التراث شرقاً والتراث غرباً

التراث شرقاً والتراث غرباً

لكل حضارة على وجه الأرض تراثها. كما لكل حضارة تعامل خاص مع تراثها. فالتراث، الذي يتشكّل من مجمل ما يرثه شعب من معارف وعلوم ابتكرها الأسلاف، لا يُفهَم على نحو واحد عند جميع الشعوب. فكل حضارة تتعامل مع إرثها الثقافي على نحو ما تهيأت له تاريخياً. فهناك من يجل تراثه، وآخر يتعامل معه باحترام بارد.

هناك من يعتمد عليه في حياته اليومية والعملية ويرى فيها قيمة عليا، وهناك من يضعه في متاحف ويتفرّج عليه كمن يتفرّج على أسماك في أكواريوم.

التراث غربا

كلمة Patrimony، باللغة الإنجليزية، كما كلمة Patrimoine باللغة الفرنسية، والتي تعني التراث، مشتقة من كلمة Patrimonium اللاتينية، التي تعني الإرث الأبوي. وفي القانون الغربي مواد حقوقية تتعلّق بالرأسمال الوراثي، Patrimonial. أي أنه المنزل القديم أو الطاحونة القديمة أو القصر القديم تتميّز بقيمة مادية ومعنوية على حد سواء، تختلف عن قيمة الشقّة الجديدة أو المصنع الجديد أو أي بناء من الأبنية الحديثة التي لا تتميّز إلا بقيمة مادية. غير أن تعامل الغربيين مع تراثهم، يتميّز بالحرارة والارتباط المعنوي وأحياناً الديني.

ما السبب في ذلك؟

ينبغي ألا ننسى أن الغربيين قد عاشوا ثلاث ثورات جعلت من مجتمعاتهم ما هي عليه اليوم. كانت أولى هذه الثورات النهضة (Renaissance)، التي طلّق خلالها الغربيون إرادياً إرث القرون الوسطى الأوربية، القائم على الانصياع الأعمى لتعاليم وإرشادات وسياسات ومعايير الإنسانية التي كانت تضعها الكنيسة الكاثوليكية، المتزمتة آنذاك وغير القابلة بقوانين العقل والعقلانية. وقد حصلت هذه الثورة المخملية والناعمة خلال القرن السادس عشر، في مجال الآداب والفنون على نحو خاص.

أما الثورة الثانية فكانت الثورة الفرنسية (1789) التي شكّلت أول ثورة شعبية ديمقراطية في العالم، تمخّضت عن نظام حكم جديد عرف بالجمهورية، La république، التي تعني - تأصيلاً - الشأن العام. فأضحت بعدها إدارة شئون الناس السياسية شأناً عاماً تديرها العامة، لا الخاصة.

وحصلت أخيراً الثورة الثالثة خلال القرن التاسع عشر، على شكل ثورة صناعية وضعت التكنولوجيا والعلوم في رأس قائمة المعارف الإنسانية، حيث لاتزال. لذلك، يدخل الغربي إلى إرثه الثقافي من باب الحاضر، لا من باب الماضي.

يعني ذلك أنّ موقف الغربي من تراثه يخضع لعملية فصل بين ما هو ثقافي (ويمكن الإفادة منه وظيفياً في الحاضر)، وما هو تاريخي. فعندها تحافظ مدينة كولونيا في ألمانيا، أو مدينة أورليان في فرنسا، أو مدينة أمستردام في هولندا على ما تُطلق عليه اسم «المدينة القديمة»، وتعمد إلى ترميم الأبنية القروسطية ضمن المعايير الجمالية التي كانت معتمدة منذ ألف سنة إلى الوراء، تأتي هذه العملية ضمن روحيّة حديثة.

فالمطلوب عندها من عملية ترميم أبنية المدينة القديمة وإعادة تأهيلها هندسياً ببعض الدعائم الحديثة المخفية وبمواد اسمنتية معاصرة تلوّن بلون الطين الذي كان معتمداً إذّاك، ليس إحياء التراث، بل المحافظة على الذاكرة. بحيث إنّ عين الزائر الغربي، وهو يتمشّى في المدينة القديمة، ليست عين الانبهار بالماضي وإنجازاته، بل عين الاحترام للماضي وعين النقد. فهو يتفحّص ما تقع عليه عيناه ويقارن بينه وبين ما آلت إليه الأمور اليوم. وموقفه البارد هذا ينبع من كونه بات منقطعاً معرفياً عن أشكال وأنواع وتعابير تلك الثقافة الماضية. فهو لا يحبّذ العيش على الطريقة القديمة ولا يميل إلى العودة إلى معاييرها لكونه يعتبر أنه يملك اليوم، طرائق أفضل وأرقى وأربح منها بدرجات.

