تواصل أغاني الثورة

تواصل أغاني الثورة

كانت السنوات العشر من 1956 إلى 1966 بمنزلة صعود متواصل إلى المجد، وهي السنوات التي بدأت بانتهائي من المدرسة الإعدادية، وفراغي من المدرسة الثانوية، ودخولي الجامعة، وتخرجي فيها، ثم تعييني معيدا فيها في مارس 1966. وكنت طوال هذه الفترة أواصل أحلام المستقبل، ينطبق عليّ وعلى جيلي، ما كتبه مرسي جميل عزيز ولحنه كمال الطويل في أغنية عبدالحليم:
«ذات ليلة وأنا والأوراق والأقلام كنا في عناق، نقطع الأزمان والأبعاد وثبا في اشتياق، والنهايات السعيدة لم تكن عني بعيدة».

لكن هذه الليلة كانت ممتدة حتى من قبل هذه الأغنية التي غنّاها عبدالحليم في أواخر 1959 في حفل خُصص دخله لمصلحة رعاية طلبة الجامعة. هذا الامتداد الزمني بدأته كلمات مأمون الشناوي بلحن كمال الطويل وصوت عبدالحليم الذي غنينا معه:

«إني ملكت في يدي زمامي
فانتصر النور على الظلام
وهتفت حمامة الســــــــلام
إني ملكت في يدي زمامي».

وكان النور المنتصر هو نور الوعد القادم بالنجوم الوضاءة على الأكتاف، والرءوس المرفوعة في كرامة وكبرياء، تملأ ملامحها بسمات الرضا والأمل الواثق من تحققه، وقد اتسع الأمل بالوحدة بين مصر وسورية في فبراير سنة 1958، وتحول اسم جمهورية مصر إلى الجمهورية العربية المتحدة، وذلك إيماء إلى أن الوحدة بين القطرين سوف تتسع لتشمل بقية الأوطان العربية. وجاءت أغنية عبدالحليم من تأليف أحمد شفيق كامل وتلحين محمد عبدالوهاب لتقول:

«غني يا قلبي وهني الدنيا وقول مبروك
كبر البيت واتجمع شملك أنت وأخــوك
قول للدنيا دا أجمل عيد
مصر وسوريا اتخلقوا جديد».

وأصبح عبدالناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة، وأصبحت مصر القطر الجنوبي وسورية القطر الشمالي، وسافر عبدالناصر إلى سورية، حيث حملت الجماهير السيارة التي كان يركبها ولا يزال أبناء جيلي في سورية يذكرون هذه الزيارة.

زيارة أولى إلى سورية

وأذكر أنني في زيارتي الأولى لسورية في الثمانينيات، وكنت أركب السيارة من دمشق إلى اللاذقية، فأوقفني السائق عند بقعة على الطريق الجبلي ، تطل على الوادي الأخضر المترامي أسفل الجبل المحاط بالأشجار، وقال لي في كبرياء هذه هي البقعة التي وقف عندها ركب عبدالناصر في طريقه إلى اللاذقية وبعد أن وصلت إلى اللاذقية، منذ أعوام قليلة، أخذني صديقي الروائي نبيل سليمان ليجعلني أتعرف شوارع اللاذقية، ويحدثني عن الشوارع التي مَرّ بها عبدالناصر، وكان معنا تلامذتي الذين أشرفت على أطروحاتهم في جامعة القاهرة والشيء نفسه فعله أصدقائي في حلب، وفي بيروت، وهو الأمر الذي جعلني أتذكر حوارا دار بيني وصديقي الأردني سمير قطامي وزميل لنا من غزة لا أذكر سوى اسمه عصام، حين قال لي عصام أنتم في مصر لا تعرفون قيمة عبدالناصر الذي نتمنى أن يكون حكامنا مثله، كنت أرى العشق الناصري في عيون الطلاب العرب الذين لجأوا إلى القاهرة الناصرية التي كانت تفتح أبوابها لكل العرب، وكان معنا في قسم اللغة العربية صديقنا عبدالرازق الذي كان هاربا من بطش بورقيبة في تونس، وكانت كافتيريا كلية الآداب التي قل ما كنت أذهب إليها أشبه بكافتيريا لجامعة الدول العربية، ففيها كل الطلاب العرب الذين رأوا في مصر موئلا لهم وذلك في الأيام التي وصفها في صدق غازي القصيبي في روايته «شقة الحرية».

