السوبر حداثة في مواجهة الحداثة وما بعد الحداثة
السوبر حداثة في مواجهة الحداثة وما بعد الحداثة
نرصد في هذا البحث الصراع بين المذاهب الفلسفية المختلفة ضمن فلسفة العلوم، فنراقب مواقف ما بعد الحداثة ومنافستها لمذهب الحداثة، ونشهد نمو السوبر حداثة ومواجهتها للفلسفات التي سبقتها. ويبقى الجدل حول ما هو المذهب الفلسفي الأصدق الحي, لأن الفلسفة تحيا على صراعاتها. نرى اليوم ولادة مذهب فلسفي جديد هو السوبر حداثة. بالنسبة إلى السوبر حداثة، من غير المحدّد ما هو الكون، وبالرغم من ذلك، فإنه من الممكن معرفته، لأنه من خلال لامحددية الكون من الممكن تفسيره. هكذا تختلف السوبر حداثة عن الحداثة وما بعد الحداثة. تقول الحداثة إن الكون محدّد، ولذا من الممكن معرفته، بينما تعتبر ما بعد الحداثة أن الكون غير محدّد، ولذا من غير الممكن معرفته. لكن السوبر حداثة تختلف عنهما لأنها تؤكد على أنه بالرغم من لامحددية الكون من الممكن معرفته. فلسفة العلوم السؤال الأساسي في فلسفة العلوم هو: لماذا تنجح النظريات العلمية المعاصرة في تفسير الظواهر الطبيعية والتنبؤ بها؟ تختلف المدارس الفلسفية في الإجابة عن هذا السؤال وتتنافس، لكنها تنقسم إلى مذهبين أساسيين هما الحداثة وما بعد الحداثة. يفسّر مذهب الحداثة نجاح النظريات العلمية من خلال صدقها. تقول الحداثة إن النظريات العلمية المعاصرة ناجحة في تفسير الكون لأنها صادقة، أي مطابقة للواقع. فبما أنها نظريات مطابقة للواقع، إذن من الطبيعي أن تكون ناجحة في تفسير ووصف الكون. يعبّر الفيلسوف رتشارد بويد عن الحجة الأساسية لمذهب الحداثة. يقول: التفسير الوحيد لنجاح النظريات العلمية هو أنها صادقة. فلو أنها ليست صادقة بالرغم من نجاحها في تفسير الظواهر الطبيعية لاستلزم ذلك معجزة ما بفضلها تغدو النظريات العلمية ناجحة في تفسير العالم بالرغم من عدم صدقها. فعدم صدق النظريات العلمية يستدعي عدم نجاحها في تفسير الظواهر والتنبؤ بها. لذا نجاح العلم يشير إلى صدق نظرياته، فبفضل صدقها تنجح. فإذا كانت النظريات العلمية ليست صادقة سيكون من المستغرب حينها لماذا تنجح. على هذا الأساس، بالنسبة إلى الحداثة، التفسير الوحيد والأفضل لنجاح النظريات العلمية هو أنها نظريات صادقة (Editors: Richard, Boyd, Philip Gasper, J.D. Trout: The Philosophy of Science1991.The MIT Press). لكن تعترض ما بعد الحداثة على هذا التفسير، وتقدم حججاً عدة ضد موقف الحداثة منها: يرينا تاريخ العلوم أن النظريات العلمية تستبدل بنظريات علمية أخرى. فمثلاً، تم استبدال نظرية نيوتن بنظرية أينشتاين. وبما أن النظريات العلمية تستبدل بنظريات علمية أخرى، إذن النظريات العلمية ليست صادقة ولا تطابق الواقع، وإلا ما كانت لتستبدل بأخرى. كما أن نظرية نيوتن العلمية ناجحة في تفسير العديد من الظواهر الطبيعية لكنها كاذبة كما أكّد العلم المعاصر. وبذلك نجاح النظرية العلمية لا يستلزم صدقها. ولو أن كل نظرية ناجحة هي أيضاً صادقة لكانت نظرية النسبية لأينشتاين ونظرية ميكانيكا الكم صادقتين معاً لنجاحهما. لكنهما تناقضان بعضهما بعضاً، وبذلك يستحيل صدقهما معا وإلا كان الواقع متناقضاً. وهذا محال. من هنا نجاح النظرية العلمية لا يستلزم صدقها. على أساس كل هذا تستنتج ما بعد الحداثة أن النظريات العلمية ليست صادقة ولا كاذبة، بل هي فقط مقبولة من جراء نجاحها. فالنظريات العلمية مجرد أدوات لتفسير الظواهر الطبيعية والتنبؤ بها (Editors: Mcgrew, Allhoff, Alspector-Kelly: Philosophy of Science2009. Wiley, John&Sons. المنهج العلمي الفلاسفة مختلفون حول ماهية المنهج العلمي تماماً كما يختلفون حول مسألة فلسفية أخرى. فمنهم من يعتقد بوجود منهج علمي، ومنهم من يعتقد بعدم وجود منهج علمي. ومنهم من يؤمن بأن المنهج العلمي يستدعي الاختبار، ومنهم من يؤمن بأن المنهج العلمي لا يستلزم اختبار النظريات. نرتحل هنا إلى عوالم فلاسفة المنهج كي نشهد صراعاتهم الدامية. سيطرت الوضعية المنطقية على فلسفة العلوم خلال النصف الأول من القرن العشرين، وشارك في بنائها العديد من الفلاسفة منهم كارناب وشيلك. بالنسبة إلى الوضعية المنطقية، لابد من صياغة كل المعارف بلغة العلم لأن العلوم وحدها تتشكّل من عبارات ذات معان. تقول الوضعية المنطقية إن أية عبارة لها معنى فقط في حال وجود منهج يمكننا من تحديد ما إذا كانت تلك العبارة صادقة أم كاذبة. من هذا المنطلق، تعتبر الوضعية المنطقية أن العلم هو الذي من الممكن تصديقه من خلال الاختبار ومشاهدة العالم، وأن المنهج العلمي يعتمد على تصديق النظريات على ضوء ما نشاهده في الواقع، وكل ما يستحيل البرهنة على صدقه من خلال مشاهداتنا ليس بعلم وبذلك هو مرفوض. على هذا الأساس أيضاً، كل المعارف نتائج استنتاجات حقة نستنتجها من الحقائق المرئية، أي التي نتمكن من رؤيتها. وبذلك الميتافيزياء خالية من أي معنى. هكذا ترفض الوضعية المنطقية فلسفات الميتافيزياء كفلسفة هيجل ولا تقبل إلا بالعلم كحقل معرفي وكمصدر وحيد للمعرفة. لكن بالرغم من هيمنتها على الفلسفة في النصف الأول من القرن العشرين، معظم الفلاسفة اليوم لا يقبلون بها. تتعدد الأسباب وراء ذلك، منها أن الوضعية المنطقية تفشل في التعبير عن علمية العديد من العبارات العلمية كعبارة «كل ما في الكون محكوم بقوانين الطبيعة». هذه العبارة علمية بامتياز، لكن من المستحيل تصديقها اختبارياً «لأننا إذا حاولنا فعل ذلك، لابد أن نراقب كل شيء في الكون ونشاهده، وهذا مستحيل (Oswald Hanfling: Logical Positivism. 1981. Blackwell). كما أنه توجد نظريات علمية عديدة من غير الممكن تكذيبها حاليا أي اختبارها على الرغم من أن العلماء يقبلون بها بقوة. مثل ذلك النظرية التي تقول إنه توجد ثقوب سوداء في الفضاء. من المستحيل اختبار أو محاولة تكذيب هذه النظرية، لأنه لا يمكن مشاهدة الثقوب السوداء كونها سوداء أصلا، وتبتلع أي شيء يقترب منها وتفنيه. هكذا ثمة علوم لا اختبار لها على الرغم من أنها مقبولة علميا، ما يجعل من الخطأ اعتبار أن النظرية العلمية هي التي من الممكن تكذيبها، وأن المنهج العلمي كامن في السعي نحو تكذيب النظريات. رؤى فلسفية لقد رأينا صعوبة إن لم تكن استحالة تصديق وتكذيب النظريات العلمية، ما قد يدعم موقف الفيلسوف بول فيرابند القائل إنه لا يوجد منهج علمي. بالنسبة إلى فيرابند، لا توجد مبادئ أو قوانين منهجية مستخدمة من قبل العلماء بشكل دائم. فلا منهج علمي، يملي على العلماء ما يجب فعله والتفكير فيه، بل كل شيء يمر أي مقبول. وحجته الأساسية على صدق نظريته الفلسفية هي التالية: إذا وجد أي منهج علمي فسوف يحدّد عمل العلماء ويسجنهم في مبادئه ما يؤدي إلى منع نشوء أي تطور علمي جديد. كما يعزز موقفه من خلال أمثلة عدة في تاريخ العلوم - فمثلا، عندما نشأت نظرية كوبرنيكس القائلة إن الأرض والكواكب الأخرى تدور حول الشمس، كانت معارضة لكل مبدأ علمي قائم في زمنها. وإذا تم تطبيق تلك المبادئ العلمية المسيطرة حينها لمنعت الثورة العلمية الجديدة المتمثلة في نظرية كوبرنيكس من الظهور (Paul Feyerabend: Against Method. 3 Edition 1993.Verso). كما ينتقد فيرابند مبدأ التجانس الذي يقول إن النظريات الجديدة لا بد أن تكون منسجمة مع النظريات القديمة. فهذا المبدأ المنهجي يفضّل النظريات العلمية القديمة على النظريات العلمية الجديدة، من دون أي سبب عقلاني. كما يرفض فيرابند أي مبدأ للحكم على النظريات العلمية الجديدة من دون أي سبب عقلاني. كما يرفض فيرابند أي مبدأ للحكم على النظريات العلمية الجديدة من خلال مقارنتها بالحقائق المعروفة. هذا لأن النظريات العلمية القديمة تئوِّل الحقائق بما يناسبها ويدعم مواقفها، وبذلك إذا اعتمدنا على الحقائق المعروفة فسوف نشير بالضرورة إلى صدق النظريات القديمة بدلاً من صدق النظريات العلمية الجديدة. بكلام آخر، النظرية العلمية تحدّد طبيعة الحقائق والظواهر وتئوّلها من منطلق مسلّماتها المسبقة، وبذلك من الخطأ مقارنة النظريات بالحقائق والمشاهدات كون هذه الحقائق والمشاهدات تسلّم مسبقا بصدق نظريات ومسلمات أخرى. على أساس كل هذا يستنتج فيرابند أنه لا يوجد منهج علمي (المرجع السابق). لكن تعرضت نظريته إلى نقد قاتل ألا وهو التالي: نظرية فيرابند لا تميّز بين العلم والأساطير، بل تجعل العلوم متساوية مع الأسطورة. فكما أن الأسطورة لا تعتمد على منهج ومبادئ لصياغتها وتقييمها كذلك أمسى العلم بلا منهج ومبادئ لدى فيرابند. فالمطلوب هو التمييز بين العلم واللاعلم، وهذا ما يرفضه فيرابند بقوة ما يجعل موقفه ضعيفا. أما الفيزيائي لي سمولن فيؤكد على أن الفيزياء المعاصرة وقعت في مشكلة كبرى. فمثلا، يعمل العديد من علماء الفيزياء ضمن نظرية الأوتار وعلى ضوئها. لكن نظرية الأوتار هذه لا تتنبأ بأي شيء جديد وبذلك يستحيل اختبارها، وعلى الرغم من ذلك هي النظرية المقبولة من قبل العديد من الفيزيائيين ما أدى إلى تخبط الفيزياء المعاصرة