الإبداع القصصي عند يوسف إدريس سعاد عبدالوهاب

الإبداع القصصي عند يوسف إدريس

المؤلف: ب. م. كربرشويك
ترجمة: رفعت سلام

على الرغم من أن هذا الكتاب نشر باللغة الإنجليزية منذ اثني عشر عاما (1981م) ولم نطلع عليه مترجماً منشوراً إلا العام الماضي (1993م) فإنه لم يفقد أهميته، وجدته، وكأنما ألف حديثاً جداً.

إن المعلومات التي يحويها الكتاب تتجاوز "قراءة" قصص يوسف إدريس قراءة دقيقة واعية، بعد التسلح بالمنهج النقدي الذي يعين على التحليل والاستنتاج والتذوق، إلى ظروف حياته، وأسس ثقافته، وعقيدته الفكرية والسياسية، وموقعه الاجتماعي، وتطلعاته، وهي أمور يحتاجها الباحث في الأدب القصصي بصفة خاصة، ولكن، ليس لكي يفسرّ بها التجارب القصصية (على الأقل من الناحية الموضوعية) وإن كان هذا الأمر له أهميته أيضاً، وإنما لكي نكتشف الصلة الإيجابية أو السلبية بين ما يعيشه هذا الأديب (أو أي أديب) وما يتحول من حياته العملية، المعيشة، إلى فن، وندرك أيضا مدى التغيير أو الاختلاف بين الواقع المباشر، والواقع الفني، وكيف اكتسب هذا الأخير شكله، وسماته، وموضوعيته التي يستقل بها، حتى عن صاحبه.

إن معلومات المؤلف - كربرشويك - تتجاوز هاتين الدائرتين (قراءة ما صنع إدريس من قصص، والتعرف على تفصيلات حياته الثقافية العامة) إلى الدائرة الأوسع، وهي المعرفة بنشأة فن القصة العربية (القصيرة بصفة خاصة) منذ بدايتها على أيدي مؤسسي جماعة الفجر: أحمد خيري سعيد، ومحمود طاهر لاشين، واستمرارها وتطورها على يد محمود تيمور (وأخيه محمد تيمور الذي سبقه إلى الإبداع ولكن الموت عاجله في شرخ شبابه) والأخوين: عيسى عبيد، وشحاته عبيد. وهكذا استطاع كربرشويك بهذه الدراية الواسعة أن يضع فن يوسف إدريس القصصي في موقعه (من الذروة لأنه شديد الإعجاب بكثير مما كتب أديبنا وإن لم ينج من لومه أحيانا) بل أن يجعله الصورة المتجاوزة - وليس المتطورة فقط - في سياق ظاهرة القصة القصيرة العربية، في مختلف الأقطار.

واسطة العقد

وكما يمكن أن ترجع أهمية هذا الكتاب: "الإبداع القصصي عند يوسف إدريس" إلى "حجم المعرفة" و "دقة التحليل" عند مؤلفه، فإنها ترجع أيضاً، وربما أولاً، إلى الموضوع نفسه، فيوسف إدريس ليس "حبة" في عقد القصة القصيرة العربية، إنه واسطة العقد، إن صح التشبيه. وهو يختلف عن نجيب محفوظ الذي وجه موهبته، أو توجهت موهبته إلى الرواية، في حين أن روايات يوسف إدريس، لم تحقق التفوق الفني الذي شقت قصصه القصيرة طريقها إليه منذ تجاربه الأولى. لقد نشر أول قصة له، وهي بعنوان "أنشودة الغرباء" في مارس 1950 م ولم يتجاوز نتاجه في تلك السنة ذاتها خمس قصص (انظر الببليوجرافيا الشاملة الملحقة بالكتاب، وهي وحدها دليل حاسم على ما بذل في دراسته من جهد علمي منظم) ولزم الصمت في العام التالي، إذ اعتقل لأسباب سياسية، ثم عاود الكتابة بعد ثورة 1952م، فكانت قصة "5 ساعات" - التي نشرت بمجلة التحرير (أكتوبر 1952م) أول مساهمة له في ظل الوضع الجديد، وكان موضوع القصة يندد بالماضي القريب، إذ تصور مصرع الضابط عبدالقادر طه على يد زبانية الملك فاروق، وكان هذا الضابط "يسارياً"، كما كان يوسف إدريس. في عام 1954م ظهرت مجموعة الكاتب الأولى: "أرخص ليالي" التي لفتت الأنظار، وأخذ بها يوسف إدريس مكانته العالية مبكرا، ولم يتهاون في الدفاع عن فنه، بحيث يؤكد للمعجبين به، المعارضين لبعض صنيعه، أنه يعرف ما يعمل، ويصر عليه. فقد لامه الدكتور طه حسين على عنوان المجموعة، وأنه ينبغي أن يكون حسب ما تملي قواعد النحو: "أرخص ليال" ولكن إدريس رفض هذا المنحى في التعبير، وقال إنه ملتزم بقواعد الحياة، وهي عنده مقدمة على قواعد النحو!!.

