـلاحظ أنها اعتمـدت اعتمادا كـليـا عـلى المصـادر والمراجع العربية والإسلامية التي تزخر بها مكتباتنا في أنحاء المنطقة.

وقـد تـوسل أصحابها بـالترتيب الهجائي المتبع في دوائر المعارف العالمية.

وكـان أول إصدار لهذه الـدائرة بين عـامي 1913، 1938 ظهر في أربعة مجلدات ومحلق للفنـون ثم بدأت تتوسع في عدد مجلداتها وتتصدر مكانتها العالمية بعد ذلك، وفي عام 1954 بدأت لجنة عن المستشرقين المحدثين بـإشراف كراموز وجيـب وبرنارد لـويس في إخراج طبعة جديـدة باللغات الإنجليزية والفـرنسية والألمانية.

ثم تـوالت الطبعات والترجمات عـلى مستـوى العالم ، بحيث ينـدر أن نجد دولة لم تسع إلى ترجمتها للغاتها الأصلية. ودائرة المعارف الإسلامية قد توحي من عنوانها أنها تستوعب - فقط - الموضوعات المتعلقة بالإسلام كديانة وقرآن وسنة، لكنها في حقيقة الأمر أوسع مدى من هذا .. حيث نجد أنها شملت باقي العلوم من فلسفة ولغة وعلوم اجتماعية وفنون وتاريخ وطب وعلوم بحتة وغيرها مما قد يتعلق بتاريخ العرب في العصور الإسلامية، فضلا عن أنها تتعرض أيضاً للحضارات والثقافات العالمية التي أثرت وتأثرت بالتاريخ العربي مثل الحضارات اليونانية والهندية والأوربية، وبذلك نجد أنفسنا أمام دائرة معارف إسلامية وعربية وعالمية تاريخا وموضوعا.

وهؤلاء الأربعة الذين تصدوا لترجمة هذا العمل البطولي هم : الدكتور عبدالحميد يونس والأساتذ إبراهيم زكي خورشيد ومحمد ثابت الفندي وأحمد الشنتناوي. ولست هنا بصدد سرد التاريخ الطويل لهؤلاء الرواد مع الدائرة منذ عام 1933 ويكفي أن أسجل تحمسهم للفكرة منذ اللحظة الأولى حيث البحث عن مكان والبدء في الترجمة ولم يكونوا وقتها قد أتمو عقدهم الثالث بعد. وبدأ المشروع على فكرة إعادة الترتيب الهجائي للنسخة الإنجليزية لتوافق الترتيب الهجـائي للترجمة العـربية، واستمـر العمل عشرات السنين من خلال "شقة" تم استئجارها في شارع حسن الأكبر بالقاهرة. وكان هذا المكان ملتقى لقمم أدبية لها مكانتها مثل المازني وطه حسين وغيرهما.

الموسوعة الناقصة

لقد اجتهد الأربعة الكبار في الترجمة حتى وصلوا إلى حرف الـ "عين " في فـترة السبعينيات وهم في محاولات مضنية للحاق بسيل المعلومات الجارف الذي يأتي مع كل طبعة جديدة للدائرة. وظهرت في الثمانينيات بعض الكتيبات التي تحوي مواد كاملة مثل "ألف ليلة وليلة".

ولم تتجـاوز الـترجمة حـرف "العين " حتى الآن. وتوقف العمل عند هذا الحد من الترجمة لا يرجع في الحقيقة إلى قصور من هؤلاء الرواد، فقد قاموا بـما يمليه عليهم الضمير العلمي لكن عـدم وجـود دعـم مالي خارجي، لهذه الدائرة مع مشكلات سعر الورق الذي يرتفغ بصورة فلكيـة وقف حائلا أمـام الشبان الذين تجاوزوا عقـدهم السابع، فقد كـانت المعونات المالية تأتي عن طـريق اشتراكـات المكتبـات المدرسية للحصول على نسخـة أو أكثـر من هذه الترجمة التي عكفـت على نشرهـا "دار الشعب "، ناهيك عن أن مكافأة الترجمة كـانت تحسب من الناحية الرسمية ببضع مليمات للكلمة.

