فن الرأفة

فن الرأفة

إنه رسام فرنسي من القرن التاسع عشر قارب بورتريهات المرضى المختلين عقلياً برأفة، واصفاً المآسي الإنسانية بواقعية حادّة.

كانت بورتريهات المجانين التي رسمها الفنان الفرنسي جيريكو (1791-1824) من الرسومات الأولى في التعبير عن رأفة حقيقية بالأشخاص الآخرين، وكوّنت هذه البورتريهات المتميزة بواقعيتها دراسات عميقة لتعبيرات وجوه الأشخاص المعتوهين قياساً للرأي الطبي السائد في القرن التاسع عشر.

كانت الرأفة - دون شك - مرتبطة بشعور معرفة الغير الذي جرّبه الرسام نتيجة ضعفه العقلي الخاص، ولكنها كانت أيضاً - وبشكل متساو - مرتبطة بالعقلية الرومانسية لعصره.

كان إنتاجه متفاوتا خلال حياته القصيرة، فترات من النشاط الكبير والمحموم، تليها فترات هبوط تحيل على نزعات انتحارية، وهيأ له استقلاله المالي عيش حياة ملائمة منذ فتوته، وإن كان غياب المنافسة أدى إلى بقاء لوحاته متواضعة والكثير من أعماله غير تام، وهذا أيضاً سبب بقاء رسوماته ومخططاته غير المنتهية أكثر من لوحاته المنتهية.

ولقد بيعت اللوحات الموجودة في مرسمه لهواة جمع اللوحات في مزادات علنية بعد مماته، واختفى عدد منها دون أثر، ونحن لا نعرف الكثير من المعلومات عن حياته، وإن كان من المؤكد أن جيريكو لم يعرف دائماً كفنان، فخلال إقامته في روما - مثلاً - عرف كمالك.

غير أكاديمي

وُلد جيريكو في رون (1791) ووصل باريس في (1796)، وفي السابعة عشرة أدرك رغبته في أن يكون فناناً، وخلافاً لغالبية الرسامين، فإنه لم يتبع المحاضرات في أي أكاديمية، مفضلاً أن يختار بنفسه أساتذته: (كارل فيرنيه: الذي كان معاصراً بذوقه، والأكاديمي بيير كيران).

في تلك الأثناء، ظهر جلياً أن الفنان الشاب غير مؤهل لتشكيل مدرسي، فلأنه كان نافد الصبر لم يستطع الالتزام باتباع نظام، لذلك قرر تطوير مواهبه مقلداً أساتذة اللوفر الكلاسيكيين، وكانت هذه هي الطريقة الكلاسيكية لتعلم الفن.

ويمكن أن نستشهد من بين معاصريه المشهورين الذين درسهم بـ جاك لويس دافيد (1748-1825) وبأنطوان - جان كرو (1771-1835): كان دافيد يرسم لوحات مستوحاة من الكلاسيكية القديمة، في حين أن كرو كرّس نفسه لإظهار الانتصارات العسكرية لنابليون.

في تلك الفترة، تميزت الأعمال التي نالت تقديراً أكثر بشكلها وموضوعها، وكانت لوحات كبيرة لمشاهد من الكلاسيكية القديمة، ودعي هذا الأسلوب (الرسم التاريخي) لكن كل شيء تغير في بداية درب جيريكو. فبحث من نابليون قسم الرسم التاريخي لقسمين: التكوينات الكلاسيكية، وتلك المكرّسة لأحداث أهميتها قريبة العهد.

الميدوز

منذ 1815 وقف جيريكو الشاب نفسه على موضوعات عسكرية ذات أهمية وطنية، ولكن بعد أن صدمته - دون شك - أهوال معركة واترلو تناول موضوعات أخرى، غير أنه بقي مفتوناً كلياً باللوحات الكبيرة.

في عام 1819 عرضت لوحته المشهورة (طوف الميدوز) لأول مرة، ووصف دارسو تاريخ الفن هذه اللوحة بالمجددة عبر إظهارها لموضوع حالي وعبر واقعيتها القصوى، وبشكل عام، فهي معروفة بأنها العمل الرائع والحقيقي والوحيد في بداية القرن التاسع عشر.

كانت (الميدوز) فرقاطة تابعة للأسطول المبعوث في عام (1816) لاستعادة مستعمرة السنغال، غرقت السفينة على جرف رملي في عرض بحر سواحل إفريقيا الغربية مسببة موت حوالي مائة من المسافرين، بنى الناجون من الحادث طوفا وعاشوا في البحر في ظروف صعبة للغاية، وبعد أن تاهوا خلال (13 يوما) جمعتهم سفينة أخرى من الأسطول نفسه.

تأثر جيريكو بعمق بهذه المأساة الإنسانية، وعالج جيريكو هنا موضوعاً مشحوناً بالعاطفة منجزاً تكويناً تذكارياً بشكل كامل، فبعد أن نشر اثنان من الناجين سرداً عن المأساة، وبعد أن تحدث معهما، أخذ الفنان فكرة أكثر دقة عن الكارثة، كان التوحّش والجنون والمجاعة والانتحار جحيماً حقيقياً في الثلاثة عشر يوماً.