على أن رأي يوسف إدريس في نجيب محفوظ مهم جداً، والأهمية هنا مزدوجة، فنحن نعرف رأي كاتب كبير في كاتب كبير آخر، بالمعنى الفني وليس الأخلاقي أو العملي، منافس له، يهدد مكانته بشكل أو بآخر، ومن ناحية ثانية نزداد معرفة بفوارق الصنعة الدقيقة بين مبدع متفوق، ومبدع آخر مثله، تلك الفوارق التي قد يجد النقد صعوبة في الاهتداء إليها. يرى يوسف إدريس أن نجيب محفوظ ليس من أصحاب الرؤية الموهوبين، إنه صاحب مجهود بدني يضعه بين الحرفيين، وهذا الوصف القاسي جاء تعليقا على ثلاثية نجيب محفوظ المتميزة، التي اعتبرت ركيزة إبداعاته، واستحقاقه لجائزة نوبل في الآداب فيما بعد، لم يكن التعليق بمناسبة الجائزة، وإلا لطاردته تهمة الضغينة، لقد قاله عام 1959 م (انظر ص 75 من الكتاب) وفيه يصف نجيب محفوظ، أو فنه، بأنه بلغ القمة ولكنه "يتحمل هذه المشاق ليصف الأحداث تفصيلياً، ويقدم وصفاً دقيق التفصيل للشخصيات والأشياء، إلى حد أن يغامر بإفساد قيمة العمل. إن الفن قائم على الاختيار، لا على التسجيل، وقيمة العمل الفني تستمد من التأثير الذي يمارسه على القارئ، لا من دقة وصفه وتسجيله". وهنا لنا ملاحظتان، إذ إن كربرشويك أورد هذا الاقتباس دون تعليق تقريباً - وقد أشرنا إلى موقعه في الكتاب - فإنه يتضمن قدراً من التناقض أولاً، ويستند إلى اعتزاز يوسف إدريس بمجال تفوقه - وهو القصة القصيرة - في مقابل تفوق نجيب محفوظ في الرواية، ثانيا. أما التناقض فيبدو في تجريده للدقة والتفصيل والتسجيل من عنصر التأثير على القارئ، فهذه الأمور: الدقة والتفصيل والتسجيل، ليست محايدة تماماً، إنها "وجهة نظر"، حتى الكاميرا في يد المصور ليست محايدة تماماً، إنها تلتقط ما يشاء لها حاملها، لكي تمارس تأثيراً معيناً على من يشاهد الصورة. وليس يصح أن يقال بصدد التعليق على أسلوب نجيب محفوظ: إن الفن قائم على الاختيار، لسبب واضح تماما، وهو أن نجيب محفوظ صاحب مقدرة على "تصميم" العمل، وانتقاء مفرداته، فهذا الاختيار الحاذق هو موهبته الأولى في تركيب، أو تشكيل رواياته.

مؤشرات النشاط التأليفي

أما اعتزاز يوسف إدريس بالقصة القصيرة فإن مؤشرات نشاطه التأليفي تدل عليه: عشر مجموعات قصص قصيرة: أرخص ليالي - جمهورية فرحات - البطل - أليس كذلك - حادثة شرف - آخر الدنيا - العسكري الأسود - لغة الآي آي - النداهة - بيت من لحم. وخمس روايات: قصة حب - الحرام - العيب - رجال وثيران - البيضاء. وست مسرحيات: ملك القطن - اللحظة الحرجة - الفرافير - المهزلة الأرضية - المخططين - الجنس الثالث.

بصرف النظر أولاً عن الأعمال التي حولها هو من الشكل القصصي إلى المسرحي (كما في جمهورية فرحات) أو اعتبرت قصة طويلة، فغادرت مدى القصة القصيرة، ولم تدخل في نطاق الرواية (مثل: قصة حب) بل بصرف النظر عن الأهمية التي يمكن أن يضيفها الجانب الكمي على الشعور بقوة الكاتب أو اتجاه اهتمامه، فإن يوسف إدريس حين توقف عن كتابة القصص القصيرة (قبل خمسة عشر عاماً من رحيله تقريباً) انتقل إلى كتابة المقالة الصحفية، إذ رأى أنه في عالم عبثي مشوش لم تعد القصة فيه قادرة على توصيل رسالته إلى القارئ، فاتجه عمدا إلى فن المقالة الصحفية، مقتنعا بأنه الاستجابة الملائمة للمرحلة. وهنا نتذكر ما كتبه الدكتور شكري عياد عن القصة القصيرة في مصر، إذ يرى أنها - وهذا يصدق على القصة القصيرة العربية عامة - تنبثق من فن المقالة، وأن المقالة القصصية كانت، ولا تزال تعيش بيننا، مما يعني - فيما يتعلق بفن يوسف إدريس - أن انتقاله من القصة القصيرة إلى المقالة (القصصية) الصحفية، هو حركة في داخل المجال، لم تبعده كثيراً عن بدايته.

إن يوسف إدريس حين يصف أكثر الأشكال الأدبية إيجازا - القصة القصيرة - يشبهها بالقنبلة الذرية، في صغرها وفاعليتها، ومع ذلك - كما يقول: "فهذه القنبلة يمكن - فقط - تصنيعها على أيدي أناس ذوي موهبة خاصة". ويستمر أو يتسع هذا الإحساس بتميز الشكل، إلى الإحساس بأهمية الأديب المبدع، فدوره في المجتمع أساسي، والتزامه الحق - كما يراه - بتغيير عقلية الناس، حتى إنه يطلق عليه "نبي عصرنا" (ص 72، 73) فإذا كان هذا مدى إيمان إدريس برسالة الأدب، ومكانة الأديب، وإذا كان إلى هذا المدى انحيازه للقصة القصيرة، فإنه من واجبنا أن نتمعن في جوانبها، كما أبدعها، عبر كتاب: ب. م. كربرشويك عن يوسف إدريس وإبداعه القصصي، وقد عبر إدريس عن إيمانه بأن جوهر صنيعه في القصة المصرية القصيرة أن يحررها من أي تأثير ثقافي غربي، ولهذا فقد تمرد عامداً على وصف قصصه بأنها ذات طبيعة تشيكوفية، أو أنه "تشيكوف" العرب، فقد وجه اهتمامه إلى خصوصية التعبير، واهتم كذلك بالتطور النفسي للشخصيات وخلصها من تلك السكونية "التشيكوفية" التي نجدها في قصصه الأولى مثل: "مارش الغروب"، وهي تختلف عن قصة مثل "أبوالهول" أو مثل: "ليلة صيف" التي صورت التحولات الداخلية في الشخصية أو الشخصيات. (ص 152، 153) وفي رأي يوسف إدريس أن القصة القصيرة تكتسب مصريتها من صياغتها وكأنها "نكتة"، وهي الفن الذي أولع به المصريون، وقد لاحظ يوسف إدريس أن شعبية النكتة - فيما يرى - ترجع إلى ميل مواطنيه إلى الإيجاز فالنكتة مختصرة، مركزة، ومعبرة دائما، وعندما يتم إطلاقها تثير ضجة كبرى في المجتمع. "إن النكتة قصة بالغة القصر، ولكنها أيضاً قصة مفعمة بالحيوية، وخاطفة. فالشعب (المصري) ينتابه الملل بسرعة، ويحب أن تكون الأشياء حلوة وموجزة، فأعتقد أنه من الطبيعي - بالنسبة لي - أن أكتب قصصا قصيرة" (ص 145). وهنا، قبل أن نعود إلى محتوى الكتاب الذي نحن بصدد تقديمه إلى القارئ، يمكن أن نستخلص أركان التص ور الخاص للقصة القصيرة عند يوسف إدريس، إنها أولاً نوع من الكشف، الذي ينبغي أن يحدث أثراً قوياً "تحولاً" في رؤية القراء، وهي ثانياً شديدة التركيز والحلاوة، ومع عمومية هذا الوصف (الحلاوة) فإنه لن يخرج عن السلاسة، والواقعية التلقائية، والاهتمام بالتشويق، وأخيراً فإنها تكون بلغة الحياة، وليس بلغة قواعد النحو. وهذه أسباب "مصرية" قصص هذا الكاتب، ولعلها كذلك بالفعل كما تصورها، لكنها تضع الكاتب القصصي خارج ممر أمام اختبار صعب، لأنها توجب عليه أن يكتشف لنفسه الشكل والأسلوب واللغة التي تكون قصصه بها صحيحة الانتماء إلى موطنها، كما هي ملك حقيقي لكاتبها !!. يتكون الكتاب من أربعة فصول، وببليوجرافيا شاملة لكل ما كتب يوسف إدريس من قصص، وما كتب من مقالات، وما أجري معه من مقابلات. كما أشارت قائمة المراجع إلى كل ما كتب عنه، مما يتصل بموضوع الدراسة، وبذلك اكتملت 326 صفحة مزدحمة بالمعلومات والآراء ونقض الآراء.

