سلامة البشرية في سلامة البيئة

الملاريا تجتاح العالم من جديد
ومملكة النبات تقف لها بالمرصاد

لعلنا نذكر- الكبار منا في الأقل- حملة مكافحة الملاريا الواسعة النطاق التي قامت بها منظمة الصحة العالمية فيما بين الخمسينيات والستينيات من هذا القرن. كانت حملة عظيمة ولا ريب، وقد استهدفت إبادة الحشرة الناقلة للملاريا، وذلك باستعمال المبيد الجديد آنذاك (د. د. ت) واستهدفت الحملة بالتالي إبادة مرض الملاريا وإنقاد البشرية من مرض فتاك طالما احتل المكانة الأولى بين الأمراض الفتاكة في المناطق الاستوائية. ونجحت الحملة دون أدنى ريب.. ولكن نجاحها لم يبلغ الكمال ولم يحقق نسبة 100%!

فقد عادت الملاريا إلى الظهور ثانية في مطلع السبعينيات فاجتاحت نحو (100) قطر من أقطار العالم، وأصابت حوالي (350) مليونا من سكانه. وبلغ عدد الذين ماتوا بسبب الملاريا مليون نسمة سنويا في إفريقيا و(50) مليونا في كل من أندونيسيا وأمريكا الجنوبية، وذلك طيلة عقد الثمانينيات. وقل مثل ذلك في الهند حيث بلغ مجموع من أصيبوا بالملاريا في الماضي- قبل الحملة- (100) مليون نسمة، ثم مالبث هذا المجموع أن انكمش وتضاءل عقب الحملة حتى بلغ (40) ألف نسمة ولكنه عاد فقفز في السبعينيات لدى عودة الملاريا إلى الظهور حتى بلغ مجموع وفيات الملاريا في شبه القارة الهندية (50) مليون نسمة سنويا!

أما سبب العودة فمرده إلى المناعة التي اكتسبتها بعوضة الأنوفلس، الحشرة الناقلة لمرض الملاريا، وقد اكتسبتها ضد المبيد الذي استهدف إبادتها، وذلك تبعا لرشها به مدة طويلة.

غير أن ناقل الملاريا- والحق يقال- ليس أنثى الأنوفلس، بل هو طفيلي البلازيديوم الذي ينشأ في معدة تلك الأنثى ويقضي المرحلة الأولى من حياته داخلها، ثم ينتقل إلى جسم الضحية بواسطة اللعاب، ويستقر فى كبد الضحية حيث ينمو ويتكاثر. ثم ينتقل الطفيلي في المرحلة الثالثة إلى مجرى الدم فتحدث الإصابة بمرض الملاريا. وعندها ترتفع الحرارة وتشتد، ويتضاعف التعرق. ويعقب ذلك تدريجيا الشعور بالبرد والقشعريرة. ولطالما انتهت تلك الأعراض بالموت. لا عجب إذن أن اعتبرت الملاريا في طليعة الأمراض الفتاكة في المناطق الاستوائية في التاريخ البشري كله. ومن طريف ما يذكر هنا أن الاسم (ملاريا) إنما يعني في الإيطالية "الهواء الفاسد"، وقد أطلقوه عليها نظرا للاعتقاد الخاطئ والسائد آنذاك بأن الملاريا تنتقل عبر الهواء وبواسطة ذراته..

نأتي الآن إلى عقار الكينا، علاج الملاريا الكلاسيكي، وهو دواء نباتي مستخلص من لحاء شجرة. كنكونا الاستوائية التي لا تنمو في بلادنا... ولعلكم تعرفون أيضا القصة الطريفة التي تروى عن اكتشاف هذا العقار.. أو لعلكم لا تعرفونها.

تعود بنا هذه القصة إلى سنة (1630) وتنقلنا إلى ليما عاصمة البيرو، فقد أصيبت السيدة الأولى في تلك البلاد، زوجة حاكمها العام، المركيز كنكونا، أصيبت بالملاريا، حتى إذا فشل كبار الأطباء في إنقاذها وأشرفت على الموت، اضطر زوجها إلى اللجوء إلى الطب الشعبي- طب النبات- وما أسرع ما شفيت المركيزة لدى تناولها مسحوق شجرة الكنكونا، بل قل مسحوق لحاء تلك الشجرة، وهو الخامة التى تحتوي على عقار الكينا، علاج الملاريا السحري. وقد بلغ من منافع الكينا وفوائدها أن اعتبرها العلماء بمثابة الهبة العظيمة التي جادت بها مملكة النبات على البشرية، ولكنها لم تكن الهبة الوحيدة.

فقد عادت المملكة المعطاءة أخيرا فجادت بهبة أخرى عظيمة هي النبات الصيني المعروف باسم (Artimesia apiacus) (wormwood) وقد درج أهل الصين منذ أقدم العصور على معالجة حمى الملاريا بالنبات المذكور.. ولكن في حالته الخام ودون تصنيع. ومع ذلك فقد أثبت فاعلية نادرة، وظفر بالأوسمة والميداليات الذهبية في معرض الاختراعات العالمي. من هنا قام التعاون الوثيق بين الهيئات العلمية في الصين وفي كندا منذ نحو سنتين من أجل تطوير الأرتيميزيا الصينية واستخلاص عقار للملاريا من محتوياتها، ليتم تصنيعه وفق أحدث الأساليب.

بقي أن نذكر أن كلتا الشجرتين- الأرتيميزيا الصينية والكنكونا الاستوائية- تزخران بمواد علاجية عديدة أخرى غير الكينا. فقد اكتشفوا في شجرة الكنكونا أخيرا (20) مادة قلوية ذات فاعلية علاجية لعدد من أمراض القلب.. واكتشفوا في الأرتيميزيا قدرة عجيبة على معالجة البواسير والشفاء منها، وذلك في منأى عن الجراحة.