وكـان سفر الأستاذ/ أحمد ثـابت الفنـدي ورحيل الشنتناوي ثم رحيل الأستاذ إبراهيم زكي خورشيد قد جعل من استمـرار العمل في الـدائرة ضربـا من المستحيل، حيث لم يتبق من اللجنة سوى الـدكتور عبدالحميـد يونس- عام 1986 والـذي ذهب بحافـز من الوعي القومي لاستمرار هذا العمل إلى وزير الثقـافة السابق الدكتور أحمد هيكل، وقـد أبدى الأخير حرصه على إعادة لجنـة دائرة المعارف الإسلامية وتكـوينها من خلال عناصر جديدة لاستكمال الترجمة إلا أن الدكتور هيكل خرج مبكـرا من الوزارة وهدأ الموضـوع مـرة أخرى وبعـد ذلك بسنوات قليلة توفي الدكتور عبدالحميد يونس- 1988 - ثم الدكتور أحمد ثابت الفندي - 1993- والغريب أن أحدا لم يلتفت- بعـد رحيل الرواد الأربعة إلى الاهتمام بهذه "الشقة" التي كـان يتم فيها الترجمة.. وقد عاش كاتب هذه السطور عدة سنوات في رفقة أستاذه الدكتور عبـد الحميد يونس مترددا على هذا المكـان العريق الحافـل بالموسوعات والمراجع النادرة.. والذي لا يعرفـه أحد أن هذا المكان أصبح أطلالا خربة.. حيـث استغلت صاحبتـه موت الجميع وقـامت بغلقه ولم تسمح لأحـد بارتياده رغم تحرير القضايا ضدها، فلم يستطع الدكتور يونس قبيل وفـاته مجرد استرداد المراجع التي عاش وزمـلاؤه يتوسلون بها في عملهم وبعد وفـاته ورحيل الجميع ذهبت إلى هذا المكـان لأجـده مغلقا تماما على آلاف البطاقات والأوراق والمخطوطات العلمية.. ولا شك أنها الآن آخـذة في التلف والضمور، دون أن يتحـرك أحد.

لا أحد لها الآن..

وقد قال لي الدكتور يونس- رحمه الله- إن هـذه الدائرة "تعـد من الـواجبـات الأسـاسيـة في اعتراف المتعلمين بـالتراث الحضاري للعالم الإسلامي- وهي التي علمت جيلنـا التصنيف المعجمي لـدوائر المعـارف " ولعلني أذكر- كـواحـد من هذا الجيل- أنني وأصدقـائي لم نكن نستطيـع إغفـال دائرة المعارف الإسلامية والرجوع إليها عنـدما نواجه دراسة أو بحثا في التاريخ الإسلامي، وأذكر أيضا كيف كانت المراجع التي تنتهي بها كل مادة في الدائرة عونا لنا على تفتيح مجالات البحث العلمي.

وإذا كان العالم بلغاته المختلفـة قد بادر بترجمة هذا العمل، ألسنا كأمة عربيـة أولى بمتابعتـه والانتهاء من ترجمته لأجيـال قـادمة من الباحثين، إن تاريخ أمتنا العربيـة حافل بأمجاد الترجمة من لغات العالم المتعددة، بل هو حافل بالأعمال الموسوعية والتصنيفية العربية منذ بدأ الخليل بن أحمد معجمه اللغـوي الشهير وتلاه ابن منظور وابن سيده وحاجي خليفة وجميعهم صاغوا تـاريخ وثقافـة المنطقـة العربية بمناهج علمية رفيعة المستوى علمت غرب العالم كيف يكتبون الموسوعة وكيف يصنفـون دوائر المعـارف. فكيف لا نستطيع ترجمة هذا العمل الذي يتحـدث عنا ونحاول فهمـه وسبر أغواره.

ونحن نسمع الآن أخبارا متنـاثرة في أكثر من مكان عن الشروع في وضع دائرة معارف عربية، ولا ندري ماذا تم فيها، ونصلي من أجل أن تخرج إلى الوجـود.. وأحسب أن دائرة المعارف الإسلامية رغم كتـابتها بأقلام غربية فإنها تتسم بالموضوعية التـامة، وإذا انتبه الباحثون العرب لأهمية استكمال ترجمتها ستكون نواة طيبة لدائرة المعارف العربية التي ظللنا نحلم بها أجيالا طويلة.

فحتى الآن لا تزال دائرة المعارف البريطانية ودائرة المعارف الأمريكية وموسوعة لاروس الفرنسية وغيرها هي المصادر العـالمية التي نلجأ لها في لغاتها الأصلية، وعلى الرغم من احتياجنا لترجمة هذه الأعمال أيضـا، فنحن لا نـريـد أن نحلـق في الأفق، ويكفي الاهتمام بتراثنا الـذي كتب بأقـلام أجنبية، وكل ما نخشاه أن نظل نحن العرب بدون معلم مـوسوعي يتحدث عنا ويكون واجهة المنطقة عروبة وإسلاما، وأن نبقى هكذا في انتظار الغرب ليكتبوا لنا عنا، ولا نستطيع ملاحقة ما يكتب.

إن دائرة المعارف الإسلامية لا أحـد لها الآن.. وفي انتظار تحرك عربي لإنقاذها ومتـابعتها.. وكـاتب هذه السطور لا يملك سوى التنبيه لهذا الخطر وفي انتظار أن تتحرك المؤسسة الثقافية العربية قبل فوات الأوان.

 

مصطفى شعبان جاد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات