قصص على الهواء

قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص الأربع؟
-------------------------------------------

غالبية القصص التي قرأتها لا تخرج عن القص التقليدي، والمراوحة بين الخاطرة والقصة البسيطة في أجوائها وحبكتها، إضافة إلى لغتها التي يشوبها الضعف وتسقط في العادية، أحيانا. لكن مع ذلك، يمكن اختيار أربع قصص تسعى، وفق إمكانات بسيطة إنما على نحو جاد، باتجاه كتابة قصصية حديثة، فهي بقدر ما تحرص على وجود موضوع، فإنها أيضا تتوجه إلى معالجته بطريقة تحاول ألا تخلو من الابتكار، وإضفاء الجدة الفنية عليها.

هموم هذه القصص ومواضيعها قد لا تكون جديدة، شأن معظم القص، لكن طريقة مقاربة الواقع تنطوي على محاولة واضحة لتقديم قصة مختلفة، تستوعب تعقيدات العالم من حولنا.

  • قصة «طحالب» لعبد الستار حتيتة

يتداخل فيها الواقعي بالافتراضي، الفانتازي بالحقيقي، إذ تبدأ القصة باختفاء مروة، وانطلاق البحث عنها من قبل البطل، في أعماق النيل، حيث اكتشاف عالم آخر من الموتى بجرائم الشرف والثأر ومكافحة الإرهاب. مروة تتعرف على زوجها في الإنترنت، ويتزوجها سرا، وتحمل منه، لكنها تخفي طفلها في ملف! وتضعه في قرص صلب، ثم تختفي من مواقع الدردشة، ولايخطر للبطل البحث عنها سوى في النيل. قصة طريفة وأحداثها مبتكرة.

وعلى الرغم مما ينذر به العالم الافتراضي، الذي تتعاطى معه القصة، من تشظ وعدم منطق، فإن بناء القصة كان متماسكا، وبدا القاص يعرف جيدا كيف يدير أحداث قصته ويدفعها إلى خاتمة ملائمة.

  • قصة «صورة» لمنى شلبي

تهاجم الذكريات والصور القديمة بطلة القصة، التي تعود في أحد الأيام من العمل أبكر من المعتاد. في لحظة مفصلية من عمرها، تجد قدميها تجرانها إلى صورها القديمة، فتعيش لحظات متضاربة مفعمة بالمشاعر والعواطف المتناقضة، تنتهي باختيارها صورة واحدة، على الأرجح تجمعها بأمها، وتذهب بها في اليوم الثاني إلى مقر عملها، حيث تقوم بتمزيقها إلى قطع صغيرة، وذرها في الهواء، في ترميز واضح لتخلصها من جزء من ذكريات، يؤلمها استرجاعها.

  • قصة «اللص الصغير» لميلاد فؤاد ديب

يغلب عليها الوصف، إذ ليس من حدث واضح، حياة ريفية تتوضح في القصة، لكن طريقة الآباء والأمهات في تربية أبنائهم، تهيمن على أجواء العمل، وتترك أثارا نفسية وجسدية لا تمحى مع مرور الزمن. بناء القصة بسيط، لكن ثمة شفافية يشعر بها القارئ تنبثق خلال السطور.

  • أما القصة الرابعة «الوطن والحقيبة» لعباس هادي زوين

فتتخذ من السؤال حول الوطن وماذا يعنيه، موضوعا لها، حين يطلب من أسرة بسيطة مغادرة البلد الذي ولدت فيه وانتمت طوال عقود إليه، إلى بلد آخر متاخم، يفترض أنه بلدهم الأصلي. تتساءل طفلة مع والدها، هل «الوطن» هو الذي نولد فيه ومع مرور الوقت يتجذر فينا، أم الذي تعود إليه جذورنا، وقد لا نعرف عنه شيئا؟ لكن لا مفر من المغادرة. خاتمة القصة تأتي بعد مرور زمن طويل، تتغير فيه القوانين وتعود الطفلة ثانية قد أصبحت طبيبة، لتسترد منزلها وذكرياتها. القصة بسيطة في بنيتها ولغتها مباشرة، وإن حملت أسئلة عميقة.

----------------------------
«طحالب»
عبد الستار حتيتة (مصر)

مروة اختفت حين كان أخي عبد الله مسافرا للخارج. لم يكن أهلها الصعايدة يعلمون بزواجه منها. سارعتُ بإغلاق دكاني لبيع أدوات صيد السمك في شارع شمبليون، وقررت البحث عنها. عجيب أن تختفي من على مواقع الدردشة على الإنترنت وتغلق هاتفها المحمول.

