هل تأخذ إسرائيل بالثقافة ما عجزت عنه بالاحتلال؟

هل تأخذ إسرائيل بالثقافة ما عجزت عنه بالاحتلال؟

في العدد (498) لشهر مايو 2000 مقالان لموضوع واحد عن القضية الفلسطينية، الأول بقلم الأستاذ عرفة عبده علي تحت عنوان (أسطورة الهولوكست)، والثاني بقلم الدكتور محمد عيسى صالحية تحت عنوان (الصليبيات والصهيونيات)، والمقالان مكمّلان لبعضهما البعض الآخر، ويتجاوران في النشر، حتى أن القارئ قد يحس بأن المسئولين بالمجلة تعمّدوا نشرهما متجاورين بسبب هذا التكامل بينهما، ولأن كلا منهما يثري الآخر ويضيف إليه أهمية وخطورة.

فالمقال الأول يتحدث عن التعاون الوثيق الذي نشأ بين الزعماء الصهاينة وأعداء السامية في الدول الأوربية لتدبير وتنفيذ المجازر وحملات الإبادة ضد اليهود، بهدف دفعهم للهجرة إلى ما يسمى بأرض الميعاد، فالمنظمات الصهيونية كانت لها وجهة نظر تتلخص في أنه يجب ترك هتلر يقتل ويبيد بعضاً من اليهود حتى يدرك العالم كله أن الحل الوحيد هو إقامة وطن قومي لهم في فلسطين، بل أعلنت هذه المنظمات صراحة أن هدفها الأكبر هو فلسطين وليس إنقاذ اليهود.

والمقال الثاني يربط بين الحركة الصهيونية هذه وبين الغزوة الصليبية التي خرجت في القرن الحاي عشر الميلادي (وكأنهما فلقتان أخرجتا من بذرة واحدة، فالمكان واحد هو فلسطين. وهما نتاج مشاكل أوربية خالصة، كما أن الأيديولوجية الدينية كانت هي المطية في الغزوتين معاً، واللتين اعتمدتا على المال والسلاح والمعونات الأوربية، واستغلالهما لحالة الانقسام والتشرذم التي خيّمت على علاقات القوى العربية والإسلامية في المنطقة في العهدين).

والمقالان أثارا في نفسي الأسى والشجن حتى خرجتُ بهذا التعقيب الذي يتلخص في الآتي:

إن الحملات الصليبية لم يكن لها أن تعود مرة أخرى في ظل المتغيرات الكثيرة التي حدثت في القرن العشرين، وهذه حقيقة تدركها القوى الغربية جيدا، لهذا فقد لجأت إلى خلق البديل بزرع إسرائيل في المنطقة العربية نفسها لتحل محلها.

بعض المنظمات الغربية - الرسمية منها والشعبية - قد تكون أشدّ عداء لليهود من الدول العربية ذاتها، أو هكذا كانت في الماضي عندما كان يقطنون بلادهم ويشاركون أهلها الرزق، ولم تخف حدّة العداوة إلا بعد أن ترك اليهود بلادهم ورحلوا إلى فلسطين، فهذه الدول الغربية سعت حثيثاً للتخلص من اليهود بطرق سلمية وغير سلمية إلى أن التقت الرغبتان، رغبة اليهود في النزوح إلى فلسطين، ورغبة الغرب في إبعادهم عن بلادهم، وطبيعي أن تنطفئ جذوة العداء الآن بعد قيام دولة إسرائيل واطمئنان الغرب لاستقرار اليهود فيها، ليحل محلها الشعور بالذنب، مما أدى إلى الاندفاع نحو تأييد الصهيونية وتقديم المساعدات لها.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: ماذا يمكن أن يكون عليه حال الغرب إن لم يكن قد نزح عنه اليهود حتى الآن؟ علماً بأن العرب لا يعادون اليهودية، بل يعادون الصهيونية فقط، والعكس صحيح بالنسبة للغرب الذين يؤيدون الصهيونية.

منذ القدم والشعب اليهودي يعتبر من الشعوب المعزولة، وهم يحسّون بهذه العزلة، لهذا يسعون دائماً إلى التفوق والتفرّد، ولا أحد ينكر ما يتمتع به اليهود من صفات تميّزهم عن غيرهم كالذكاء والعلم والقدرة على إدارة المشروعات والاقتصاد، إلا أن ذلك قد جرّ عليهم الوبال وسخط الآخرين، وهم - أي اليهود - لهذا السبب نفسه يشعرون بالتوجس الدائم من الغير، لهذا فهم يسعون دائماً إلى الحيطة والحذر والرغبة في تأمين أنفسهم بكل السبل وبأحدث أنواع السلاح لكي يشعروا بالقوة والتفوّق على جيرانهم، غاضّين النظر عما قد يسببه ذلك من تخوّف الآخرين وارتيابهم.

ولا ينكر أحد أيضاً أن إسرائيل تتفوّق على جيرانها العرب في السلاح والتكنولوجيا، كما أنهم يحتفظون بترسانة من الأسلحة النووية وغيرها من الأسلحة الفتّاكة، لكنها رغم ذلك لا تستطيع أن تفرض سيطرتها على جيرانها، علاوة على أن فكرة الاحتلال العسكري الآن باتت فكرة عقيما وغير مجدية، فهي لا تستطيع أن تحتل أرضاً بالأسلحة الذرية.