فالابتعاد المتعمّد الذي يميّز علاقة الغربي بتراثه، موقف فكري شامل لا يسعنا فهمه إلاّ بربطه بالثورات الثلاث التي تفصله عن تراثه القروسطي. هذا التراث الذي يقبل به كجزء من ذاكرته الجماعية والثقافية ويرفضه ضمناً كجزء من حياته المعاصرة.

فالتراث يُعامَل غرباً على أساس أنّه:

- جزء لا يتجزأ من الماضي، ولا تحصل تعابيره بالتالي على القبول إلا بشكل انتقائي ونقدي. ومصفاة العقلانية الحديثة هي التي تقرّر حالات القبول وحالات الرفض، في سياق عملية فكرية وتربوية على السواء.

- جزء من الذاكرة الجماعية، الأمر الذي يستتبع تعاملاً استعاديا لمحتوياته ومكوناته. فهو يشبه الأنسيكلوبيديات والقواميس، يعود إليها الغربي عند الحاجة، للاستفسار عن أمور يجهلها وباتت بعيدة عنه على المستويين الفكري والحياتي.

- لا يشكّل أنموذجاً يحتذى به، لزمن ذهبي وعظيم، فالغربي يعتبر أن الزمن الذي يعيش فيه حاليا هو الذهبي، حيث إنّه يؤمن له البحبوحة والرفاهية والديمقراطية.

- لا يستدعي سوى الزيارة. فالغربي لا يبتكر لإرثه الثقافي، حتى لو كان من أصل عربي، كما هي الحال في التحف الهندسية التي تركها العرب في الأندلس وتبنّاها الإسبان اليوم. فهو يقيم مسافة بينه وبين هذا التراث. لذلك فهو يزوره، ويزور من خلاله ماضيه، دون أن يرغب في الإقامة فيه بالضرورة.

- لا يشكّل عودة للينابيع. فينابيع النماذج التي تقوم عليها حياة الإنسان الغربي راهناً، موجودة كلّها في المرحلة الحديثة، أي في مرحلة ما بعد القرن السادس عشر. الأمر الذي يجعل الغربي بعيداً مادياً ومعنوياً عن تراثه، القابع في القرون الوسطى، وفي ما يعتبره الإنسان الغربي المعاصر زمن الظلاميّة والظلمات.

التراث شرقاً

علاقة العربي بتراثه علاقة عضوية، حيث إن هويته ككل تتغذى من هذا التراث، نظراً لارتباطه في وعيه بأبعاد حضارية وتاريخية ودينية وسياسية على السواء. فتعلّقه بما يختزنه ماضيه من إنجازات علمية وفلسفية وفكرية وأدبيّة وفنية أشدّ من تعلق أي إنسان آخر بتراثه شرقا وغربا.

فمن الممكن أن تبتر الإنسان الإفريقي أو الآسيوي عن تراثه، دون أن يموت حضارياً، أما العربي، فإن قطعته عن تراثه، تكون قد حكمت عليه بالموت. ذلك أنّ للتراث عند الإنسان العربي مدلولاً دينياً واجتماعياً وعصبياً، فحياته المعاصرة مبنيّة على هذه المعادلة التي يتواءم فيها الموروث مع المعيوش.

فمصارعة السومو في اليابان ورياضة الكونغ فو في الصين قد انقطعتا عن أصولهما الدينية، لتغدو ممارسات فولكلورية أو رياضية بحتة. في حين أن الخطاط العربي أو حرفي النحاس الناطق بلغة الضاد فلايزال يربط مهنته حتى اليوم بالأفق الديني والأخلاقي الذي صُبّت فيه أصلاً. وكذلك الحال بالنسبة للعطّار والحلواني.

فينتمي العربي إلى تراثه انتماءً كاملاً ويتماهى فيه معنوياً دون تحفّظ. حيث يشعر بأنّ تعلّقه هو امتداد لتعلقه بتصورّه للدنيا والكون، وحتى لما بعد الحياة. فيتخذ لذلك التراث في نظره بعداً روحانياً وعصبياً يضعه خارج دائرة التفكير وداخل دائرة التقليد. فالمساس بالتراث غير وارد عنده، وكذلك مساءلته أو زيارته على الطريقة الغربية. فالتراث قيمة عليا عنده يتعامل معها بشكل مثالي. لكن مثاليّة علاقة الإنسان العربي بتراثه تبدأ بتجميده.

