هل انتهى زمن الحكاية المسلية في الفيلم العربي؟

هل انتهى زمن الحكاية المسلية في الفيلم العربي؟

بعد ان تخطت السينما العربية سنواتها السبعين، هل يمكن الحديث عن جمالية خاصة بالفيلم العربي كلغة وسرد سينمائيين؟ وهل يمكن القول إن هذا الفيلم استفاد من الموروث الجمالي العربي؟ إن صناعة الفيلم السينمائي، كما نعلم، إنجاز أوربي بالدرجة الأولى، مما جعل (سينمات) أخرى بما فيها السينما العربية، تستمد عناصرها من جماليات الفيلم الأوربي، ابتداء من الحبكة الدرامية وانتهاء بالشكل أو الكادر السينمائي، لكن هذا الأمر، لا يعني عدم محاولة بعض السينمائيين العرب الخروج من إسار الفيلم الأوربي نحو لغة سينمائية عربية تستمد عناصرها السمعية والمرئية من زمانها ومكانها الخاصين رغم صعوبة ذلك في أغلب المحاولات، نتيجة لثقل الموروث السمعي العربي مقارنة بالموروث البصري، ففي البدء كانت الكلمة، أما الصورة فقد تعرضت لتأويلات كثيرة جعلتها تأتي في مرتبة لاحقة.

فقد بدأت السينما صامتة وباللونين الأبيض والأسود مما جعلها تقف أمام امتحان عسير، يتعلق بمدى قدرتها على التأثير في المتلقي، لكن الدهشة الأولى لهذا الفن الجديد ـ نهاية القرن التاسع عشر ـ أنقذته من المحاكمة الجمالية، وما أن نطقت السينما حتى وجدت نفسها في أحضان المسرح باعتمادها الحوار، لكن السينما وعلى مدى أكثر من قرن، استطاعت في بعض نماذجها، التخلص من تأثيرات المسرح والاستفادة من إمكانات الفنون الأخرى وهضمها جيداً، باتجاه فن مستقل هو (الفن السابع) بما يحتويه من مؤثرات بصرية عدة كاللون والتشكيل والتوليف وبناء الكادر وتعدد أنواع العدسات في إيصال رسالة جمالية غير تقليدية لعين المتلقي.

وإذا كان اللونان، الأبيض والأسود، ساعدا السينما في الاستفادة من لعبة الظل والنور كحالة تضادية مستقاة أساساً من الفن التشكيلي، فإن السينما الملونة، وجدت رحابة في التعبير عن هواجس الفيلم كمكان وشخصيات وانفعالات. فاللون بوجه عام، ينقل إحساساً بالمكان أيسر منه في الأبيض والأسود، ويتيح مدى أرحب في إيصال الفكرة وتجسيم الحالة النفسية للشخصية وإبراز الاختلافات بين ملامح معينة لواقع الفيلم.

جماليات الفيلم العربي

في محاولتنا الاقتراب من جماليات خاصة بالفيلم العربي، لابد أن نستبعد مئات الأفلام من القائمة، ونقصد بذلك الأفلام التي اعتمدت على الخطاب الحكائي كمرتكز، دون الاهتمام بالحواس الأخرى واستنفارها، بمعنى أن معظم الأفلام العربية هي حالة سمعية بالدرجة الأولى، تهتم أولا وأخيراً ببناء حكاية مسلية عبر توليفة تقليدية تعتمد الميلودراما في تأجيج الحدث إلى نهايته، وهي نهاية سعيدة على أي حال.