استقر جيريكو على هدف رسم هذا الحدث بأعلى حد من الواقعية، وخلال سنة - تقريباً - تفرّغ تماماً لهذه المهمة، ولقد استخدم جيريكو التكوين بميل في لوحته، أي بالذهاب من أسفل ويسار اللوحة إلى أعلى ويمين اللوحة، والانتهاء بالشخصية التي تحرّك يدها باتجاه السفينة البادية في الأفق التي تأتي لإنقاذهم، وهذا ما أعاد السمة المأساوية للأحداث.

أما الإحساس بالواقعية الذي يتأتى من اللوحة، فمعزو إلى حجمها الكبير، وإلى الشخصيات الجالـسة بعـيونها المحدّقة في الأفق.

وعـلى الرغم من أن جـيريكو نال ميدالية ذهبية من أجل هذه اللوحة، فإنها لم تُبع، وانتهى بها الأمر إلى تعليقها في اللوفر بعد موته.

التشخيص بالرسم

غرق الفنان في الاكتئاب بعد أن أنهكه العمل المحموم في لوحة طوف (الميدوز)، ومن الممكن أن جيريكو التقى في هذا العهد بالطبيب أ.ج جورجيه الذي كان مكلفاً بالمجرمين المختلين عقلياً في مشفى (السالبتريه)، وجورجيه هذا واحد من الروّاد في طب الأمراض العقلية، ومن أوائل الأطباء الذين عالجوا المرضى العقليين دون أن يرضى بحبسهم، وكان يأمل في أن يفهم التناذرات بشكل أفضل عبر المراقبة وإقامة قواعد بصدد علم المداواة. وقد اهتم بشكل خاص بالهوس الأحادي حيث سلك المرضى سلوكاً طبيعياً بشكل كلي، غير أن نقطة ضعيفة واحدة لديهم يمكن أن توصلهم إلى حد الوسواس، مثل: الذعر وجنون العظمة، وأيضاً الحسد العصابي.

كانت المساعدة المهمة لتشخيص الهوس تعتمد على دراسة هيئة الوجه، وكانت هذه الطريقة شائعة جداً في ذلك العصر، وفي الواقع، يمكن أن نفهم شخصية المريض من خلال خصوصيات وشكل الجمجمة.

ورغم أن الكتابات التي تخص البورتريهات المشهورة غير وافية بالغرض ومتناقضة، فمن المرجح أن الطبيب جورجيه طلب من جيريكو أن يرسم مرضاه لمساعدته في دراسة حالاتهم. ولأنه كان إنساناً حسّاساً، فقد استطاع أن يتناول هذه المواضيع برأفة، والجمع بين الرأفة والواقعية جعل منها عملاً جديراً بالملاحظة في تاريخ الفن.

مجموعة الرأفة

رسمت هذه المجموعة من البورتريهات بين عامي (1820-1824). وكان يوجد فيها عشرة، لكن خمسة منها فقدت في القرن التاسع عشر، أما الخمسة الأخرى، فهي موزعة اليوم بين فرنسا والولايات المتحدة وسويسرا وبلجيكا. تظهر البورتريهات: رجلا يتوهم أنه جندي، وغاصب أطفال، ومهووس بالسرقة، ومقامرة، وامرأة يفترسها حسد عصابي.

لقد اختار جيريكو لهذه البورتريهات الخمسة خلفية معتمة وموحّدة نسبياً، أما ألوان الشخصيات نفسها، فهي باهتة بما فيه الكفاية، أما أهميتها، فهي تتركّز في تعابير النظرة، وهنا بالتحديد يظهر فن جيريكو: الشك عند الجندي... ونظرة - على الأرجح - وقحة عند المدغور... وبعض الخضوع عند المقامرة المعتوهة، وغضب مكبوت عند المرأة الحسود.

ونحن نجهل - مع الأسف - ما كان يدور في خلد جورجيه أو جيريكو نفسه بخصوص هذه اللوحات.

بعد موت جيريكو، انتقلت ملكية البورتريهات لاثنين من طلاب جورجيه، وفي عام (1860) قدمت مجموعة البورتريهات الخمسة إلى اللوفر، ولأسباب نجهلها، رفضت ووزعت، وفـي بدايـة القرن العـشرين، ظهـر بورتريهان منها مرة أخرى في معارض الفن الفرنسي، وقد كانا من بين الأعمال الأخيرة لجيريكو.

وفي عام (1823) عرف جيريكو أنه إنسان لا أمل في شفائه، وأثرت سقطات متتالية عن الحصان على صحته، كما ألزمه سل فقاري الفراش ليموت شابا في السادس والعشرين من فبراير عن عمر (32 عاماً) .

إن حياته التي كانت تعاقباً من النجاحات الفنية والإخفاقات، إضافة إلى غياب الكتابات المتعلقة بحياته الخاصة، أضفى عليه شيئاً من الغموض، فقد رأى الجمهور فيه تجسيداً للفنان الرومانسي غير المفهوم، وهي صورة لم تصبح معاصرة إلا في القرن التاسع عشر، ولكن من المؤكد أن مزاج جيريكو الحسّاس - الذي تلاءم بشكل تام مع عقلية عصره وواقعيته - سمح له برسم بورتريهات المرضى بحساسية ورأفة.

 

محمود سليمان

 
 




الغضب المكبوت عند المرأة الحسود





الخضوع عند المقامرة





لوحة طوف الميدوز الكبيرة التي انتهت عام 1819





الحذر خلف نظرة وقحة للغاية