نشيد لتشييد السد العالي

وأذكر أنه في العام السابق على دخولي الجامعة، وكنت في الثانوية العامة على وجه التحديد، عندما أذيع في الراديو الاحتفال الذي أقيم في مدينة أسوان لوضع حجر الأساس لبناء السد العالي وحضره عبدالناصر الذي أصبح زعيم الأمة العربية بغير منازع، وسمعت أغنية «حكاية شعب» من تأليف أحمد شفيق كامل وتلحين كمال الطويل، وكانت الأغنية درسا وطنيا يزرع في نفوسنا العداء للاستعمار الذي رفض تمويل السد العالي، ولكن إرادة الشعب المتجسدة في عبدالناصر نجحت في تأكيد الإرادة الوطنية التي استعانت بالدول الصديقة المعادية للاستعمار، وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي وكانت النتيجة وضع عبدالناصر حجر الأساس لبناء السد العالي يوم 9يناير 1960. وكانت «حكاية شعب» ملحمة بديعة مؤثرة، كما كنت أراها بعيني فتى يافع تملؤه الحماسة الوطنية في السادسة عشرة من عمره وكنت أتشرب مطلع الأغنية التي تبدأ بصوت الكورس:

«قلنا حنبني وادي احنا بنينا السد العالي
يا استعمار بنيناه بايدينا السد العالي
من أموالنا بإيد عمالنا هي الكلمه، وادي احنا بنينا».

ويأتي صوت عبدالحليم ليقص كفاحنا ضد الاستعمار وحكاية شعب كافح، وانكتب له الانتصار وكانت أذني ترتشف الكلمات التي تقول عن عبدالناصر:

«راح ع البنك اللي بيساعد ويدي
قاله حاسب قالنا مالكمش عندي
قلنا إيه؟
كانت الصرخة القوية
في الميدان في إسكندرية
صرخة أطلقها جمال
واحنا أممنا القنال».

وما أكثر ما كان الشعور بالفخر يغزوني وأنا أسمع بقية الأغنية التي تنتهي بتأكيد انتصارنا، ونمضي في الطريق الصاعد الذي يزداد صعودا مع التأميمات التي أعادت ثروات الوطن إلى الشعب الذي هو مالكها المغتصب، بعد أن استطاع قائده المنتصر في 1956 إعادة الثروة المنهوبة إليه، وأكاد أرقص مع آخر كلمات الأغنية التي تقول:

«أحرار ونحب الحرية لبلدنا ولكل الدنيا ولكل الأمة العربية».

الوطن الأكبر

ويتواصل فرحي، وأنا مندس مع الجماهير الغفيرة، في أحد ميادين المحلة الكبرى، ونرى التلفزيون - في كشك خشبي، أقامته الهيئة العامة للاستعلامات - لأرى عبدالحليم وصباح وهدى سلطان وشادية وهم ينشدون للأمة العربية كلها التي أصبحت هي الوطن الأكبر، وتتكرر الأغنية التي لحنها عبدالوهاب للمؤلف نفسه مع زيادة فايدة كامل ووردة الجزائرية، ويأتي مقطع الختام بصوت عبدالحليم:

«وطني يا زاحف لانتصاراتك
ياللي حياة المجد حياتك
في فلسطين وجنوبنا الثائر
ح نكمل لك حرياتك
احنا وطن يحمي ولا يهدد احنا وطن بيصون ما يبدد
وطن المجد يا وطني العربي».

