جمال العربية
جمال العربية
"صلوات في هيكل الحب" المتأملون في هذه القصيدة يقولون إنها أجمل قصائد الحب في الشعر العربي الحديث، وأكثرها شهرة وذيوعا. وهي شهرة ناتجة عن كونها صيحة جديدة في عالم التعبير الشعري عن تجربة الحب، بكل ما تحويه هذه الصيحة من جدة وأصالة، وإيقاع موسيقي متناغم، وإمتلاء بعالم من الصور الشعرية الفاتنة، والبناء الفني المحكم. تلك هي قصيدة "صلوات في هيكل الحب" التي أبدعها الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي، الشهاب الشعري الذي لم يكد يشع ويسطع ويكتمل نوره حتى اختطفته يد المنون وهو في ريعان الشباب، لم يجاوز من العمر خمسة وعشرين ربيعا، بين عامي 1909 و 1934. نشر الشابي قصيدته أول مرة في مجلة "أبولو" التي كانت تصدر في القاهرة معبرة عن اتجاه شعري جديد بين عامي 1932، 1934. وسرعان ما جذبت قصيدته الاهتمام وشدت الأنظار إلى وتر شعري جديد أو لغة شعرية جديدة، وتناول جديد لتجربة الحب في إطار من الخيال المجنح، والمشاعر التي تفيض سموا وروحية وشفافية، جعلت من محبوبته - التي يناجيها في قصيدته - كائنا سماويا يفيض رقة وطهرا، وملاكا من ملائكة الفردوس يحيي في الأرض روح السلام والمحبة، وربيعا تخصب به الدنيا، وتفيق على موكبه الحياة، وتنتشي روحه الكئيبة الحزينة بالحب وتشدو كالبلبل الغريد، فينطلق من جديد وتر الطموح والتوهج، ويحيا ما كان قد جف ومات من عذب الأماني وحلو التغريد. فالمحبوبة روح الربيع وأنشودة الأناشيد وسحر الشباب، وهي موسيقية اللفتات والخطوات، وهي الحياة في أجمل صورها وأنضرها وأحفلها بالبهجة والأمل والإشراق، وهي فوق حدود الخيال والشعر والفن، وهي قدس الشاعر ومعبده وصباحه وربيعه ونشوته وخلوده وهي معبوده الذي يخشع دوما لروعته وجلاله وجماله. المحبوبة رمزا للعالم فهل رأى الناس والشعراء - قبل الشابي - محبوبة على هذه الصورة الفاتنة الآسرة المكتملة لونا ونغما وعطرا؟ وهل عرف شعرنا العربي - قبل هذه القصيدة الفاتنة - مثل هذا الافتنان في رسم ملهمة الشاعر وتجسيدها باعتبارها وعاء ورمزا لكل ما حوله من جمال: الطبيعة، والكون، والوجود، والربيع، والصباح والدفء والحياة والنجوم والطهارة والأناشيد والموسيقى والنشوة والخيال! يقول أبو القاسم الشابي:
هذا حب يذكرنا بعشق الشعراء العذريين أمثال قيس ابن الملوح وجميل بن معمر وكثير وعروة بن حزام وغيرهم، بل هو يذكرنا بعشق المتصوفة الذين تفانوا في حبهم، وامتزج فيه العاشق والمعشوق، والإنسان بالحقيقة الكلية المطلقة، وبلغوا مرتبة رفيعة في سلم الصعود والوصول إلى حيث سلام الطمأنينة وقدسية الوصال. من هنا تلتمع في القصيدة - كحبات العقد - مفردات الطهارة والتقديس والملاك والفردوس والسلام والمقدس والمعبود والقدس السامي والآيات وقدسي ومعبدي. وهي ليست مجرد مفردات متناثرة تضيء وتلتمع ثم يخبو ضوؤها دون أن يتحول إلى نهر من الضياء المتدفق، والإشعاع المستمر. إنها مفردات تعبر عن "فيض" من الإحساس اكتسى فيضا من الصور وعالما من النقاء والتسامي. اللغة فيه معادل لجلوة الشعور، والصورة الشعرية فيه كرمة متخمة بالرحيق المختوم، والظلال الموحية يتناغم فيها اللون والعطر والضوء، وتتراقص بينها الخطوات السكرى والأناشيد الشادية بروعة الجمال، وسحر الإيقاع. يفجؤنا هذا المدخل والاستهلال الشعري: "عذبة" أنت ليحدث صدمته التركيبية التي سرعان ما تنداح لتفسح المجال لخفقة إيقاعية، ثم هذه الصيغة المتسائلة المندهشة الناطقة بالإعجاب المطلق والحيرة المزلزلة الجميلة الطائرة باللب والقلب: "أنت ما أنت"؟ ثم تجيء الإجابة المؤكدة، أنت فجر من السحر، أنت روح الربيع، أنت الحياة في صورها المتعددة: القدس السامي، رقة الفجر- رواء الشباب - أنشودة الأناشيد - إلى آخر هذه الاستلهامات التي تنطق بقدرة الشاعر على تفجير جماليات الصورة الشعرية، واستلهام الطبيعة التونسية الفاتنة - التي ملأت عليه عالم طفولته وصباه، والذاكرة الباكرة تلتقط وتختزن وتعي وتتأمل: من هنا كان هذا الفيض من صور الطبيعة الأخاذة، وهذا الموكب الشعري اللغوي المصاحب لهذا الفيض من الجمال الطبيعي، بعد أن امتلأ الشاعر وهو ينقل البصر بين غابات الصنوبر والثلوج الراقدة على قمم الجبال، ويتأمل حياة الرعيان في الوديان، يعيشون حياة الفطرة والنقاء والبساطة، وحياة من استوطنوا المدن وحرموا مصادر هذا الجمال وأفقه المترامى بلا حدود. ينفتح عالم قصيدة الشابي أيضا على رصيد ضخم من تجربة الحياة - بالرغم من عمره القصير - تجلى في تدفق معين شاعريته، وازدهار ريشته المصورة التي أبدعت أجمل اللوحات والألوان، وشدو قيثارته بأعذب الألحان والأنغام.. في دائرة شعرية تجمع مدارات الحب والطبيعة والنفس الإنسانية والشجن الوجودي الحميم. لغة عصرية وتشف اللغة في شعر الشابي وتصفو، إنها لغة عصرية لا أثر فيها لقديم موروث، أو لمختزنات الذاكرة، أو منجزات الآخرين. كل ما تحمله هو من عمل الشابي وابتكاره وصنعه المتميز. وهي تقدم لنا نموذجا لتحرر الشاعر الحديث والمعاصر من أسر الذاكرة، وانطلاقه إلى بناء لغته واصطناع معجمه وعالم صوره وصياغاته، وهو ملمح إبداعي عند الشابي، يتطلب دراسة ميدانية معمقة، واضعين في الاعتبار مدى تأثير هذه اللغة الشعرية على معاصري الشابي، وعلى من جاء بعده من الشعراء، حتى كبار الموهوبين منهم. ولعل الشاعر محمود حسن إسماعيل - الذي واكبت بداياته الشعرية بدايات الشابي والتقى شعره مع شعر الشابي على صفحات مجلة أبولو في مستهل الثلاثينيات - أن يكون واحدا من هؤلاء الشعراء كبار الموهبة الذين لم يفلتوا من أسر شاعرية الشابي وسيطرة صياغاته ونموذجه اللغوي، ويتجلى هذا التأثير في قصيدته "أنت دير الهوى وشعري صلاة" التي يضمها ديوانه "هكذا أغني" الذي نشرت طبعته الأولى عام 1938 (قصيدة الشابي نشرت في مجلة أبولو عام 1933). والشابي يتحدث عن "صلوات في هيكل الحب" ويجعلها عنوانا لقصيدته، ومحمود حسن إسماعيل يتحدث عن "دير الهوى وشعري صلاة" فهل هناك قرب في الرؤية والاستلهام أكثر من هذا؟ ثم هو يصطنع في قصيدته الصيغة نفسها التي بدأها الشابي، في تكراره لتعبير "أنت" مرتبطا بشتى مجالات التصور والشعور طيلة ثمانية عشر بيتا متصلة يقول في بعضها:
وليست مصادفة تلك اللمحات الروحية التي تلتمع في سماء القصيدتين وفضائهما من الصور واللغة والتراكيب، ولا ذلك المعجم الذي ينطق بالسمو والتطهر والصفاء والنقاء ولا ذلك المشترك في استلهام مجال الطبيعة ممتزجة بفيض الشعور الإنساني العارم منسكبا على ضفاف القصيدتين. وستبقى قصيدة "صلوات في هيكل الحب" للشابي نموذجا لعبقرية اللغة العربية وجمالياتها في الإبداع الشعري الحديث.
![]() |
|