حول مفهوم التقدم ودلالاته

حول مفهوم التقدم ودلالاته

«التقدم» كلمة توحى بمعان ودلالات عدة على المستوى اللغوي وعلى المستوى الاصطلاحي, كما أنها ذات مغزى زماني ومكاني في آن واحد، وهي كلمة تنطوي أيضاً على مفاهيم التميز والارتقاء في كل نواحي الحياة.

ويعني «التقدم» قطع مسافة نحو الأمام أكبر من تلك المسافة التى قطعها الغير, بحيث صارت ميزة وفضلا؛ فعندما نتحدث عن صناعة «متقدمة», مثلا, فنحن نتحدث عن صناعة تفوقت على غيرها من حيث مراحل الإنتاج, ومن حيث نوعية المنتج، وما إلى ذلك. وعندما نتحدث عن مجتمع «متقدم» نقصد أنه مجتمع صار أقرب إلى المستقبل من غيره... وهكذا. بيد أن هذا المعنى الحميد للتقدم ليس موجوداً على الدوام: إذ إن هناك أيضا تلك الدلالات والمعاني الخبيثة التي تحملها الكلمة؛ مثل الحديث عن «الأسلحة المتقدمة» (بمعنى أنها الأكثر فتكا وقدرة على التخريب) والحديث عن «الأمراض المتقدمة» (بمعنى أنها قطعت شوطا كبيرا في الفتك بالمريض). ومن ثم, فإن الكلمة يمكن استخدامها في سياقين متضادين على هذا النحو.

ومع هذا, فإن الكلمة تحمل بصفة عامة مفهوم السبق الزمني والرقي المكاني لأن التقدم خطوة إلى الأمام, أو درجة إلى أعلى. وعلى الرغم من هذا التلاعب بالكلمة يمكن أن يستمر بلا نهاية في شكل عبثي تماما من ناحية, ويغري بالحديث عن مفهوم التقدم في كل جوانب الحياة الإنسانية (وغير الإنسانية أيضا), من ناحية أخرى, فإن ما نقصده هنا هو «مفهوم التقدم» على المستوى الاجتماعي/السياسي فقط. وهو ما يستوجب طرح عدد من الأسئلة في سياق سؤال التقدم نفسه، فعندما نصف مجتمعا ما بأنه «مجتمع متقدم» يكون هناك بالضرورة في مقابلة «مجتمع متخلف», وهنا لابد أن نطرح السؤال عن معيار «التقدم», وما الخط الفاصل بين التقدم والتخلف؟ وهل يمكن قياس التقدم بمعيار الرفاهية والمستوى المعيشي وحده؟ أم يمكن القياس بحجم المشاركة الاجتماعية للأفراد والجماعات في إدارة شئونهم ؟ أم أن التقدم يمكن رصده من خلال احترام حقوق الإنسان وحرياته على المستوى الفردي والجماعي؟

في تصوري أن «التقدم» مفهوم تحكمه الاعتبارات المتعلقة بالإنسان ووجوده في هذا الكون بشكل جوهري, وأن كل ما يرتبط برفاهية الإنسان وحقوقه الوجودية على المستوى المادي والروحي والفكري يمكن حسابه ضمن عوامل التقدم. ويخبرنا التاريخ أن رحلة الإنسان عبر الزمان بكل ما شابها من جوانب القصور وما حققته من إنجازات- كانت سعيا إلى تحقيق التقدم بهذا المعنى. فقد سعى الإنسان منذ البداية إلى تكوين «المجتمع» عبر أشكال اجتماعية / سياسية لم تلبث أن تحولت إلى شكل الدولة في نهاية المطاف لكي تدير شئون الإنسان لمصلحة الإنسان، وكانت كل خطوة على طريق تحقيق هذا الهدف تعتبر خطوة نحو التقدم.

ذلك أننا نصف تحول الجماعة البشرية في مرحلة تاريخية ما من القبلية القائمة على الولاء العرقي إلى الدولة القائمة على الولاء العام بأنه «تقدم» في البناء السياسي/الاجتماعي لهذه الجماعة. لقد كان انتقال المجتمعات الأوربية التاريخي من النظام الإقطاعي القائم على الولاء الشخصي للسيد الإقطاعي إلى الدولة السيادية القائمة على مفهوم الولاء للسلطة العامة نوعا من التقدم بطبيعة الحال يناسب الظروف التاريخية الموضوعية آنذاك. وهو الأمر الذى يصدق بالضرورة على شعوب أخرى في أماكن أخرى, وفي أزمنة أخرى.

تطور المفهوم

وسوف يتكشف من خلال هذه المقاربة التاريخية أن «مفهوم التقدم» لم يكن أبدا مفهوما ثابتا جامدا يمكن استخدامه للقياس في كل زمان وفي كل مكان, ولكل جماعة إنسانية. وسوف نكتشف أيضا أن المفهوم نفسه كان يتطور تاريخيا مع تطور الفكر الاجتماعي السياسي من ناحية, ومع تطور الممارسات الاجتماعية/ السياسية على أرض الواقع من ناحية أخرى. وهو ما أدى إلى حقيقة مهمة مؤداها أنه لم يعد مقبولا اليوم قياس «التقدم» بعيدا عن الحقوق الأساسية للفرد والجماعة، بمعنى أننا لا يمكن أن نتحدث, مثلا, عن التقدم في ظل الاستبداد السياسي, أو الخلل الاجتماعي الناتج عن سوء توزيع الثروة و تمكين فئة بعينها من نهب موارد المجتمع كله, وما يقترن بذلك حتما من الارتباك والخلل في النظام القيمي والأخلاقي للمجتمع. فالاستبداد السياسي بطبيعته عائق أساسي في طريق التقدم لسبب بسيط يقترب من البداهة: إن الجماعة الإنسانية محرومة من حقوقها الأساسية لمصلحة فرد واحد أو جماعة واحدة. ولأن الخوف والظلم من لوازم الاستبداد، فإن المجتمع الذي يكبله الخوف ويرهقه الظلم لا يبدع ولا ينتج: أي أنهم لا يتقدمون بل إنهم يتراجعون للخلف في غالب الأحوال.

