مساحة ود محمد المخزنجي

مساحة ود

عيون عم عبدالفتاح

أغمض عينيّ في غمرة البكاء فأراه، في آخر لقاء جمعني به، ولم أكن أعرف أنه لقاء الوداع، ومن مكتب وزير الثقافة المصري في حي الزمالك - حيث كان يتسلم جائزته عن أفضل رواية لعام 1992 - حملني في سيارته البيضاء القديمة والتي تبدو جديدة دائما، وراح يخوض بي وسط أمواج شوارع القاهرة، وقال لي: "سأرى الآن بعيونك" ، ولم أدرك ما يعنيه على الفور، لكن قيادته الهادئة، وتوقفاته الكثيرة، نبهاني إلى أن الرجل لم يعد له من نور البصر إلا القليل، فمرض السكر لم يكتف بامتصاص عوده الذي ظل معتدلا رغم نحافته، بل امتد زاحفا على شبكية العين يطفئ خلاياها، خلية من بعد أخرى، ولقد بقي القليل، لكنه كان يراني، ويرى العالم، ويضحك على ما يراه من مدهشات زماننا، ضحكته المترعة المجلجلة الصافية تلك.

ضحكة عم عبدالفتاح الجمل، الجميل، الأصيل، العالي.. ضحكة رجل عبر شوارع الحياة الثقافية، المليئة بالغواية، دون أن يرتكب صغيرة أو كبيرة تشينه، دون أن ينحني، أو يتراجع عن أداء ما يعتقد أنه الصحيح، ولقد كان صحيحه نادرا، ندرة الفارس النبيل في ملابسات لم تكن كذلك. كانت مأثرته الإيثار. إيثارا ثقافيا غريبا عن الشائع، جعله ينسى السنين فيجد نفسه في نهاية المطاف رجلا وحيدا بلا زوجة ولا ولد، وكان طوال كل تلك السنين التي نسى كرّها، مشغولا - حتى عن نفسه وعن موهبته الخاصة النادرة والحقيقية - بالانتصار لكل طالع في ساحة الأدب المصري، يفرد له الصفحات في الملحق الأدبي بجريدة المساء الذي كان يشرف عليه (وكان منارة أدبية في زمانه)، ويفضله - بمعيار الجودة - على الكبار، مهما كان نفوذهم أو كانت سطوتهم. جيل كامل من أدباء مصر منذ الستينيات وحتى آخر لحظة، قدمهم، ودعمهم، عبدالفتاح الجمل، ولم يخطئ ذوقه قط، وعندما أحس بأصابع الزمن الرديء تصر على التسلل داخل دائرته، قدم استقالته، ومضى شامخا يضحك ضحكته الرائعة تلك.

أغمض عم عبدالفتاح الجمل عينيه اللتين ظلتا صافيتين رغم الداء، ويغمض البكاء عيوننا في نوبة البكاء على رحيله، لكن تحت أجفان العيون المغمضة ثمة عيون أخرى للروح، هي عيون البصيرة، التي ستظل تضيء طريق أبناء الرجل الذي لم يكن له أبناء، عيون للبصيرة، تظل في أحلك اللحظات، تقول إن الشرف جميل، والزهد جميل، والإيثار جميل، والكبرياء الإنساني هو حصاد كل ذلك الجمال، وهذا كله سور من الزهور والنور قد يقي النفس ضد غواية النفس وغواية الزمان، فهل هناك رؤية أحّد وأصفى مما كشفته عيون الرجل التي أغمضها فلم تنطفئ، أظن، وآمل أن.. لا.

فقرّت عيونك يا عم عبدالفتاح.

 

محمد المخزنجي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات