حكايات طبية أطباء.. وسماعاتهم المدهشة غسان حتاحت

     عندما ابتدع الطبيب لاينك السماعة الطبية كان السبب الرئيسي وراء ذلك هو رغبته في تفادي الحرج من وضع أذنه (وبالتالي رأسه) على صدر مريضة شابة كانت مصابة بالسل.

ولا شك في أن استعمال السماعة الطبية يفيد- إضافة لذلك- في تجنب العدوى، كما أنه يريح الطبيب الذي كان يضطر عند الإصغاء إلى الصدر أو القلب إلى اتخاذ وضعيات متعددة لا ريب في أنها غير مريحة إن لم نقل متعبة.

على أن ثمة أمورا كثيرة لم تخطر بالتأكيد على بال لاينك عندما ابتدع سماعته، منها أن هذه السماعة سوف تغدو مع الأيام الأداة الأكثر استعمالا من قبل الأطباء، بل إنها سوف تصبح رمزا يدل على الطبيب.

السماعة.. ومهن أخرى

كذلك لم يدر بخلده، أن سماعته هذه سوف تستخدم فيما بعد من قبل لصوص الخزائن ذات الأقفال المرقمة، إذ تساعدهم على معرفة الأرقام السرية التي تفتح بها هذه الخزائن.

ولا شك في أنه لم يتبادر إلى ذهنه أيضا أن مصلحي السيارات سوف يستخدمون تقنيته بطريقة بدائية، بأن يضعوا أداة ما كالمفك مثلا على جزء من محرك السيارة ويصغوا إلى صوت المحرك ثم يصلوا استنادا إلى ذلك إلى تشخيص العلة.

ولقد أدهشني أبو عصام (مصلح السيارات الذي أصلح سيارتي لديه) عندما وضع مرة مفكا على محرك السيارة وأصغى إلى صوته وكأنه طبيب يصغي إلى أصوات القلب، ثم أعلن تشخيصه فيما بعد، وغني عن البيان أن ذلك التشخيص كان مكلفا جدا، وخاطئا. وكنت أود أن أشير عليه باستعمال سماعة طبية بدلا من أداته البدائية تلك لولا أنني شعرت بالرأفة لمراجعيه من أصحاب السيارات، فكلفة التصليح غالية كما هي عليه الآن فكيف بها إذا استعمل سماعة طبية؟!..

على أن من المؤكد أنه لم يخطر على بال لاينك أبدا أن استعمال سماعته سيرقى على يد بعض الأطباء إلى مستوى الفن الرفيع.

تجارب ومفارقات

أحد هؤلاء كان يدرسنا أمراض الجهاز التنفسي، فكان يجلب مريضا إلى قاعة الدرس، ثم يقوم بفحصه، فيضع سماعته على صدر المريض من الأمام ومن الخلف ومن الجانبين وفي أعلى الناحية الإبطية ثم يصف لنا ما سمع، ففي قمة الرئة مثلا سمع نفخة كهفية تغدو خزفية على بعد سنتيمتر واحد إلى اليمين، وفوق ذلك بسنتيمترين تسمع نفخة أنبوبية مترافقة مع خراخر فرقعية (هذه كلها مصطلحات طبية).

وترى الطلاب مأخوذين ببراعة هذا الأستاذ وأعينهم مشدودة إليه خلا طالبا أو اثنين من الكسالى وآخر يغط في نومه في مؤخرة الصف.

ويأخذ الأستاذ في شرح حالة المريض بإبداع يخلب الألباب، مستندا في ذلك إلى ما سمعه بالإصغاء إلى الصدر.

ثم يلتفت بعد ذلك التفاتة ملكية (لست أدري ما هي الالتفاتة الملكية، ولكنها أيا تكن فلن تكون مغايرة لالتفاتة أستاذنا ذاك) إلى الطبيب المقيم ويسأله مستفسرا: هل أجريتم صورة شعاعية لصدر المريض؟ ويجيب المقيم: أعتقد ذلك.

ويخرج من قاعة الدرس ليعود بعد دقائق، وقد جلب معه صورة شعاعية، يضعها الأستاذ على اللوحة المضاءة الخاصة بقراءة الصور الشعاعية. وننظر معه إلى الصورة فإذا كل ما ذكر الأستاذ أنه سمعه بالإصغاء ينطبق على ما نراه في الصورة حذوك النعل بالنعل.

ففي قمة الرئة حيث سمع الأستاذ النفخة الكهفية يوجد كهف سلي، وإلى جانبه حيث النفخة الأنبوبية ارتشاح واضح يغدو أقل وضوحا مكان الخراخر الفرقعية. وكل ذلك كما حدده لنا الأستاذ بالسنتيمتر الواحد (علما بأن قطر طبلة السماعة يزيد على ثلاثة سنتيمترات).

وهنا تكون النشوة قد بلغت بالطلاب ذروتها، بمن فيهم الطلاب الكسالى ومن كان يغط في نومه، وترى الجميع سكارى وما هم بسكارى، ولكنها نشوة العلم التي تفوق نشوة الكأس.

ويبتسم الأستاذ من عل بتواضع المغتر بنفسه بينما الطلاب معجبون مشدوهون مأخوذون.