اعتبر الفصل الأول مقدمة هدفت إلى رسم الإطار العام للفن القصصي في مصر، قبل يوسف إدريس، وأهم القضايا المثارة حوله. ويمكن حصر هذه القضايا في أمرين هما الأكثر أهمية: إذا كانت القصة القصيرة شكلا مستورداً عن طريق تشيكوف (الروسي) أو موباسان (الفرنسي) فكيف نعطيها لونها المحلي الذي يجعل قصتنا نحن المعبرّة عنا؟ وما اللغة المناسبة لكتابة القصة؟ هل هي العامية أو الفصحى؟ إن مؤلف الكتاب - وليس يوسف إدريس - أعطى القضية الثانية اهتماماً أكبر، وراح يبحث في جذورها ومواقف الكتاب والنقاد والمفكرين منها، منذ بزوغ فن القصة القصيرة، وحتى يوسف إدريس، ورصده يتسم بالتدقيق الشديد، الذي يكشف عن أمرين لا نعتقد أنهما كانا واضحين: أولهما محاولة تجنب عدد من الأدباء والنقاد لإثارة موضوع اللغة، حتى لا يصطدم بالعامل الفوقي، الذي يربط بين اللغة العربية الفصيحة، والدعوة القومية، باعتبارها اللغة الواحدة التي تجمع أمة العرب. والثاني أن المفكر التقدمي - كما ينعته المؤلف - الأستاذ سلامة موسى المعروف بحماسته للعامية وتحامله الشديد على العربية الفصيحة، قد تراجع - في مرحلة متأخرة من حياته - عن حماسته، وتحامله، وإن لم يتراجع عن اعتبار العربية الفصيحة ذات وقع غريب "ولكننا يمكن أن نقدم هذه التضحية من أجل توحيد الشعب العربي.. فهذه الحكومة (الموحدة) تستدعي التضحية باللهجات، وبجانب من التراث الشعبي المحلي" (ص 162 وانظر المرجع في الهامش الخاص). لعل المؤلف في تقديمه الاهتمام باللهجة على عنايته برصد ملامح "المصرية" كان ينطلق من اعتبار اللهجة - في ذاتها - أهم علامات التميز المكاني للقصة القصيرة. على أنه ادخر الاهتمام بالملامح المصرية إلى حين الحديث عن فن تشكيل القصة عند إدريس، فكأن كربرشويك غير مقتنع - بما فيه الكفاية - برسوخ هذه الملامح أو تميزها قبل يوسف إدريس، وهو ما لا نوافقه عليه، فلا شك أن محمود تيمور، ومن بعده يحيى حقي قد وضعا الزوايا الأساسية في هذا الاتجاه، وأن يوسف إدريس لم يبدأ من فراغ، ولم يكن يقدم اختراعاً غير مسبوق، لقد كانت " ;المصرية" شعاراً أدبياً قومياً معلناً عند أدباء أعقاب ثورة 1919، مع التوقف عن الحكم على مدى توفيقهم "الفني" في تنفيذ هذا الشعار على المستوى القصصي. ويأتي الفصل الثاني تحت عنوان "سيرة حياة"، وهذا الفصل ليس وصفا للمولد، والنشأة، والثقافة وغير ذلك، مما نعهد في الدراسات التقليدية، لقد غطى هذه الجوانب بتركيز واضح، ليفرغ للمساحة المتفاعلة بين الحياة الشخصية، والحياة الأدبية: كيف أثّر المعتقد السياسي (إذ كان يوسف إدريس وهو طالب بالطب ضمن حزب حدتو الماركسي السري، واعتقل بهذه الصفة ثم أفرج عنه) في فكره، ثم كيف تنفس عمليا في قصصه؟! وأيضاً إلى أي مدى أثرت دراسة الطب في فن يوسف إدريس القصصي؟ ويرى المؤلف أنه مدين بالكثير، كإنسان وكاتب للطب، "وأية نظرة عابرة إلى الكثير من أعماله الأدبية تكشف إلى أي مدى هو مدين لمهنته فيما يتعلق بموضوع البحث، فعالم الأطباء والمرضى والمستشفيات والأمراض يبرز بشكل واضح في العديد من قصصه" (ص 51) وفي أماكن مختلفة من هذا الكتاب يشير المؤلف إلى إفادة إدريس من قوانين العلم عامة، ومن خبرته الطبية بصفة خاصة، حين يحلل قصصه، مثل القصص: على أسيوط - الأورطي - العملية الكبرى - شيخوخة بلا جنون - أبوالهول - خمس ساعات، وهذه القصص تختلف في موضوعاتها، كما تختلف في أساليب أدائها، حسب المرحلة التي كتبت فيها، وقدرة الكاتب على تطوير طريقته أو أسلوبه، لكنها ترتكز دائما على خبرته الخاصة المستمدة من دراسة الطب.