كنت أخاف أن يعود عبد الله فجأة للقاهرة، ويكتشف، حين يسافر إليها، إهمالي لها. أخذت الجهاز الجديد الذي صنعته ويشبه خياشيم الأسماك. وقفت على مرسى النيل أمام مبنى ماسبيرو. سددت أنفي بالخياشيم الصناعية، وغطست إلى الأعماق. توكلت على الله في رحلة، عكس التيار، إلى الجنوب.

المياه في الأسفل ذات لون أخضر داكن، مزدحمة بالطحالب والقراميط. وبين حين وآخر أتعثر في جثة، فتستيقظ وتنظر نحوي ببلاهة, والماء يملأ فمها. وكانت بعض الجثث تمد يدها تريد أن تقول شيئا.

وبطبيعة الحال كنت على عجلة من أمري. أشعر بأن الشمس مازالت تشرق فوق النيل، فأواصل الزحف على بطني ضاربا الماء الثقيل بذراعي. وحين تتحول أعماق النيل إلى لون أسود قاتم، أعرف أن الليل جاء، فأنظف خياشيمي، وآكل قرموطا صغيرا، وأنا أتبادل الكلمات المقتضبة مع بعض الجثث المشوهة. أسند ظهري على صخرة مغطاة بالطحالب الخضراء وأنام، لأواصل رحلتي فجر اليوم التالي..

في إحدى الليالي، وكنت راسيا تحت ماء النهر، تقريبا جوار حدود بني سويف، من ناحية الجنوب، اقتربت جثة تملأها ثقوب الرصاص. وعرَّفت نفسها، وكيف تعرضت للقتل، في اشتباكات ثأرية بالأسلحة الرشاشة.

وبدأت الجثة، وكانت لصياد سمك في الثلاثين من عمره، تسخر من اعتقادي أن جهاز الخياشيم الذي صنعته هو الأول من نوعه في مصر. ومن خلال التسامر مع الجثة، حول تلوث أسماك النيل بمخلفات الصرف الصناعي والصحي، وبينما كانت الأسماك الصغيرة والديدان المائية تخرج وتدخل من ثقوب جمجمة الجثة وصدرها، شعرت أن هذا الجسد الميت يعرف بطريقة ما إنني في طريقي للبحث عن مروة في مدينة المنيا. شعرت بالخوف، لأن مروة تزوجت عبد الله في السر، وهي تتواصل معه عبر الإنترنت فقط، وهي حامل منه أيضا، لكنها أخفت مضغة حملها في ملف, وأخفت هذا الملف على القرص الصلب.

وإذا كانت هذه الجثة عرفت بالقصة، فلا شك أن المنيا كلها على علم بالواقعة، وبالتالي ارتعبت أكثر، وقلت ربما قتلوها، وربما سأجد جثتها هنا بين جثث قتلى الثأر والشرف ومكافحة الإرهاب وحوادث الطرق. فماذا سأقول لعبد الله.؟ وجلست أبكي، وبينما الدموع تختلط بالمياه السوداء، انزلقت جثة الصياد في هدوء لتواصل رحلتها النيلية وصولا إلى الدلتا ثم البحر المتوسط، فالآخرة المنتظرة. حين اقتربت من المنيا، بدأت أتحسس الطريق إلى أقرب نقطة من بيتها.. وفي المساء تمكنت من تحديد مكان غرفتها. وقررت أن أدخلها فجرا.

للغرفة نافذتان تمر المياه من جانب وتخرج من الجانب الآخر. غرفة معزولة كأنها مكتفية بذاتها، وتقف على جذوع رخوة لنباتات مائية ذات أوراق عريضة تشبه أوراق نبات ورد النيل. وفي الليل، ومن بين الأغصان الملتفة حول جدران الغرفة، رأيت جهاز الكمبيوتر الخاص بها منطفئا على منضدة خشبية. والمقعد الذي طالما جلست عليه للتحدث مع عبد الله عبر الإنترنت، خاويا.