ولم يكن من المستغرب أنني لم أسمع حتى ذلك الوقت، سنة 1960، عن انتصار الثورة الكوبية بقيادة فيدل كاسترو، ولا عن بداية حملة الاعتقالات الموسّعة في مصر ضد الشيوعيين قبيل زيارة خرتشوف إلى مصر، فمن أين لي وأنا الذي لم أخرج من المحلة، ولم يكن محيطي الثقافي الضيق يهتم بالسياسة، ولا نفارق المدار المغلق للأدب، أن أعرف عن الشيوعية أو الشيوعيين، فقد كان عليّ الانتظار إلى سنوات الجامعة وما بعدها، حين أخذ وعيي السياسي في الاتساع أما قبل ذلك فقد كنت مثل أبناء غيري نمتلئ حماسة للوحدة والعدل الاجتماعي الذي أخذ يكتسب اسم الاشتراكية، وكان الإعلام الناصري والإيمان بالأحلام الناصرية أقوى من كل شيء، وأعلى من أي دعاية مناقضة هكذا، ظللت على إيماني بالناصرية، وثقتي بأنها ستحقق كل أحلام الوطن، فقد كنت أحد أبناء «الجيل الصاعد» الذي هتف بحياته عبدالحليم ووردة الجزائرية ونجاة الصغيرة وفايزة أحمد وعبدالوهاب بالكلمات التي كتبها حسين السيد ولحنها عبدالوهاب الذي ختمها بالهتاف للجيل الصاعد:

«عاش الشعب العربي كله سلام وأمان
عاش الوعي العربي كله ثورة في كل مكان
ثورة مارد للحرية هب ونادي بالقومية
حيوا معايا قولوا معايا عاش عبدالناصر عاش».

ولم تكن أغنية «صوت الجماهير» تختلف عن «الجيل الصاعد» فالجيل الصاعد هو طليعة صوت الجماهير الذي يوقظ كل الأجيال، ويختتم عبدالحليم الأغنية بالكلمات التي كانت تحفر أصواتها في ذاكرتنا

«خط السير معلوم وطريقنا مرسوم
هو الوحدة واشتراكية والاتنين هدف الجماهير».

وأذكر أني استمعت إلى هذه الأغنية عام 1961، وهو العام الذي دخلت فيه الجامعة، ورأيت فيه، عيانا، من شعبية عبدالناصر ما زادني إيمانا به، وقد تزايد هذا الإيمان عندما مضى عبدالناصر في خطواته الاشتراكية ولم أنتبه إلا بعد سنوات كثيرة أن حسين السيد لم يختم الأغنية التي كتبها إلا بكلمتي «الوحدة» و«الاشتراكية» وهو ختام له دلالة على الكلمة الغائبة «الحرية» التي أظنها لاتزال غائبة عن حياتنا العربية، إذا استثنينا بعض الفوارق الكمية.

وكان الحديث عن الاشتراكية العربية، والحل الاشتراكي هو الحديث الذي أصبح مألوفا في الخطاب السياسي المصري، خصوصا بعد شيوع حركات التحرر الوطني وتقلص رقعة الاستعمار، فتستقل الكويت التي تلغي معاهدة الحماية البريطانية في يونيو 1961.

المسئولية في أغنية

ويأتي الاحتفال بعيد الثورة في يوليو من عام 1963، فيعاود الثلاثي صلاح جاهين وكمال الطويل وعبد الحليم التعاون، وتنتج أغنية «المسئولية» التي يصل فيها الحلم القومي إلى ذروته، خصوصا بعد صدور ميثاق العمل الوطني في مرحلة التحول الاشتراكي، وإعلان الاتحاد الاشتراكي العربي، وانتخاب لجنته الأساسية، وتتجه الأغنية إلى عضو متخيل، تم انتخابه في اللجنة الأساسية، وتنطلق كلمات العضو بأحلام صلاح جاهين ولسان عبدالحليم فيريان بأعين الخيال تحقق أحلام جيلهم الذي آمن بالناصرية إيمانا عميقا صادقا مخلصا:

«شايفين رايتنا في حضن النسمة مرفرفة بستاشر نجمة
على مدينة عربية معرفش من أي الأقطار
حرية واشتراكية ووحدة مكتوب حروفها بميلون وردة
على صدر بلدة عربية معرفش من أي الأقطار
صناعة كبرى، ملاعب خضرا تماثيل رخام ع الترعة وأوبرا
(في كل قرية عربية)
دي ما هيش أماني وكلام أغاني دابر تاني»