مرحلة الواقعية

أما الفصل الثالث فهو عن المرحلة الواقعية، وأهم الملامح الفكرية، في مقدمتها الاهتمام الجارف بالسياسة، ووضوح موقفه المعارض للغرب بكل ما يمثله، وما يقابل هذا من اهتمام واضح بعالم القرية، والدعوة بلا كلل للأفكار الاشتراكية، وما يتعلق بها من انضواء تحت لواء عبدالناصر، وتجسيد آمال الشعب فيه، لقد استلزم هذا أن يهتم بالإنسان العادي - كنموذج - وأن يهتم أيضاً بأن يكون شكل القصة القصيرة مقارباً لشكل الحكاية الشعبية، بحيث كان يتقمص هو أسلوب الرواة الشعبيين (ص 117) فإذا امتد الاهتمام إلى "المدينة" فإنها تظهر في علاقة "مواجهة" مع القرية، وتكون المدينة هي ذلك الوحش الخرافي "النداهة" (ص 128) الذي يلتقم أهل القرى ويبعثر أحلامهم. مع هذا لم تكن نظرته إلى القرية تمجيدية، تسبغ عليها المكارم والقدرات، إنها تبدو جامدة، مهزومة، غير قادرة على التعامل مع العصر، لكنها، مع هذا، ضحية المدينة، كما أنها ضحية عدم المرونة من أهلها. وينقسم الفصل الرابع، تحت عنوان: "المرحلة الأخيرة" إلى قسمين أو جزأين: الأول بعنوان: "الرسالة" ويعني تحديد الأهداف أو المضامين التي اهتم بها يوسف إدريس، وشغلته في قصصه. أما الجزء الثاني فعن "الموضوع والتكنيك"، ومن المتوقع أن يكون أهم أجزاء الدراسة باعتباره أقرب إلى البحث في جماليات الشكل، أو مكوّنات الشكل بصفة عامة.