رائحة مروة كانت هنا. كأنها تركت الغرفة حالا. انتظرت قليلا لكنها لم تعد. وكانت أقرب طريقة للاطمئنان عليها، قبل أن يفضحني الصباح، فتحت جهاز الكمبيوتر وإلقاء نظره على آخر ما كانت تفعله على الجهاز وعلى الإنترنت، وما إن كانت قد اتصلت بعبد الله أخيرا. حين أضاءت الشاشة، سرى النور الأزرق في المكان، وبدأت القراميط تتقافز من مخابئها الطينية، كما لفتت الأضواء انتباه بعض الجثث الطافية التي فتحت أعينها وشرعت تواصل جدلا فيما بينها عمن سيدخل الجنة، المسلمون منهم أم المسيحيون. ودون أن أحسب حسابا، تسببت الضجة في استيقاظ أهل بيت مروة.

وفجأة التف حولي خمسة رجال بملابس زرقاء وصفراء وسوداء. سألوا في نفس واحد: أنت عبد الله، أنت غررت بابنتنا وتزوجتها في السر، يا ويلك، سنقتلك الآن. وأخذوا يتصايحون على باقي أقربائهم ليأتوا بالأسلحة الرشاشة.

بدأت أدافع عن نفسي. أخبرتهم أنني بائع أدوات صيد سمك من القاهرة، ضللت طريقي وأنا أجرب جهاز الخياشيم الجديد الذي اخترعته الأسبوع الماضي. لكن مع الأسف، كل منهم أشار إلى أنفه، وقالوا في صوت واحد: أها.. نحن أيضا لنا خياشيمنا، وهي أرخص ثمنا من خيشومك لأنها مستوردة من الصين. اعترف.. من أنت.. أنت عبد الله، وسنقتلك، لكن عليك أن تخبرنا عن مكان ابنتنا مروة، وإلى أين هربت بها، يا عبد الله، يا (....).

وفي أثناء هذا كان عدد كبير من القراميط والأسماك الصغيرة والجثث يملأ الغرفة. وظهر عمدة صعيدي يعتمر عمامة كبيرة، يمسك بعنق شاب ضامر. أسكت العمدة الجميع، وقال إن هذا الشاب يعرف في الكمبيوتر والإنترنت، وقادر على اختراق كلمات السر والتنقيب في الملفات المغلقة ليعرف إن كانت لي صلة بمروة وعبد الله، أم لا. وكان أول ما فتحه نافذة الدردشة على «الهوت ميل» ولحسن الحظ لم يكن فيها أي شئ يتعلق بي أو بأخي عبد الله. كان آخر حديث لابنتهم هنا، لصديقة لها: أنا راحلة.

لكن حظي لم يكن حسنا على طول الخط، لأن الشاب شرع في فتح البريد الإلكتروني لمروة.

رسالة من عبد الله: «زوجتي العزيزة مروة، إذا شعرتِ بأي مضايقات من جانب أسرتك، فاهربي، ولا تترددي.. اركبي القطار واهربي عند أخي بائع أدوات صيد السمك في شارع شامبليون بالقاهرة. وعلى أية حال هو سيتصل بك بين الحين والآخر.. مع حبي».

رسالة من مروة إلى عبد الله: «لم أعد أحتمل البقاء هنا.. سجنوني في غرفة معلقة تحت الماء. حفظت مضغة الجنين في ملف مضغوط على «الأتاتش» داخل بريدي الإلكتروني.. قررت أن أهرب الليلة إلى أخيك في شارع شامبليون».

هنا صاح العمدة وهو يشير نحوي: «إذاً هذا شقيق عبد الله.. امسكوه لتصلوا لابنتكم المجرمة والمجرم الذي غرر بها»..

واندفعت إلى أعماق النيل لأخفي نفسي في الطين، وأزحف إلى الشمال، وكان صوت الرصاص يتكتك من ورائي، وهم يشقون الماء لملاحقتي، ومن ورائهم يدفع التيار بجثث وقراميط وطحالب.. وهياكل لا لون لها.

----------------------------
صورة
منال شلبى

الساعة الواحدة ظهراً.

لم تصدق نفسها وهى تنظر إلى الساعة الأنيقة فى معصمها.

الواحدة ظهراً! هذه إذاً واحدة من المرات القليلة التى تعود فيها إلى المنزل فى هذا الوقت المبكر.

أولجت المفتاح فى الباب وهى على يقين أنه لن يستقبلها أحد... زوجها فى عمله, والأولاد لم يعودوا من المدرسة بعد. قطعت خطواتها الصمت الثقيل الرابض فى أرجاء المنزل. دخلت غرفتها وتحررت من ملابسها وارتدت ملابس البيت المريحة, ثم اتجهت إلى المطبخ لتعد لنفسها كوباً من الشاى.

بعد دقائق, كانت ممدة على الأريكة فى وضع أشبه للنوم وهى محكمة قبضتها على كوب الشاى الساخن فى استمتاع. أخذت تحدق فى الحائط المقابل لها دون أن يطرف لها جفناً... فيبدو لمن يراها وكأن هناك لوحة جدارية خلابة تخطف الأنظار مرسومة على هذا الحائط المصمت!

غمرتها حالة من السلام النفسى. لكم هو رائع!... ذلك الهدوء الذى يحيط بها من كل جانب. لماذا لا يتثنى لها كثيراً أن تحظى بمثل هذه اللحظات؟!

فجأة, التمعت عيناها.. فلقد وثبت الى عقلها فكرة لطالما أرادت أن تنفذها. قامت بخفة وكوب الشاى لا يزال فى يدها واتجهت الى غرفة النوم. كانت تمشى كالجندى يعرف تماماً مقصده. جثت على ركبتيها ثم جلست القرفصاء أمام الدولاب مباشرة. وضعت كوب الشاى جانباً على الأرضية الباردة وأخرجت الدرج السفلى من الدولاب لتضعه على حجرها.

درج الذكريات... هكذا أسمته. قد يبدو لمن يراه لأول وهلة درجاً مليئاً بمجموعة من القصاصات الورقية والكشاكيل والصور... مجرد "كراكيب"! ولكن بالنسبة لها, كان الماضى مجسداً. ذلك الحلم القصير الذى لا نفهم كيف تأثرنا به... تلك اللحظات الضبابية التى لا نصدق أننا مررنا بها.

كانت تحتفظ بالكثير من الأشياء فى هذا الدرج: كتب تعود الى أيام طفولتها, شهدات مدرسية, صور قديمة متاَكلة, قصاصات ورقية صغيرة تحمل كلمات رقيقة من صديقاتها فى المدرسة والجامعة, وحتى العمل.

كان الدرج مكتظاً. فالطالما عقدت العزم على أن تنظمه يوماً ما, وأن تتخلص من الأشياء عديمة النفع فيه, ولكنها لم تجد هذا ال"يوماً ما" قط.

فلتفعل ذلك الأن إذاً!

بدأت تعبث وتنبش فى محتويات الدرج بأنامل باندورا.

ما هذه الأشياء؟

أوراق قديمة أذهلها احتفاظها بها حتى الأن, كتب لا تتذكر أنها قد قرأتها يوماً, عروسة شبه بدائية باهتة الألوان.

يا إلهى!

على الرغم من هذه الفوضى, لم يسعها إلا الابتسام!

هل هى حقا صاحبة هذه الأشياء؟ هل هى الطفلة التى لعبت بتلك الدمية المهترئة.. أم المراهقة التى قرأت تلك القصص.. أم الطالبة التى استلمت تلك الشهادة.. أم الشابة التى انتزعت تلك الصفحة من الجريدة؟

من هى حقاً فى هؤلاء؟

وهنا, وقعت عيناها على مجموعة من الصور فى ظرف يبدو عليه القدم. أخرجتها وبدأت تقلبها بحنين بالغ. أدركت أن معظمها قد تم التقاطه وهى صغيرة السن. لم تكن طفلة بارعة الجمال, ولكن شيئاً ما جذبها إلى تلك الملامح البريئة ودفعها إلى الابتسام.

هذه صورة لها مع أختها الكبرى على الشاطىء... وهذه واحدة أخرى وهى ممسكة بعروستها المفضلة. أخذت الصور تتوالى وكأنه حلم.

وفجأة.. توقفت عند تلك الصورة.

كانت أمها تحتضنها من الخلف والابتسامة تعلو وجه كلتيهما. أخذت تحدق فى الصورة لدقائق. كان عقلها يعمل كخلية نحل. لماذا كانت تبتسم فى الصورة؟ لماذا كانت أمها تبتسم؟ لماذا بدت لها هذه الصورة مقبضة؟!

بدأت الذكريات تهاجم عقلها بضراوة... أهمل النسيان عمله أخيراً وترك الأبواب مفتوحة.

"ترى نفسها طفلة لم تتجاوز السابعة تسير بجانب أمها فى الشارع. لفت انتباهها فى أحدى واجهات المحلات ذلك الحذاء الذهبى الجميل, تعلوه وردة كبيرة تشبه تلك التى وجدتها يوماً فى حديقة المدرسة. جذبت ملابس أمها برفق لتعبر لها عن إعجابها بهذا الحذاء. نظرت أمها إليها ثم إلى الحذاء بإستياء شديد, ووجهت لها واحدة من تلك النظرات النارية, ثم بدأ وابل من "الشخط" حول ذوقها المتدنى وانعدام الحس الجمالى لديها! لم تفهم لماذا غضبت أمها بهذا الشكل؟! لقد كان الحذاء جميلاً حقاً فى عينيها الصغيرتين."

لماذا كانت تبتسم؟

شعرت بتلك الغصة فى حلقها تصعد تدريجيا وكأنها بركاناً يوشك على الإنفجار!

"ها هى مرة أخرى... فى غرفتها, ممسكة بشهادة الشهر الأول من الصف الأول الثانوى. لم تكن نتائجها مشرفة على الاطلاق. لم تعرف لما؟!... لقد ذاكرت بجد ولكن المناهج صعبة.. صعبة للغاية! كانت الدموع تنهمر على وجنتيها, وتأنيب أمها الذى بدا وكأنه سيستمر الى الأبد كان يصم أذنيها. لماذا كانت تصرخ فيها بهذا الشكل؟ كل ما احتاجت إليه فى هذه اللحظة هو حضناً دافئاً وصوتاً ليقول لها أن كل شىء سيكون على مايرام!"

لماذا كانت أمها تبتسم؟

وانفجر البركان!

أخذت الدموع الساخنة تجرى على وجهها البارد وكأنها لفحات من نار.

بكت. بكت كما لم تبك من قبل. وضعت الصور والدرج جانباً وأمسكت بكوب الشاى وأحتضنته كطفل صغير. شعرت بحرارته تتسرب إلى قلبها. أحبت صوت دموعها وهى تقطر فى الكوب الممتلىء, ولم تحرك ساكناً.. لفترة طويلة.

فى الصباح التالى, ركبت سيارتها واتجهت الى العمل. صعدت الى مكتبها فى الطابق العاشر من المبنى, وأغلقت الباب خلفها. فتحت حقيبتها وأخرجت صورة لسيدة تحتضن طفلة من الخلف, والإبتسامة تعلو وجهيهما. مزقت الصورة الى أجزاء صغيرة.. صغيرة جداً, ثم فتحت النافذة وألقت بالقصاصات بكل قوتها. أخذت تشاهدها وهى تتطاير فى السماء.. تعلو وتهبط.

لن تراها بعد الأن.
لن يراها أحد بعد الأن.

----------------------------
اللص الصغير
ميلاد فؤاد ديب (سوريا)

أنا أدرّس اللغة العربية في قرية، لاتبعد إلا قليلا عن الحدود التركية، وتحيط بها سلسلة جبال (طوروس) الصخرية، التي تغطي قممها الثلوج. وإلى الشمال من مدرستي يظهر أنبوب نفط عال تخرج منه النيران ليل نهار.. فيبدو كوردة دائمة الحمرة. ولأن سكان القرية.. يعتاشون من زرع الحنطة، مثل بقية القرى الأخرى؛فإن الأشجار فيها نادرة.. ندرة مياهها.

بجانب المدرسة بيت طيني، له قبة محدبة من قش تعلوها طبقة عازلة من الوحل المجفف المخلوط بالتبن.. وفي داخل هذا البيت، يعيش بطل هذه القصة مع أبيه وزوج أبيه.

كان أهل القرية يلقبونه ب(اللص الصغير) فقد شاهدوه مرة، وهو يبيع البيض وأفراخ الحمام والدجاج والأرانب إلى فلاحين في قرية مجاورة.. بعد أن اختفت من بيوتهم.

وضعه والده في قن الدجاج مدة ثلاثة أيام، ولم يقدم له غير الماء والقليل من الطعام. بعدها، خرج بجسد هزيل تحركه الريح يمنة ويسرة.. ولم تستقم حركته إلا بعد مرور فترة من الزمن.

هو في الصف السابع ولم يرسب من قبل. في نظراته القاسية الشرسة بريق من الحنان ورقة ممزوجة بألم سري.

جاءني مرة إلى المدرسة، التي أنام في غرفة فيها. جلس طويلا دون أن يتفوه بكلمة واحدة ثم نهض مذعورا، عندما سمع عواء جراء صغيرة وغادر بصمت.