ولعل إسرائيل قد أدركت أخيراً هذه الحقيقة بعد أن خسرت الكثير من الأرواح والأموال على مدى أكثر من خمسة عقود، هي تاريخ إسرائيل نفسها منذ قيامها حتى الآن، لذلك فقد بدت كمن تعيد النظر في احتلال الأرض، بل إنها قد تخلت بالعقل عن أراض كثيرة كانت قد احتلتها من قبل في حروبها السابقة، بداية من أرض سيناء، إلى بعض أراضي الضفة الغربية، ثم أخيراً جنوب لبنان... والبقية تأتي.

وهذا لا يعني أن فكرة الاحتلال والرغبة في الهيمنة قد ولّت ولن تعود بالنسبة لإسرائيل أو بالنسبة لغيرها من الدول، ففكرة الاحتلال موجودة حتى اليوم، ولكن تغيّرت ملامحها، فالاحتلال أو الأسر بمعناه اليوم ليس هو أن تشهر سلاحك في وجه الآخر وتخضعه لإرادتك، إنما الأسر الآن أصبح له أدوات أخرى كثيرة تحرّكها أصابع ماهرة، المال يمكن أن يأسر، الجمال يمكن أن يأسر، الانبهار بالأضواء والتكنولوجيا يمكن أن يأسر، ثقافة الآخرين يمكن أن تأسر، ومع الأسف فإن البعض منا قد وقع في الأسر وهو لا يدري!

البحث عن حياة الدعة والسهل من الطعام قد يوقع أيضاً في الأسر، إلا أن أخطر أنواع الأسر هو فقد الهوية أو مجرد التخلي عن القيم المتوارثة والتقاليد العريقة لشعب من الشعوب.

ولا أعتقد أن هذا ينطبق على الشعب العربي الذي مازال يحتفظ بأصالته وحضارته، وقد أخطأ بلفور وكل من أيّده حين ظنّوا أن فلسطين أرض بلا شعب وبلا تاريخ، وأنه يمكن للغزاة الصهاينة أن يتخلصوا من سكانها العرب كما تخلص من قبل غزاة أمريكا من سكانها الأصليين، ولكن هناك فرقا.

وقياساً على ذلك، فقد تكون رغبة إسرائيل الآن في السلام ما هي إلا محاولة جديدة لفرض الاحتلال والسيطرة، ولكن بأدوات أخرى ثقافية واقتصادية وغيرها من الأدوات، حين تبدو إسرائيل وكأنها عروس ترتدي حلّة السلام البيضاء.

ولكن ليس لإسرائيل البساط العريض الذي يستطيع أن يغطي كل المساحات الهائلة من الأرض العربية، ومن المستبعد أن تؤثر عدة ملايين من اليهود فيمن يزيدون عن أربعين ضعفاً من العرب، فلا يمكن أن تلوّن كل هذه الأراضي الشاسعة بلون الصهيونية، والأقرب إلى التصوّر هو أن تذوب هذه الأجناس الصهيونية الدخيلة في البوتقة العربية، وأن تتسرّب في رمالها الناعمة كما تتسرّب قطرة الماء حين تسقط فوق صحراء عطشى، فالجبال والسمرة وطبائع الأهل، كل هذه ستطغى على أي قوى وطموحات أخرى.

وعلى سبيل المثال، فقد ولج أرض مصر أجناس وأجناس، من تُرك ويونان وأرمن وغيرهم، أين هي الآن؟ كلها ذابت في الطبيعة المصرية، كذلك الحال بالنسبة لبلاد الشام وبلاد المغرب الغربي وغيرها.

ومالم تستطع إسرائيل أن تأخذه بالحرب تريد اليوم أن تأخذه بالسلام، وذلك عن طريق اختراق الجدار العربي الصلد الذي يحيطها من كل جانب ويعزلها، فإن هذه العزلة هي أشد ما يؤرّق إسرائيل، ولك أن تتخيل إنساناً يعيش بمفرده وسط مجموعة من الناس لا يبادلونه الودّ ولا يمدّون إليه يـداً، وما يمكن أن يؤثـر فيه ذلك مـاديـاً ومـعنوياً.

لذلك فإسرائيل تسعى إلى التطبيع الكامل مع جيرانها العرب، إلا أن كل ما أنجزته في هذا المجال هو التطبيع على المستوى الرسمي فقط، وفي الشكل دون المضمون.

ولعل مناحم بيجن قد أصابه الاكتئاب بسبب هذه الحقيقة المرّة، فقد كان يظن أن الأبواب ستنفتح على مصراعيها، باباً بعد باب، وسيستطيع الفريق القومي الإسرائيلي لكرة القدم أن يلعب في استاد القاهرة مع المنتخب القومي المصري، ولكن هذا لم يحدث، وأظنّه لن يحدث إلا إذا تخلت إسرائيل عن مطامعها المعلن منها وغير المعلن.

 

عادل شافعي الخطيب