لكن السلطان لم يصمت!!

لكن السلطان لم يصمت!!

أثار المقال الذي نشرته (العربي) في العدد (504) شهر نوفمبر 2000 تحت عنوان (تواطؤ والي القدس وصمت السلطان عبدالحميد وراء ضياع أراضي فلسطين) بعضاً من ردود الفعل منها المقال التالي:

قرأت مقال الباحث اللبناني جان دايه الذي يتهم فيه السلطان عبدالحميد بأنه لم يكن ضد الاستيطان اليهودي في فلسطين؟!

ومع أنه لا توجد أي قرائن تشير إلى ما يدّعيه فيما أورد من مقتطفات من بعض المجلات المعاصرة، فإنه بنى اتهامه استنباطاً من عدم عزل السلطان لوالي القدس حينذاك (كاظم بك) الذي قال: إنه كان يتلقى الرشاوى من الصهاينة لقاء مساعدتهم على شراء الأراضي في فلسطين، فضلاً عن موافقة السلطان على حكم بالإعدام صدر بحق مَن كان يكتب المقالات ضده.

العجيب أن توجه إلى عبدالحميد تهمة في واحد من أكثر مواقفه صرامة وصلابة، موقف لم يختلف فيه اثنان من الباحثين والمؤرخين على كثرة ما وجّه إليه من افتراءات وأكاذيب تناولت جوانب عدة من سياساته وحياته.

وإذا كانت تلك الادّعاءات تفتقر إلى الأدلة، فإن موقف السلطان عبدالحميد الرافض للمشروع الصهيوني على الرغم من الأموال الطائلة التي عرضت عليه بالإضافة إلى تسهيلات لتخفيض مديونية الدولة العثمانية، ومحاربته بكل الوسائل شراءهم الأراضي للاستيطان، كل ذلك تؤيده وتوثقه قرائن صارخة من مصادر لا تقتصر على الموضوعيين من محبّيه، وإنما تتجاوزهم إلى خصومه.

موطئ قدم

لقد بعث قادة الصهاينة الوفد تلو الآخر يتوسلون إليه أن يقطعهم المزارع السلطانية ويسمح لهم بإنشاء بعض المزارع، وكان الجواب دائماً بالرفض. وقد رأس نولتسكي - وهو يهودي مقرب للسطان - آخر وفد من تلك الوفود.

وأقتطع فيما يلي ما ورد في مذكرات هرتزل عن جواب السلطان:

(قال لي السلطان: إذا كان هرتزل صديقك بقدر صداقتك معي نفسها، إذن انصحه ألا يمضي خطوة واحدة في هذا الاتجاه. لا أستطيع أن أبيع موطئ قدم من الأرض لأنها ليست لي، وإنما هي لشعبي. لقد حصلوا على هذه الإمبراطورية وغذّوها بدمائهم، وستغرقها بدمائنا مرة ثانية قبل أن نسمح بسلخها عنا. اثنان من ألوية جيشنا في سوريا وفلسطين قتلوا إلى آخر رجل فيهم، وسقطوا صرعى على أرضها لم يستسلم منهم أحد. لا يمكنني أن أتخلى عن أي جزء منها، يمكن لليهود أن يوفروا ملايينهم، فإذا ما تجزأت إمبراطوريتي، فقد يتمكنون من أخذ فلسطين بلا مقابل، إلا أنها لن تقسم إلا على جثتنا، ولن نقبل بتشريحها لأي غرض كان).

ولم يكتف السلطان بذلك، وإنما أصدر عدداً من الإرادات السنية، يحظر فيها على ولاته السماح لليهود شراء أراض في فلسطين واستقرارهم فيها، وفيما يلي أحد تلك المراسيم وتدعى بالعثمانية (فرمان).

الفرمان الأول: 21 ذي القعدة سنة 1308 هـ:

(لا يسمح بإجراء ينتج عنه قبول اللاجئين اليهود المطرودين من كل بلد، يترتب عليه إنشاء حكومة موسوية في القدس مستقبلاً، وبما أن هؤلاء ليسوا من مواطني إمبراطوريتنا فيتحتم إرسالهم إلى أمريكا. يرفض قبولهم وقبول غيرهم في البلاد، بل يجب تهجيرهم إلى بلاد أمريكا بوضعهم في السفن دون أي تأخير، وعرض الموضوع علينا بعد اتخاذ قرار خطير بشأن تفاصيله، لماذا نقبل في بلادنا من طردهم الأوربيون المتمدنون وأخرجوهم من ديارهم؟

لا محل لقبولهم سيّما وعندنا فتنة أرمنية.

نطلب إلى مقام الصدارة اتخاذ قرار عام في هذا الموضوع دون حاجة لعرض الموضوعات فيما بعد على أحد، وفعلاً أصدر الصدر الأعظم قرارات تنفيذية موجّهة إلى متصرف القدس عن طريق وزارة الداخلية، تضيق هذه المقالة عن نشرها لطولها لما فيها من تفاصيل وتحذيرات مشددة.