في فترة الغذاء جلب لي صحنا من اللبن. شكرته ثم لفت نظري أثر طولي ممتد بين سبابته وإبهامه. أشرت إلى تلك العلامة وقلت له :ما سبب وجودها على ظاهر يدك؟.

اعتقدت في البداية بأنني لن أسمع منه جوابا.. لكنه فاجأني بدموعه ؛ثم أفاض بالكلام :لقد عرفت أمي قبل أن تموت بما فعلته يداي من سرقة.. فأخذتني إلى المطبخ حيث كانت تحمّي سيخا من الحديد على النار.. و قالت لي: سأدمغك بهذا لتتذكر ما كنت عليه.شاهدت دموعه تسيل بغزارة على ظاهر كفه.. كأنها تريد أن تطهرها مما أصابها من خزي وعار.. وتابع بحزن : والله ياأستاذ من ساعتها، لم أعد أسرق.!

فجأة هطل المطر بكثافة، وبرقت السماء بغضب.. فخرج مسرعا كأنه تذكر شيئا ما. صعدت إلى سطح المدرسة، رغم المطر الثقيل، فشاهدته يحمل لوحا خشبيا مصقولا.. ويضعه فوق جدران مثلثة الشكل لا يزيد ارتفاعها عن نصف متر.. وبداخلها جراء بيضاء كالثلج، تعوي من شدة البرد.

----------------------------
الوطن والحقيبة
عباس هادي عباس زوين (العراق)

رجعت من مدرستها وضعت حقيبتها التي كانت تضمها لصدرها بكل هدوء على سرير نومها النظيف، بدأت بخلع ملابسها المدرسية وتعلقها بعناية بعد أن تزيل ما علق بها من تراب بضربة أو ضربتين من يديها الصغيرتين، وضعت كل شيء بمكانه المخصص له، حرصت على نقل الحقيبة للدرج المخصص لها، إرتدت ملابس البيت وتهيأت للخروج من حجرتها لتناول شئ من الطعام، قبل أن تغلق باب الحجرة نظرت نظرة للتأكد بأن كل شئ بمكانه وخاصة حقيبتها التي تعشقها، كانت لا تعلقها كما تفعل البنات بل كانت تضمها لصدرها كما تضم الوالدة رضيعها البكر.

هي الأنثى الوحيدة وسط ثلاتة فتيان، تميزت عنهم بحبها الشديد لمدرستها بل وكل شئ متعلق بأمور دراستها، أعدت لنفسها طبقا من البيض المقلي مع كسرتين من الخبز العراقي المنزلي، تناولت بشهية لقيماتها وهي تفكر بواجباتها المدرسية، من أي مادة تبدأ؟ هل تبدأ من مادة العلوم التي تحبها والتي تعشق مدرسة العلوم لأنها تذكرها بأمها ؟ أم تبدأ من مادة الرياضيات المتفوقة بها لحد أن درجاتها لا تقل عن الدرجة الكاملة بأي حال من الأحوال؟ أم تبدأ بكراس اللغة الأنكليزية التي تجيدها إجادة تامة ؟ أم من اللغة العربية المتفوقة فيها؟ أخيرا قررت أن تبدأ بدرس التربية الوطنية، نعم أنه سهل بل وأسهل من السهل، هكذا فكر رأسها الصغير المحاط بجديلتيها المذهبتين وقد لفتا حول الرأس بإحكام فبدت وكأنها قد لبست تاجا مذهبا.

أحست بالشبع، غسلت الأطباق وأرجعت كل شئ لمكانه، وبعد إستراحة قصيرة تحدثت خلالها مع والدتها، ذهبت لحجرتها لكي تبدأ مشوار كل يوم من تحضير وكتابة وحفظ، تناولت كتاب التربية الوطنية، كان الموضوع يخص الوطن وبدأت بقراءة الأسطر الأولى : ( الوطن هو تلك الرقعة الجغرافية التي يولد فيها الأنسان وينشأ ويترعرع فيها، ويتلقى علومه بمدارسها، فحري بالمواطن الدفاع عن وطنه عند تعرضه لأي إعتداء، وحري بالوطن الحرص على المواطن وتقديم كل ما يحتاج من تعليم وخدمات وتمريض إلى آخره..، فأن للمواطن حقوقا من وطنه، وعلى المواطن للوطن واجبات ولكن الحقوق أولا ومن ثم الواجبات ) قرأت تلك العبارة بتمعن ولكنها أضافت من تلقاء نفسها الطاهرة : ( بل أن الواجبات أولا ومن ثم الحقوق، فهل يوجد شئ في الوجود أغلى منك ياوطن؟).