لقد صار «مفهوم التقدم» الآن مرتبطا بحقوق الإنسان وحاجاته على جميع المستويات. وربما يكون هذا ناتجا عن التطور الهائل في وسائل الاتصال بالشكل الذي أدى إلى التفاعل الإيجابي بين المجتمعات الإنسانية على مستوى العالم. وعلى الرغم من بعض الجوانب السلبية التي تشوب أداء وسائل الإعلام أحيانا, فإن من أهم إنجازاتها أنها ساعدت على صياغة فضفاضة عامة لـ«مفهوم التقدم» لا يمكن أن يثير الكثير من الخلافات, وهو مفهوم مؤداه أن كل ما يؤدي إلى تحقيق المطالب الإنسانية، سياسيا, واقتصاديا, وفكريا, يعتبر من عوامل التقدم الحقيقية. والمجتمعات التي اقتربت من تحقيق هذه الأهداف هي التي تستحق أن توصف بأنها مجتمعات متقدمة, والعكس صحيح تماما.

الاقتراب من المستقبل

وهكذا, فإن «مفهوم التقدم» مرادف لفكرة الاقتراب من المستقبل بالشروط الإنسانية الواجبة, وكلما اقتربت الجماعة الإنسانية من - في أي مكان - المستقبل استحقت أن توصف بأنها متقدمة. ولكن الذين يربطون أنفسهم بالماضي لسبب أو لآخر, والذين يحبسون أنفسهم في الحاضر ظنا منهم ووهما بأن الحاضر بشروطه التى تناسبهم بديل عن المستقبل؛ ذلك أن هؤلاء وأولئك يخاصمون مفهوم التقدم الذي لابد أن تسحقهم خطواته الحثيثة. ومن ناحية أخرى, فإن التقدم على المستوى النظري يعني مفارقة الواقع إلى واقع آخر أفضل في المستقبل القريب أو المستقبل البعيد. ولا يمكن أن يتحقق هذا إلا بشرطين: الشرط الأول أن تكون هناك شكوى عادلة من الواقع الراهن, وما ينتج عن ذلك بالضرورة من الرغبة والإرادة لتغيير هذا الواقع السيئ والمسيىء. والشرط الآخر, أن يتم التغيير على مستوى شامل متكامل فيكون التقدم على كل جوانب الحياة في المجتمع. ولا يمكن أن يحدث التقدم, من ناحية أخرى, إلا بقيادة النخبة في كل جانب من هذه الجوانب: في العلوم والفنون, في الزراعة والصناعة, في الإدارة وحقوق الإنسان, في التعليم والرعاية الصحية, في النواحى العسكرية وبناء الطرق ... وهلم جرا. ويعرف كل من يقرأ تاريخ الحضارات البشرية, ويدرس مراحل صعودها, أن فترات الصعود هذه تشهد دائما وجود عدد كبير من المفكرين والعلماء والفنانين والسياسيين يتعاونون معا لدفع عجلة التقدم؛ فالعبقري لا يمكن أن يعيش بمفرده في صحراء فكرية, ولابد له من رفقة عباقرة آخرين.

ومن ناحية أخرى, فإن الحرية شرط ضروري على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع للتقدم، فلا يمكن أن يتحقق الإبداع الذي يصنع التقدم في عالم يلفه الخوف, وفي ظل حكم ينظر نظرة ريبة وعداء للفكر. ومن المعلوم أن الإبداع (على كل المستويات) قفزة في المجهول تبتغي استكشافه، وهي قفزة تتطلب جسارة عقلية لا تتوافر للخائفين والمستعبدين. ومن الأمور التى تثير انتباه المؤرخين ودهشتهم في الوقت نفسه أنه يمكن دائما رصد الأسباب التي تجعلنا نقول عن مجتمع ما إنه مجتمع متقدم في إطار الظروف الموضوعية التاريخية التي عاشها بيد أنه لا يمكن اصطناعها من ناحية , ولا يمكن أن تكون «وصفة» لكل مجتمع «يريد» التقدم من ناحية أخرى.

--------------------------------------

بعدَ صفْوِ الهوى وطيبِ الوفاقِ
عزَّ حتى السلامُ عند التلاقي
يا معافًى من داءِ قلبي وحزني
وسليمًا من حرقتي واشتياقي !
هل تمثَّلتَ ثورةَ اليأسِ في وج
هي، وهوْلَ الشقاءِ في إطراقي؟
أيُّ سهْمٍ به اخترقتَ فؤادي
حين سدَّدتَها إلى أعماقي؟
مسرعًا في المسيرِ تنْتهبُ الخطْ
و، فهل كنتَ مشفقًا من لحاقي؟
إذْ تهاديْتَ مُبْدِلا نظرةَ العطْ
فِ بأخرى قليلةِ الأشواق
وتهيَّأْتَ للسلامِ ولم تفْ
علْ، فأغريتَ بي فُضُولَ رفاقي

حمزة شحاتة

 

 

قاسم عبده قاسم