إلا أن السلطان لم يقتصر على الصدر الأعظم والمنصرف، وإنما أصدر فرماناً موجها إلى السلطات العسكرية مباشرة، يأمرها فيها بمنع قبول اليهود أو إسكانهم في أرض فلسطين وفيما يلي أحدها:

الفرمان الثاني: إلى اللجنة العسكرية السلطانية:

(بما أن قبول هؤلاء الموسويين ومنحهم الجنسية العثمانية وإسكانهم أمر ضار، وبما أن أي تسامح ينتج عنه مستقبلاً إقامة دولية موسوية، فيتعين عليه عدم قبولهم في البلاد، وعلى اللجنة العسكرية أن تقوم على ضوء هذا العرض القرار على مقام الصدارة.

ولكي يحول السلطان دون استقرار اليهود المهاجرين في فلسطين خفية، أصدر أمراً بتزويدهم بجوازات سفر حمراء بمنزلة وثائق إقامة لمدة ثلاثة أشهر لتمييزهم عن غيرهم، وكتب إلى السلطات في فلسطين لملاحقتهم وإخراجهم، كما كتب إلى جميع السفراء ورجال المخابرات في أوربا لمراقبة تحرّكات الصهاينة وحضور مؤتمراتهم وإرسال تقارير عنهم. هذه أوامر السلطان عبدالحميد وتلك إجراءاته وتدابيره ومواقفه، والحكم إنما يكون على أساس المواقف والأفعال لا على أساس قعود السلطان عن عزل وال منهم بتلقي الرشوة من الصهاينة ليغمض عينيه عن شرائهم الأراضي (لا نعرف مدى صحة اتهامه) مع علمنا عن حرصه على عزل أو نقل كل وال تكثر الشكاوى عنه، أوعلى أساس موافقة السلطان على حكم بالإعدام قضائي لا نعرف حيثياته أو ظروفه، وما ورد في المقال صادر من طرف واحد والتقاضي في المحاكم إنما يكون بين طرفين خصمين، ولا أحد ينفي أن يكون للصهاينة وبشكل غير مباشر دور فيه.

إن مواقف عبدالحميد المتصلبة أمام المشروع الصهيوني جعلهم يوقنون باستحالة تحقيقه طالما بقي على سدة الحكم وقد عبّر هرتزل عن ذلك بقوله: (لقد فقدنا الأمل في تحقيق آمال اليهود في فلسطين، فإن اليهود لن يستطيعوا دخول الأرض الموعودة طالما ظل عبدالحميد قائماً في الحكم مستمراً فيه).

وقوف السلطان عبدالحميد ضد المشروع الصهيوني ومحاربته له كان أحد أهم الأسباب التي أدت إلى خلعه باتفاق جميع المراقبين والمحللين السياسيين.

لقد رأس أحد الوفود الصهيونية يهودي يدعى (إيمانوئيل قره صو Emanuel Carasso) من سلانيك قام بتأسيس (محفل مقدونيا Macedonian Resorta الملحق بمحفل إىطاليا، كما أنه أحد مؤسسي جماعة الاتحاد والترقي الذين أدخل قادتهم من عسكريين ومدنيين في ذلك المحفل، وحين خرج من عند السلطان خائباً قال لتحسين باشا كبير أمناء القصر: سأعود ولكن ستكون لعودتي مهمة أخرى، وفعلاً كان واحداً من اللجنة الرباعية التي أوكل إليها إبلاغ السلطان قرار خلعه.

والمراقبون المعاصرون متفقون على أن ثورة 1908 التي قامت بها هذه الجماعة كانت نتيجة مؤامرة اشترك فيها جماعة تركيا الفتاة، واليهود والاشتراكيون والماسونيون الأحرار Free masons.

وإذا كان من غير المستبعد أن يكون الصهاينة على الرغم من كل تلك الإجراءات المتشددة قد لجأوا إلى وسائلهم غير المشروعة للحصول على بعض الأراضي، فذلك لا يمكن أن يتحقق في ظل تلك الملاحقات إلا في حدود ضيقة، وفي السنوات القلائل الأخيرة من حكم السلطان عبدالحميد، لا خلال 32 سنة من عهده الذي بدأ عام 1876، لأن حمى الاستيطان تصاعدت وتسارعت بعد اختيارهم فلسطين لإقامة دولة إسرائيل، وذلك في مؤتمر بازل بسويسرا عام .1897

أما الاستيلاء على أراض شاسعة، واسعة وإقامة المستوطنات، إنما حدث بعد خلع السلطان وتسلم جماعة الاتحاد والترقي مقاليد الحكم الذين فتحوا باب الهجرة والاستيطان على مصراعيه أمام أصدقائهم اليهود مكافأة لهم - على حد تعبيرهم - على مساعدتهم في الوصول إلى السلطة.

لم يصمت السلطان وإنما حارب الاستيطان الصهيوني حرباً قل نظيرها في تاريخ القضية الفلسطينية.

 

محمد طه الجاسر