حفظت كل شيء وأنهت كل شئ، حان وقت نومها، أخذتها غفوة عميقة وهي تحلم و تحلم بالوطن، إستيقظت باكرا عند سماعها لضجة صادرة من داخل البيت لم تعتد على سماعها، وفجأة إقتحم رجال مسلحون حجرتها النظيفة وبأحذيتهم، ولطالما حرصت هي على عدم الدخول لها بنعليها، أمروها أن تأتي معهم، لم تفهم شئ، سحبها أحدهم من يدها الصغيرة بقوة، ألقاها بعدم إكتراث مع كل إفراد عائلتها قرب الباب، ياللهول !! رأت أن ما يقارب الخمسة عشر من هؤلاء الرجال المسلحين يطرقون أفراد عائلتها وهم شاهري السلاح نحوهم، لم تفهم شئ على الأطلاق، فتحوا الباب وأخذوا بإدخال كل أفراد العائلة داخل سيارة كبيرة مجهزة مسبقا وهم يصرخون (عجم.. عجم.. خونة إذهبوا لغير رجعة لبلادكم)، كانت هي آخر من أدخل بتلك السيارة، آه تذكرت حقيبتها وكتبها، أرادت الذهاب لأحضارها من داخل المنزل، لم يسمحوا لها بالنزول بل أشبعوها ضربا وشتما، صرخت: بالله عليكم دعوني أحضر حقيبتي، ففيها كل كتبي والمواد التي سندرسها اليوم، أرجوكم ..أرجوكم . تناثرت الكلمات من فمها الصغير الجميل، لم يكترث أحد لها، إستغلت الفتاة حدوث جلبة وفوضى بالمكان، إستطاعت الأفلات وهربت لداخل حجرتها، وألقت بنفسها على حقيبتها، طاردها إثنان من الرجال وأنتزعوا الحقيبة من يديها وألقوها بكل قوة على الأرض، تناثرت محتوياتها، صرخت الفتاة صرخة عالية مدوية، إرتبك الرجلان، قامت مرة أخرى بالأفلات من قبضتهم، جمعت محتويات الحقيبة بسرعة البرق ووضعتها كما كانت تعمل في السابق فوق الدرج المخصص لها وتناولت طبشورة ملونة كانت قربها وأحاطت جميع محتوياتها المدرسية بدائرة كبيرة، وكتبت بيديها المرتعشتين عبارة: ( أمانة الله ورسوله ).

في الطريق نحو الحدود إستفسرت من والدها، أخبرها : هؤلاء الرجال سوف يرحلوهم بالقوة لأن أصولهم ترجع لذلك البلد القريب من بلدها، سألت والدها : ولكنا تعلمنا اليوم وبدرس التربية الوطنية بأن الوطن هو المكان الذي نولد فيه، ألسنا قد ولدنا جميعا هنا، قال لها الأب : نعم بنيتي بل حتى والدي وجدي مولود هنا وقد خدمنا بالجيش جميعا وحاربنا أعداء الوطن، صرخت الفتاة : إذن بالله عليك إخبرهم بالحقيقة لأنهم لا يعرفون أرجوك.. أرجوك، أنا أحب وطني وأحب مدرستي وأحب زميلاتي وأحب معلماتي، واليوم بالذات عندنا درس عن الوطن.

دخل رجال آخرون بيتهم وأخذوا جميع محتوياته حتى وصلوا لحجرة الفتاة، أخذوا كل شيء فيها ولكنهم لم يأخذوا الحقيبة بل لم ينظروا صوب الدرج المحاط بالدائرة.

بعد خمس وعشرون سنة تغير كل شئ، النظام، الناس، هي نفسها لم تعد فتاة بل طبيبة مشهورة، إستطاعت إسترجاع البيت بالطرق القانونية، دخلت حجرتها والدموع جاهزة للوثوب من عينيها، طفرت تلك الدموع بحرارة وقوة عندما رأت أن كل شئ قد تغير في بيتها بإستثناء ما كان ضمن تلك الدائرة الكبيرة.
----------------------------
* كاتب وصحفي يمني مقيم بالسعودية.

 

 

 

أحمد زين