قصادنا قريب يا معداوية

الغريب أننا كنا نستمع إلى هذا الكلام ونصدقه، شأننا شأن الطويل وجاهين وعبد الحليم، فقد كانت الأحلام جنين الواقع وبذور المستقبل التي تتأهب للازدهار، وكنا نرقبها بلهفة الذي يتطلع إلى الثمرة التي تتأهب، على الضفة الأخرى من النهر الذي نوشك أن نعبره لنصل إلى «بستان الاشتراكية» وهي الأغنية التي جمعت بين أبناء جيل مولود ما بين 1923 و1930، وعانى من فساد الحياة السياسية قبل الثورة، وحلم بإمكان تحقيق أحلام الحرية والعدل والاشتراكية على يدي عبدالناصر المولود سنة 1918، قبل عام واحد من انفجار ثورة 1919، يفصل ما بين ميلاده وميلاد محمد الموجي سنة 1923خمس سنوات، وبينه وميلاد عبدالحليم حافظ سنة 1929 أحد عشر عاما، وبينه وميلاد صلاح جاهين سنة 1930اثنا عشر عاما، وبينه وميلاد كمال الطويل سنة 1932 أربعة عشر عاما، فقد كان بمنزلة الأخ الأكبر لهم جميعا، يحمل الهموم نفسها، وينتسب إلى الشرائح الاجتماعية ذاتها، ويجسد الأحلام التي تتفتح على الورد «أبو تمانين مليون شجراية» والمشاركون في الحلم يغنون بصوت عبدالحليم:

«على رأس بستان الاشتراكية واقفين بنهندز ع الميه
أمة أبطال، عُلَما وعمال، ومعانا جمال
بنغني غنوه فرايحية».

ويأتي عيد الثورة سنة 1964 فيغني عبدالحليم من تأليف رفيق صبا الزقازيق مرسي جميل عزيز وألحان كمال الطويل «بلدي يا بلدي والله احلويتي يا بلدي». وتذهب القوات المصرية إلى اليمن لتساند ثورته، فيكتب حسين السيد لحليم كلماته التي وجهها إلى القوات العائدة، وكان ذلك في العام نفسه الذي أفرجت فيه السجون الناصرية عن الشيوعيين المعتقلين، خصوصا بعد أن تصالحوا مع الثورة، وأعلن الحزب الشيوعي المصري حل نفسه، وقام عبدالناصر بإعادة الاعتبار إلى أعلامه، بعد تعذيبهم سنوات في المعتقلات الفظيعة، التي كانت وصمة عار في تاريخ الناصرية. ويبدو أن عبدالناصر أراد الاستعانة بخبراتهم في معارك التحول الاشتراكي التي أعلنها، وصمم على أن يخوضها، ولم يكن من المصادفة - والأمر كذلك - أن يجتمع الثلاثي كمال الطويل وصلاح جاهين وعبد الحليم ليقدموا أغنية «يا أهلا بالمعارك» في عيد الثورة عام 1965. وترسم الأغنية طريق المستقبل الذي:

«اسمه في الاشتراكية التصنيع التقيل»

وتحذر الأغنية، في مدى حدس الفن، من عين العدو التي لن تنام، كما كان الثلاثي يستشعر شيئا يمكن أن يأتي من وراء الغيب، في سياق التحديات الذي دخلته الثورة في معاركها التي لم تتوقف وتأتي أغنية «صورة» للثلاثي نفسه وتبدأ ملامح الصورة:

«من أصغر طفلة بجدايل على زرع ودرس بتتمايل
للفلاح أبو خير وجمايل للواعظ حافظ القرآن
للجندي الأسد اللي شايل على كتفه درع الأوطان
وبعيد عن العين لكن في الصورة أوضح ناس
ناس تحت حر الجبال والقلب كله حماس
بتفجر الرمل أنهار من دهب أسود
وناس بتكسيه بخضرة وكل لون له ناس
وأساتذة وعلما ومعامل ودكاترا م الشعب العامل
ورجال سكّر على مكاتبها تخدم بالروح لما تعامل
والصورة مفيهاش الخامل والهامل واجبه، ونعسان
ما فيهاش إلا الثوري الكامل المصري العربي الإنسان»