وتمر الأيام وأصبح طبيبا مقيما عليه أن يهيء المرضى لهذا الأستاذ، فكنت أبحث عن المريض الذي لديه "موجودات إصغائية " ثم أجري له صورة شعاعية، وكانت هذه الصورة ضرورة لازمة لابد منها. ويوم الدرس كان الأستاذ يأتي مبكرا، فأسأله: هل تريد أن ترى المريض وتفحصه؟. فيقول لي: لا، ولكن أرني الصورة الشعاعية. وأريه الصورة فيدرسها بعناية وتركيز.

وبعد ذلك كان يبدأ الدرس كما وصفته سابقا، ثم بعد أن يذكر ما سمع بالإصغاء (وهي أصوات لم أكن قد سمعت إلا جزءا يسيرا منها) كان يلتفت نحوي ويسألني وكأنه لا يعلم: هل أجريتم للمريض صورة شعاعية؟، وأجيبه كالعادة: أعتقد ذلك. وأخرج من قاعة الدرس وأعود حاملا الصورة التي سوف تحمل بالتأكيد النشوة لطلاب الطب فيغدون وكأن على رءوسهم الطير.

وتمر الأيام وأذهب للاختصاص في بلد آخر فإذا بهم هناك لا يعيرون تلك الأصوات أدنى اهتمام، وإذا بهم لا يكترثون بها أي اكتراث، وإذا بها شيء من تاريخ الطب وماضيه، من قال إن كل ما يذكره التاريخ حقائق واقعة؟!.

الحوار بين السماعة وأذن الطبيب

وأستاذ آخر أرتفع استعمال السماعة عنده، إلى درجة الفن، كان يدرسنا أمراض القلب، وكان يضع السماعة على صدر المريض ناحية القلب ويأخذ بالإصغاء. ثم يذكر لنا ما سمع.

وأصوات القلب صوتان بينهما زمن انقباضي ويليهما زمن انبساطي. ولكل صوت منهما صفاته، فهناك الخفوت وهناك الحدة وهناك التضاعف، فضلا عن الغياب الكامل. ولكل زمن أصواته المرضية والطبيعية، ولا يكفي لتحديد الصوت أن ينسب إلى الزمن كاملا، كأن يقال صوت انقباضي أو انبساطي بل لابد من تعيين زمنه تماما، كأن يكون في أول الانبساط أو قبيل الانقباض مثلا. وإذا عرفنا أن كل هذه الأصوات والأزمنة لا تستغرق إلا أقل من ثانية واحدة استطعنا أن ندرك صعوبة أو تعذر تحديد ذلك. فكان هذا الأستاذ بعد أن يجترح المعجزات بإصغائه، يشخص مرض القلب وحالته ويحدد الإنذار والعلاج ومستقبل المريض الصحي وذلك كله بمجرد الإصغاء (كما يدعي).

وكنا نخرج من درس هذا الأستاذ ونحن نحس بالنقص لعدم تمكننا من سماع ما ذكر الأستاذ أنه سمعه، والشعور بالذنب لإهمالنا وقصورنا، وفي الوقت نفسه الشعور بالإعجاب والإكبار لهذا الأستاذ ذي الأذنين المرهفتين اللتين تفوقان آذان شوبان وموزار وبالتأكيد بيتهوفن. وكنا نطلق على هذا الأستاذ اسم لاينك الثاني تيمنا بلاينك الأول مبتدع السماعة الطبية. وكان يمكن أن تتحول مشاعرنا تلك إلى إحساس بالعجز المطبق لولا أن جاء إلى المستشفى أستاذ آخر جديد اختصاصي في أمراض القلب.

فكان الطلاب يستشيرون الأستاذ الأول في حالة بعض المرضى فيدلي بدلوه فيما سمع، ثم يستشيرون الأستاذ الجديد فإذا به يحكي عن أشياء أخرى غير ما سمعه الأستاذ الأول. وإذا الإصغاء مختلف، وإذا التشخيص مغاير.

وكان لابد من حل هذه المعضلة، وكان الحل سهلا ميسورا، فقد صدر قرار بتقسيم جناح مرضى القلب إلى قسمين، يشرف كل أستاذ على قسم، ولايجوز لطالب أو طبيب أن يستشير إلا الأستاذ المشرف على كل قسم. وهكذا حلت المشكلة.

وتمر الأيام ويصاب قريب لي بمرض قلبي، فأنصحه- كما هو متوقع- بأن يراجع أستاذنا القدير. ويشخص الأستاذ أن لديه مرضا معينا ويصف له الدواء، غير أن المريض لم يتحسن بل ازداد مرضه سوءا، وأنصحه بمراجعة زميل آخر جاء حديثا من الخارج، ويطلب هذا الطبيب جملة من الفحوص التي تعتمد التقنية الحديثة. ويتوصل إلى تشخيص مغاير وينصح بعلاج مختلف، ويتحسن المريض بسرعة.

وعندما قلت لهذا الطبيب (وهو زميل دراسة): إن أستاذنا فلانا قد عجز عن الوصول إلى التشخيص الصحيح، قال لي: هل تصدق كل ما يقوله، وهل تعتقد حقا أن السماعة كفيلة وحدها بالوصول إلى التشخيص الصحيح؟ لقد أصبحنا اليوم في عصر التقنية، ولابد لنا من الاستفادة منها في ميدان الطب. إن للسماعة الطبية دورها الأساسي والمحدد لا أكثر ولا أقل.

وأبتسم وأنا استمع إلى هذا القول، وأتخيل أنه لم يخطر في بال لاينك في حال من الأحوال أنه سيأتي يوم يقال فيه هذا الكلام.