لقبولها نظرية من غير الممكن تصديقها أوتكذيبها من خلال التجارب العلمية. بالنسبة إلى نظرية الأوتار، يتكوّن الكون من أوتار وأنغامها، ومع اختلاف تذبذب الأوتار تختلف قوى الطبيعة وموادها. والعلماء منقسمون حول قبولها أو رفضها. فمن جهة، تقدّم نظرية الأوتار صورة بسيطة وجميلة عن الكون حيث تتوحّد القوى الطبيعية وجسيماتها كونها ليست سوى أوتار وأنغامها، ومن جه أخرى لا نتمكن من اختبارها (Lee Smolin: The Trouble with Physics.2006. Houghton Mifflin Harcourt). اختبار النظرية بالنسبة إلى سمولن، المنهج العلمي يتضمن بالضرورة إخضاع النظريات للاختبار فالتكذيب أو التصديق. من هنا يرفض سمولن نظرية الأوتار لأنها غير قابلة للاختبار (المرجع السابق). لكن كما أوضح سمولن نفسه يوجدالعديد من العلماء الذين يقبلون نظرية الأوتار، ويعملون على أساسها. وبذلك لا بد من أنهم يعتقدون بصدق نظرية أخرى في المنهج العلمي مختلفة عن نظرية سمولن. أي لا بد من أنهم مقتنعون بأن المنهج العلمي لا يتضمن بالضرورة إخضاع النظريات للاختبار وتكذيبها أو تصديقها، ولذا، هؤلاء العلماء يقبلون نظرية الأوتار ويعملون على ضوئها. هكذا العلماء منقسمون حول ما هو المنهج العلمي. من هنا، من الممكن أن نستنتج بحق أنه من غير المحدد ما هو المنهج العلمي، كما تؤكد السوبر حداثة، فمن غير المحدد ما إذا كان المنهج العلمي يستلزم بالضرورة الاختبار أم لا. وبما أنه من غير المحدد ما هو المنهج العلمي، كما تقول السوبر حداثة، إذن من المتوقع وجود نظريات علمية مختلفة باختلاف المنهج المعتمد، ولذا توجد نظرية كنظرية الأوتار، على الرغم من عدم ارتباطها بالاختبار، وتوجد نظريات أخرى من الممكن اختبارها. هكذا تتمكن السوبر حداثة من تفسير اختلاف النظريات العلمية. ينقسم الفلاسفة إلى مدارس متصارعة. فمنهم من يقول إنه من الممكن البرهنة على صدق النظريات العلمية أو كذبها ،ومنهم من يرفض ذلك. الذين يؤكدون على استحالة البرهنة على صدق أوكذب النظريات يعتمدون على حجج عدة منها أن الأدلة نفسها تشير إلى صدق نظريات مختلفة ما يجعل الأدلة غير مفيدة في تحديد أي نظرية هي الصادقة. ومن حججهم أيضا أن النظرية العلمية تحدد الأدلة، وبذلك لا نستطيع بحق البرهنة على صدق أو كذب النظريات من خلال الأدلة وإلا نكون قد برهنّا على النظريات من خلال النظريات نفسها، وهذا دور مرفوض منطقيا. أما الذين يؤمنون بوجود منهج علمي قادر على البرهنة على النظريات العلمية فينقسمون أيضا حول ماهية منهج العلم. فمثلا بعض منهم يصر على أنه ثمة طريقة واحدة لاستنتاج صدق أو كذب النظريات كالاعتماد على القدرة التفسيرية والتنبؤية للنظرية العلمية بينما آخرون يؤكدون على وجود طرق عديدة للبرهنة على النظريات منها الاعتماد على جمال النظريات العلمية وبساطتها بالإضافة إلى قدراتها التفسيرية والتنبؤية (Editors: Deborah Mayo and Aris Spanos: Error and Inference.2010. Cambridge University Press).
|