وكانت «صورة» نهاية اليوتوبيا الناصرية، فقبل أن يحل يوليو بشهر واحد بدأت حرب يونيو1967، وحدثت الكارثة التي لم نكتشف بشاعتها إلا عندما أعلن عبدالناصر بيان تنحيه عن الحكم، وتخرج الجماهير الهادرة لتعيده إلى الحكم، معتقدة أن الذي قادنا إلى الهزيمة، لابد أن يكفر عن خطيئته بأن يقودنا إلى النصر. وخلال أيام المعركة أقام عبدالحليم في مبنى الإذاعة تحت دوي القنابل، وأخذ الشاعر عبدالرحمن الأبنودي يكتب في حماسة المؤمن بالنصر، ومعهما كمال الطويل الذي ظل يلحن الأغنية بمجرد كتابة كلماتها، وكانت أهم الأغاني التي أذاعتها الإذاعة أغنية «أحلف بسماها» التي لحنها كمال الطويل من كلمات الأبنودي:

«أحلف بسماها وبترابها
أحلف بدروبها وأبوابها
أحلف بالقمح وبالمصنع
أحلف بالمدنة وبالمدفع
بأولادي بأيامي الجاية
ما تغيب الشمس العربية
طول ما انا عايش فوق الدنيا»

ولكن الحرب انتهت بالهزيمة الساحقة، وأصاب الاكتئاب الحاد أولئك الذين آمنوا بالناصرية حتى النخاع، فأخرست الهزيمة صلاح جاهين الذي شعر بأنه خدع الناس بحلم انقلب إلى كابوس، وامتنع عن كتابة الأغنية الوطنية إلى أن مات، لكنه قبل أن يفارقنا كتب ملحمته «على وش مصر» التي لم ينهها، وتركها إلى نهاية ما استطاع أن يصل به قلبه المثقل بالحزن، وأصاب الاكتئاب كمال الطويل ومحمد الموجي، وانتهى الزمن الجميل الذي شهد ذرى إبداعاتهما. أما عبدالحليم فاستبقت روحه العناد وروح المقاومة، وأقسم أنه لن يبدأ أي حفل له إلا بأغنية «أحلف بسماها» التي تحولت إلى نوع من قسم الولاء ليتم الحلم الذي ظل يغني له مع جاهين والطويل.

عدَّى النهار

وأما عبدالرحمن الأبنودي الذي لم ينطو على إيمانهم بالناصرية التي عرف سجونها، وأدرك ثغراتها، فقد أحال غضبه إلى غناء حزين، ظللنا نردده معه، في انكسارنا، مع صوت عبدالحليم الذي غنى «عدّى النهار» التي أعدها أرقى وأصفى ما كتبه الشعر في رثاء الناصرية، بعد انكسارها العظيم، في يونيو 1967، وهكذا سمعنا بصوت عبدالحليم الحزين، ولحن بليغ حمدي هذه المرة:

«عَدّى النهار والمغربية جايه تتخفي ورا ضهر الشجر
وعشان نتوه في السكه شالت من ليالينا القمر»

والصورة الشعرية بديعة، تكمن روعتها في الرمزية التي تنسرب في علاقاتها المجازية التي يمدها التجسيد والتشخيص بطاقة الإبداع الذي يضع السائرين في نهاية النهار الذي أنهته دورة القدر الغشوم، لتفتح أبواب عالمنا أمام الظلمة التي تستهل حضورها بالمغربية التي تتسلل، متخفية، وراء الشجر، كأنها حيوان شرس، يتربص بالسائرين إلى أن يهجم عليهم، كي يفترسهم بأنيابه، وكما تحمل استعارة الظلام معاني التيه والخوف والرعب وانعدام الأمان، وعدم إمكان الرؤية والتخبط وغياب الدليل.

«وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها
جانا نهار مقدرش يدفع مهرها
يا هل ترى الليل الحزين أبو النجوم الدبلانين
أبو الغناوي المجروحين يقدر ينسيها الصباح
أبو شمس بترش الحنين
أبدا بلدنا للنهار بتحب موال النهار
لما يعدي في الدروب ويغني قدام كل دار».

والتشخيص الذي يُستهل به المقطع مألوف في الشعر العالمي، حيث تشبيه الوطن بالمرأة، لكن بلاغة العامية تمنح التشبيه طزاجة فريدة، كما أن ترشيح الاستعارة التي ينطوي عليها التشبيه يدخلنا في نوع من التوتر الدرامي الذي لا يخلو من معنى الإدانة، أو الاتهام المضمر، وقد لمحت ذلك عندما لاحظت أن جمال على وزن نهار، وذلك على نحو يمكننا من أن ننطق المسكوت عنه، فنقول إن المقصود من تورية الاستعارة أن جمال لم يستطع أن يدفع مهر بلدنا، وتركها مثلنا أسيرة ليل يتخفى وراء الأشجار، مستعدا للنهش الذي كانت بوادره قد بدأت وسواء قرأنا الأسطر على المعنى الرمزي أو المعنى الحرفي للنهار، فالنتيجة واحدة، وهي أن مصر الجميلة لم تجد مهرها، فدخلت إلى ظلمة تيه لا يعلم إلا الله مداه.

«أبدا بلدنا للنهار بتحب موال النهار»

وهي صورة تغدو بمنزلة الأصل لأغنية لاحقة، أنشدناها كثيرا، تبدأ بكلمات «مصر يا أمة يا بهية» والبهاء قرين النور، أو هو لازمة من لوازمه، وهو يعيدنا إلى صورة الوطن الأنثى المنذورة للنهار، ولذلك فإنها تحب موال النهار، لأنه هو ما يليق بها وهي التي تليق به. وتمضي الأغنية مع المقطع الثاني والأخير الذي يؤكد معنى التفاؤل المنبثق من ظلمة اليأس، فتحلم مصر بالسنابل الجديدة والجبال التي تعني العلو والصعود لا الهزيمة والانكسار وتحلم بالغد الذي سيأتي بالانتصار بعد الهزيمة، وبرؤيا تزرع التفاؤل في القلوب، وأعتقد أن هذا التدرج المبرر من يأس الظلمة إلى أمل النهار هو سبب من أسباب عديدة، جعلت من كلمات الأبنودي المبدعة بلسما وعزاء وأملا على السواء، ولذلك أكثرت الإذاعة المصرية من إعادتها، وأدمنا نحن على استماعها، فقد كانت رثاء لزمن جميل مضى، وتطلعا إلى زمن جميل قد يأتي، ولعله يأتي، فنحن لا نزال في انتظاره.

وظل عبدالحليم يغني بعد «موال النهار»، ويجمع القلوب العربية حول أمل النصر إلى أن جاءت حرب أكتوبر 1973 وغنى من كلمات الأبنودي «صباح الخير يا سينا» و«قومي يا مصر» ولحن له الطويل «خلي السلاح صاحي» من كلمات أحمد شفيق كامل.. ومضى يغني لمصر إلى أن توفاه الله سنة 1977 في زمن السادات، بعد وفاة عبدالناصر بسبع سنوات، وبعد أن أطاح السادات بنفوذ الناصريين في مايو 1971 وطرد الخبراء الروس من مصر في يونيو 1972 وإلغاء معاهدة الصداقة المصرية السوفييتية في مارس 1977، وبعد أن افتتح العام الذي مات فيه عبدالحليم بما سمي «ثورة الخبز في مصر»، وأسماه السادات «انتفاضة الحرامية» وأصبح الزمن غير الزمن، ودخلنا فيما وصفه الأبنودي في ديوانه «المشروع والممنوع»:

«هذا زمان الأونطة والفهلوة والشنطة».

وكان زمنا جميلا كاملا قد مضى بأحلامه التي تحوّلت إلى كوابيس.

 

 

 

جابر عصفور