لكن المثير للاهتمام، أن مجموعة من السينمائيين العرب انتبهوا باكراً إلى هذه العلة في السينما العربية وحاولوا الاهتمام بالجانب البصري الموازي للجانب الدرامي في الفيلم عبر فهم دقيق للكادر وأهميته المشهدية في إبراز جماليات خاصة للفيلم، وأبرز هؤلاء في المراحل المبكرة من السينما العربية (يوسف شاهين) و(صلاح أبوسيف)، إذ اهتم شاهين بالتوليف المونتاجي ذي الإيقاع السريع متأثرا بالتيارات السينمائية الأمريكية، فخلص أفلامه من الترهل، مؤكدا على أهمية التقطيع السريع في المونتاج لإبراز الحدث وكان فيلمه (باب الحديد) علامة في تاريخ السينما العربية سواء كقيمة سردية أو كمعمار جمالي، إذ اختار محطة السكة الحديد مكاناً للأحداث عبر نماذج مهمشة في المجتمع، تعيش مأزقها النفسي وانفعالاتها الداخلية بعنف وحرارة.

فيما اهتم (صلاح أبوسيف) بدراسة التفاصيل والاستفادة من الرموز في إيصال أفكاره، وفي استعراض لمعظم أفلامه نرى اهتمامه بالمكان وتفاصيله انطلاقا من الحارة الشعبية التي تشكل أقدم الجماليات العربية في السينما باعتبارها المحور الأساسي لوجود الشخصيات المتنوعة التي تساهم بتشكيل الحدث الواقعي بالدرجة الأولى. يمكننا هنا أن نقارن سينما صلاح أبوسيف بأدب نجيب محفوظ لاهتمامهما بالحارة الشعبية وما تحمله من خصوصية محلية، ثم محاولته تفتيت الإطار العام إلى أجزاء أصغر هي البيوت وما تحتويه من تفاصيل ترمز إلى هوية المكان: (الجدران، الصور المعلقة داخل المنزل، الرسوم على الأبواب والنوافذ، الأقوال المأثورة) وقد يصغر المكان إلى حمام شعبي، كما في فيلم (حمام الملاطيلي)، ثم أصغر ليدور الفيلم كاملا ضمن محيط ضيق مثل (المصعد)، كما في فيلم (بين السماء والأرض) أو يصبح رحباً كما في فيلم (البداية) الذي تدور أحداثه في واحة صحراوية.

لقد حرَّض يوسف شاهين وكذلك صلاح أبوسيف وإلى حد ما توفيق صالح، الأجيال اللاحقة من السينمائيين على تطوير جماليات الفيلم العربي إيقاعيا ودلالياً على أرضية واقعية، فيما جاءت تجربة المخرج (شادي عبدالسلام) في فيلمه الروائي الوحيد (المومياء) أشبه بالتحفة السينمائية المتفردة في إبراز مفهوم جمالي جديد للسينما العربية عبر تشكيل بصري أخاذ، استفاد من الميثيلوجيا الفرعونية وطقوسها في إيصال رسالة بصرية مثقلة بالرموز والدلالات الموحية مما جعل هذا الفيلم مرجعا للاستفادة من جمالياته في التكثيف واستنفار الحواس كاملة لتلقي هذا العالم الثري والمشبع على مساحة الكادر.

ورغم خصوصية هذه التجربة وثرائها فإن سينمائيين قلة استفادوا من هذه الخصوصية في تطوير أدوات السرد الفيلمي وربما كان أبرز هؤلاء المخرج التونسي (الناصر خمير) في فيلمه (الهائمون) الذي حاول فيه الاستفادة من عناصر جمالية موروثة في تكثيف رسالته البصرية كالعمارة العربية والصحراء وكثبان الرمل والحكايات الأسطورية التي تتمثل بنية السرد في (ألف ليلة وليلة) والتي تربط بخيط خفي بين الماضي السعيد في (الأندلس) والحاضر المشتت، وقد استعاد هذا الهم الثقافي مرة أخرى في فيلمه (طوق الحمامة المفقود).

وكذلك المخرج السوري (رياض شيا) في فيلمه (اللجاة) الذي صوره في احدى قرى الجنوب السوري المبنية بكاملها من البازلت الأسود معتمداً على المؤثرات الطبيعية وندرة في الحوار في محاولة لخلق إيحاء وسرد بصريين مختلفين عبر حكاية تتشكل عناصرها باستدعاء الحب المقموع.

تيار جديد

لقد انطلق إذن في السينما العربية الجديدة، مفهوم جمالي مختلف يميز السينما العربية عن غيرها من السينمات العالمية على مستوى الشكل واللغة السينمائية بإبراز عناصر بيئية من جهة والاستفادة من العناصر الأساسية لجوهر الفيلم كصورة ولون وإيقاع ومؤثرات في تعزيز أسلوب جديد يلغي أساليب التفخيم والعاطفية نحو تأملية وعاطفية مختلفة عن الأولى.

يقول المخرج برهان علوية الذي حقق فيلماً مهما هو (كفر قاسم): (إلى الآن كانت الحضارة العربية، الخطابية بالضرورة، تمر بعضو اسمه الأذن، مما يجعل غالبية الأفلام العربية قابلة للفهم حتى وإن أُغلقت العينان، وقد حاولنا نحن، أن نضيف حاسة النظر بشكل منطقي).

ينتمي إلى هذا التيار، المخرج المغربي (حميد بناتي) في فيلم (وشمة) وخيري بشارة في فيلم (الطوق والأسورة) على نحو خاص، ومحمد ملص في فيلمي (أحلام المدينة) و(الليل) بتكويناتهما المدروسة بدقة، وخالد الصديق في فيلمه (بس يا بحر) المنغمس برائحة البيئة المحلية ومشكلات مجتمع ما قبل النفط، وكذلك محمد خان في بعض أفلامه (عودة مواطن) وداود عبدالسيد في (البحث عن سيد مرزوق) ورضوان الكاشف في (ليه يا بنفسج) و(عرق البلح) ويسري نصر الله في (مرسيدس) وسمير ذكري في (تراب الغرباء) وفريد بوغدير في (حلفاوين).

وترى الناقدة السينمائية الأمريكية (اليزابيث مالكوس): (أن هناك لغتين سينمائيتين في السينما العربية، الأولى شفوية، بمعنى اعتمادها على الحكاية المروية بشكل تقليدي، والثانية مرئية، وبين قطبي الحوار والاستعارة البصرية، تحاول السينما العربية أن تجد جمالياتها الخاصة).

كسر السرد التقليدي

هذه النماذج السينمائية، رغم بحثها الجاد عن جمالية عربية إلا أنها تظل قليلة نسبة إلى الكم التراكمي في السينما العربية، لكن هذه المحاولات المتفرقة استطاعت أن تفرز تياراً من المشرق إلى المغرب، قاد السينما العربية حتى النمطية منها إلى تطور واضح في الشكل السينمائي وبنية السرد وخاصة فيما يتعلق بإبراز البيئة المحلية والحساسية الشعبية وجماليات المكان الشرقي والمؤثرات من موسيقى وغناء يلامسان وجدان المتلقي في محاولة لإيقاظ حواسه كاملة.

وما هذه الإضافات ـ كما يقول الناقد إبراهيم العريس ـ سوى (فعل تحرير أساسي تجلى ويتجلى باستمرار عبر مخاطبة العين في لغة بصرية أخاذة، عبر مساءلة تفاصيل التاريخ (الجماعي للأمة والذاتي لأفرادها ومنهم السينمائيون أنفسهم) وعبر الإطلال على الواقع من منظور آخر له إيلام العبقرية ومرارة الإبداع وقسوة السؤال وجمال الانقلاب على الذات الجماعية والفردية).

 

خليل صويلح

 
 




من موسم الرجال لمفيدة التلاتلي





عرق البلح إخراج رضوان الكاشف، جماليات الميثيلوجيا المصرية





لقطة من الفيلم الإسباني فراشات الشتاء





من فيلم الجاة إخراج رياض شيا- سوريا





مشهد من الفيلم اللبناني طيف المدينة





مشهد من فيلم شورت وفانله وكاب يجمع بين أحمد السقا والممثلة اللبنانية نور





علي ربيعة والآخرون- المغرب