عن "الرسالة" يتقدم الاهتمام بالواقع، ذلك الاهتمام الذي لا يداري العيوب ولا يجملها، وكأنه يعيد عبارة محمود تيمور، داعية الواقعية الأول، الذي كان يردد ما سبق إليه "زولا" فيلسوف الطبيعة الفرنسية وأديبها: "نظفوا بيوتكم، وسأنظف قلمي بعد ذلك". غير أن الباحث يلاحظ (ص 181) أنه منذ أوائل الستينيات بدأ التصوير الواقعي يتراجع، وتتراجع معه بساطة التركيب الفني للقصة، لتظهر نمطا أكثر تعقيداً، وتدريجياً - كما يقول كربرشويك - أصبحت المواقف والشخصيات أكثر عمومية وشمولية، إلى أن قارب نثره تجريد الشعر المطلق. وكذلك تأكد الحرص على الغرابة، كما في قصص: "الشيخ شيخة" و "طبلية من السماء" و "شيخوخة بلا جنون"، كما كان الحرص على الأخلاق الاجتماعية في صميم هذه الرسالة التي تبناها إدريس في قصصه، منذ بدايته، وحتى آخر ما كتب، وقد ظهر هذا النزوع إلى الأخلاق الاجتماعية بقوة في قصص مثل: "على أسيوط " و "أحمد المجلس البلدي" و "صاحب مصر" ففي هذه القصص الثلاث يظهر المتشردون الذين يتسمون بالمرح والحساسية المرهفة رغم فقرهم، وينبذون نعم الحضارة الحديثة، ففي القصة الأولى يظهر الأعرج الصعيدي في ردهات مستشفى قصر العيني تتقاذفه عيادات الباطنة، العظام، والأعصاب، والجراحة.. لمدة أسبوع دون أن يحصل على العلاج اللازم، لكنه أبداً لا يفقد قدرته على مواجهة هذا التشرد داخل المبنى الضخم، ويتمنى على الطبيب ألا يحوله إلى عيادة أخرى. وليته يحوله "على أسيوط" بلده!! وفي القصة الثانية أعرج ريفي آخر، لم يشعر أبداً بأن عاهته تقعده عن فعل شيء، فكان خدوماً متسامحاً، للجميع، فلما ركب ساقاً صناعية بدأ سلوكه يتعثر، فإنه يلبس لها حذاءً وجورباً خاصاً، ويمشي بحذر، ويترفع على الآخرين، فقد مرحه وتسامحه وأصبح متجهماً حاداً، غير أنه في لحظة سخط على ما أصابه من تحول، تخلص من ساقه الصناعية، فعاد إليه مرحه، حتى قال وهو يضحك: "في داهية، دا.. دا.. دا.. كأن الواحد كانت رجله مقطوعة" !! أما "صاحب مصر" فهو رجل مغرم بتقديم الخدمة للآخرين حيث لا يتوقعونها، وهكذا، فتح مقهى في منطقة نائية، على طريق مهجور، فأحسن خدمة العابرين، حتى أحبه الناس واشتهر أمره، فطمع في الموقع طامعون آخرون، ما لبثوا أن انتشروا بالمقاهي والغرز حتى أفسدوا جمال المكان ونظامه، فما كان من الرجل إلا أن رحل، يبحث عن مكان جديد يستحق خدماته!! وتؤكد "لغة الآي آي" هذه النزعة إلى الأخلاق الاجتماعية أيضاً، إذ يلتقي الطبيب المشهور الناجح اجتماعيا، بزميله القديم في مدرسة القرية، وهو الآن فلاح جاهل مصاب بمرض خطير، وقد كان هذا الفلاح - في طفولته - أكثر جدا وذكاء من الطبيب المشهور. على ضوء اللقاء غير المرتقب يكتشف الطبيب أن حياته هو المعزولة الخاوية من الحب والتفاعل هي التي فشلت، وأن زميله القديم الذي يصرخ من الألم "آي.. آي" هو الذي أدى شرط الحياة ومارسها كما يجب أن تمارس. وهكذا يتمرد الطبيب على حياته الباردة المحبطة، ويحمل زميله القديم المريض على كتفه، لا يبالي، ويذهب به إلى المستشفى!!.