فلنشر بادئ الأمر إلى أن استخدام مصطلح التراث في العالم العربي حديث العهد نسبياً، حيث لا نجد أثراً له على سبيل المثال، بمعناه الحالي، في «لسان العرب» لابن منظور. ففي هذا القاموس التراث والإرث والورث واحد. وجميع هذه المصطلحات مشتقة من فعل وَرَثَ، أو من فعل أَرِثَ (أي أوقد النار).

مما يعني أن التراث يحمل، باللغة العربية، معنيي الوراثة عن الأقدمين، وإيقاد النار. من هنا هذا الطابع المزدوج للتراث الذي يحمل معنى تقليديا (الإرث) ومعنى متوهّجا (إيقاد النار) يُدخله إلى الحياة اليومية.

لذلك، ونظراً لكون التراث قيمة عليا ينبغي المحافظة عليها، ونظراً لكونه واقعاً في ماض يسعى الإنسان العربي المعاصر إلى استلهامه، فكانت ردّة فعله الأولى بتجميده. فيعمد الناس إلى تكرار مقولات قديمة، كانت في زمنها حديثة، بترويج موضة اقتناء الكتب التراثية.

فمشكلة هذه الموضة اليوم أنها تقضي بالاكتفاء بتجليد وفهرسة الكتب الموروثة عن العصر الذهبي العربي، وتزيينها بالأحرف المذهّبة والملونة، دون العمل على الاستفادة من مضامينها. فتغدو مؤلفات ابن سينا مجمّدة ولا روح فيها، إذ لا يعمد الطلاّب الإفادة منها في تطوير العلوم الطبية الحديثة. كما تغدو رحلات ابن بطوطة مجرّد اطّلاع على بلدان جال عليها لكونها جزءا من المجال العربي - الإسلامي، دون حشريّة علميّة للاطلاع على ما جاء خارج هذا النطاق.

وتقتضي مقاربة التراث العربي والذي يختزن أعمالاً رائعة وعظيمة يفوق عددها المائة ألف عمل، باعتماد الخطوات التالية:

- التعامل مع كنوز التراث العربي على أساس أنها جزء من الحاضر، فيُعمل على ربطها بالحياة اليومية والعملية للمجتمعات العربية المعاصرة. فتغدو بذلك جزءاً من مشهد ثقافي حيّ، لا مجرّد صورة جامدة قابعة في الماضي. فما دوّنه كتّاب الطبقات والسير (أمثال ابن خلّكان والميداني والمحبّي والجبرتي وبديري الحلاّق وسواهم) يفيدنا جداً في الاطلاع على الماضي. كما يفيدنا في مقارنة ماضي مجتمعاتنا بالحاضر. مع ما ينتج ذلك من متابعات للمنحى العام (Trend) للظاهرات الاجتماعية كما عيشت في الماضي، وكما تُعاش اليوم. كمثل مقارنة ردّة فعل الناس على الدخان والتدخين، اعتباراً من القرن السابع عشر، بردّة الفعل على الراديو أو انتشار التلفزيون أو المأكولات السريعة، الغربية المنشأ، اليوم.

- نزع القدسيّة عن أعمال التراث. فأعمال التراث أعمال من صنع البشر وغير مُنزلة. لذلك، فإنّ نقدها متاح وضروري. إذ لا يمكننا أن نتعامل مع التراث بشكل حيّ وفعّال دون انتقاده في ما وصل إليه، بغية استشفاف ما يمكن أن نضيفه عليه من تجارب واختبارات. فهكذا تتقدم العلوم.

- إخضاع أعمال التراث للفحص والتحليل والاختبار، لا مجرّد الاكتفاء بفهرستها وتبويبها والتقديم لها ضمن نظرة تمجيديّة تبترها عن واقعنا المعيش المعاصر. فالمعلومات التي يزخر بها التراث العربي، عن العرب وعن الشعوب التي احتكّوا بها، منجم من المعطيات لم يتم استثماره بعد بالقدر الكافي.

- اعتماد جميع التقنيّات العلمية الحديثة المتاحة. فاللجوء إلى الإحصاء ضروري واعتماد التحليل المعلوماتي متاح أيضا، حيث بإمكان هذه المعالجات أن تكشف لنا أموراً ومعطيات لم تخطر على بالنا للوهلة الأولى، بالاعتماد على تقنية تحليل المضمون (Content Analysis)، على مستوى تركيب البنية الاجتماعية والاقتصادية وموقع الأعيان ودور الخاصة وحياة العامة، داخل المدن وخارجها، وعلى امتداد البلدان التي امتدّت إليها الحضارة العربية في ما مضى.

فالتراث كنز، لكن ما يرضي أعلامه أكثر أن نجعل منه كنزاً حياً، فنعيدهم عند ذاك إلى الحياة، لا إلى الذاكرة فقط.

 

 

فردريك معتوق