رسالة يوسف إدريس

ويتناول المؤلف زوايا أخرى من رسالة يوسف إدريس بنفس الطريقة التحليلية الهادئة، التي تعتمد على إعادة تصنيف النصوص في مجاميع أو محاور، تجمع بينها وحدة الاهتمام، أو المضمون، مثل توظيف الجنس ( كما في قصة: حالة تلبس، وقصة: النداهة) والسياسة (كما في القصص: العملية الكبرى، والخدعة، والرحلة). وفيما يتعلق بالتشكيل الفني لعناصر القصة، أو التكنيك، فإن التركيز سمة أساسية في القصص جميعاً تقريباً، لدرجة أنه قيل إن قصص يوسف إدريس لا تحتمل حذف حرف جر منها. وكما سبقت الإشارة فقد كان حريصاً على التحرر من آثار تشيكوف كما كان حريصا أيضا على الخلاص من الآثار الأخيرة للنكتة، وهكذا اجتمعت الشاعرية مع الجدة، والعنف، كما في قصة "العصفور والسلك" فقد كان العصفور يقف على أحد أسلاك التليفون، كان سعيداً يرفرف، ويلعب، لا شيء يحدث في الظاهر، في حين كان السلك يحمل مكالمات، هي عوالم وأكوان، من استغاثات، وصفقات، ومؤامرات.. إلخ. وفي قصة "حالة تلبس" يستخدم أسلوب التداعي، أو تيار الشعور بتوسع وإتقان معاً، فعميد الكلية يشاهد من نافذة مكتبه طالبة منزوية تدخن سيجارة!! وإذ يضمر ضرورة معاقبتها فإنه يستمر في المراقبة، ويرى حالة التلذذ النادرة التي تعيشها الفتاة مع سيجارتها، فتوقظ في نفسه حساً مشابهاً، وتتداعى أفكاره، فيتذكر كيف كان داعية للتحرر، وحق كل إنسان أن يفعل ما يشاء ما دام لا يلحق أذى بالآخر، حين كان شابا، وكيف انقلب الآن إلى عكس ما كان، وهكذا يتراجع.. بعد أن أزالت اللذة ذات الطابع الجنسي الكبت والعقد المتأصلة فيه كرجل.. صعيدي.. وعميد، إنه إنسان أيضاً، وكانت له آمال واسعة.

هناك قصص معينة أشار إليها المؤلف، كنماذج متميزة، فريدة، تستحق منا عناية أكبر لولا ضيق المساحة، مثل قصة "مارش الغروب" وقصة "نظرة"، وقصة "العملية الكبرى". الأولى عن بائع العرقسوس في يوم خريفي بارد، لا يجد من يشتري منه، وتتجسد آلامه في أنغام "الصاجات" التي يعلن بها عن بضاعته، والثانية عن خادم طفلة تحمل عددا من "الصواني" فوق رأسها، وتعبر شارعاً مزدحماً بالمشاة والسيارات، بتركيز شديد على حملها، ولكنها لا تملك - لأنها طفلة - أن ترسل نظرة إلى أطفال يلعبون الكرة على ناصية الشارع، قبل أن تغيب في دوامة الحارة، والثالثة ذات هدف سياسي إذ تصور مغامرة طبيب مشهور بإجراء جراحة كبرى دون استعداد، لثقته الزائدة في مقدرته، فتكون النتيجة موت المريض، وهذا الحدث الرمزي يوازي مما جرى في حرب الأيام الستة (عام 1967 م).

بقيت ثلاث ملاحظات سريعة نختم بها هذا التعريف، الأولى أن يوسف إدريس لم يكن معجبا بهذه الدراسة، فقد أزعجه أن الناقد يقوم بتشريح القصص واجتزاء قطع للتدليل على بعض الخصائص التي يستخلصها. إن يوسف إدريس، الطبيب، الذي يعرف بالعلم والتجربة أن تشريح الجسد هو السبيل الوحيد لمعرفة أسرار تركيبه، يستنكر تشريح القصة، ويريد أن تناقش بكاملها وإجمالها!! الثانية أنه - يوسف إدريس، كما نراه - يجمع بين الخبرة العملية، والوعي النظري، فمما اقتبس مؤلف الكتاب من أقواله قوله: "إن العمل الفني حتى يستحق اسمه يجب أن يتحرر أولا من الأفكار الرجعية التي تعوق تقدم الوطن، بالإضافة إلى ذلك يجب ألا يكون ملطخاً بالتأثير الأجنبي والتقليد الأعمى للكلاسيكيات الغربية، يجب أن يقدم تعبيراً نزيهاً عن مشاعرنا، ويفضح بشجاعة عيوبنا". الثالثة أنه التزم بمجتمعه، كما لزم وطنه لم يبارحه، ولم يوافق مطلقاً على هجرة المفكرين إلى خارج مصر حين اختلفوا مع سياستها أو ساستها، وقال كلمة جميلة نقية تصلح ختاماً لهذا العرض، وتحية ليوسف إدريس، حين قال معللاً رفضه مغادرة وطنه إلى مكان آخر تحت أي سبب: "لو أن العقاد أقام في الجزائر، وطه حسين في الكويت، والمازني في قطر، وشوقي في السعودية، إذن لما تحققت النهضة المصرية"!!.

 

سعاد عبدالوهاب

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




يوسف إدريس





غلاف الكتاب





نجيب محفوظ