مرفأ الذاكرة

مرفأ الذاكرة

الكتابة... هي الحياة

لم أكن أتصوّر، حتى في الأربعين من عمري، أنني سأصبح كاتباً معروفاً، فقد ولدت، كما هو معروف عني، بالخطأ، ونشأت بالخطأ، وكتبت بالخطأ أيضاً لنبدأ بالكلام عن حياة الطفولة، هذه التي أصبحت بعيدة جداً الآن، وكل ما أذكره عنها أنني بدأت رحلة التشرد وأنا في الثالثة من عمري، وهذه الرحلة، من حيث هي ترحال مأساوي في المكان، عمرها الآن سبعون عاماً، أما رحلتي في الزمان، فهي أبعد من ذلك، وستبقى ما بقيت، بسبب أن التأمل، التلفت، الاستشراف، تمثل الوعي الأول للوجود، وكل هذه الذكريات التي تنثال في الخاطر، أصبحت مرنقة الآن، وأنا ألعنها لأنها تغتالني بلا رحمة.

والدتي اسمها مريانا ميخائيل زكور، وقد رُزقت بثلاث بنات كنّ، بالنسبة لذلك الزمان، ثلاث مصائب، عانت منهن الكثير الكثير، فالوسط الفقير إلى حد التعاسة، كان يشكّل عقلية سلفية بالغة القسوة، وقد تعاون هذا الوسط، وما فيه من ظلم ذوي القربى، على إذلال والدتي، باتهامها أنها لا تلد إلا البنات، وكان المطلوب أن تلد المرأة الصبيان، وفي الأقل الأقل، أن تلد صبياً بعد بنت، لكن القدر شاء أن تحمل وتلد البنات الثلاث بالتتابع، الأمر الذي كان يحمل إليها مرارة الشقاء، بالتتابع أيضاً.

وستقول لي أمي، حين أكبر: (اسمع يا حنا! أنت ابن الشحادة، فقد شحدتك من السماء، منذ تزوجت أباك، وفي كل مرة كنت أحمل فيها، كانت السماء تعاقبني، فأرزق ببنت، أنا التي كنت أسألها الصبي، أسألها أنت، وأنت لم تأت إلا في الحمل الرابع، الذي بكيت فيه من الفرح، بينما كنت، قبل ذلك، أبكي من الحزن. لقد منحتني السماء إياك بعد طول انتظار، وطول معاناة، لكن المنحة كانت، حتى مع الشكر، منحة مهددة بالأمراض، والخوف عليك منها، ثم الدعاء إلى الله، في أن تعيش، كرمى لي، حتى لا أعيش الخيبة من جديد، وهذا ما حدث، فقد ولدت عليلاً، ونشأت عليلاً، وكان الموت والحياة يحومان حول فراشك، الذي كان طرّاحة على حصيرة في بيت فقير إلى حد البؤس الحقيقي، كنت شمعة تنوس ذبالتها في مهب ريح المرض، وكنت أسأل الله، وأنذر النذور، وأسأل الريح، بكل ما في الابتهال من ضراعة، ألا تنطفئ الشمعة التي كنتها، حتى لا أفجع فجيعة تودي بي إلى القبر، وشاء الله، سبحانه وتعالى، أن تعيش، في قلب الخطر، وهذا الخطر، لازمك حتى الشباب، وعندها تحوّل من خطر الموت إلى خطر الضياع، في السجون والمنافي، هذه التي أبكتني بكاء مضاعفاً، خشية ألا أراك، وأنت تعطي نفسك للعذاب في سبيل ما كنت تسمّيه التحرر من الاستعمار الفرنسي، وتحقيق العدالة الاجتماعية!).

هكذا ولدت في قلب الخطر، وترعرعت في جوف حوته أيضاً، وناضلت ضد هذا الخطر بلا هوادة، فكان المبدأ الذي شببت عليه، عاملاً أساسياً في شفائي الجسدي والنفسي، لذلك قلت يوماً، بعد أن صرت كاتباً: (أنا كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين) فالكفاح له فرحه، له سعادته، له لذّته القصوى، عندما تعرف أنك تمنح حياتك فداء لحيوات الآخرين، هؤلاء الذين قد لا تعرف لبعضهم وجهاً، لكنك تؤمن، في أعماقك، أن إنقاذهم من براثن الخوف والمرض والجوع والذل، جدير بأن يضحى في سبيله، ليس بالهناءة وحدها، بل بالمفاداة حتى الموت معها أيضاً.

إن وعي الوجود عندي، ترافق مع تحويل التجربة إلى وعي، وكانت التجربة الأولى في حي (المستنقع) الذي نشأت فيه في اسكندرونة، مثل التجربة الأخيرة، حين أرحل عن هذه الدنيا، ومثل تجربة الكفاح ما بينهما، منذورة كلها لمنح الرؤية للناس، لمساعدتهم على الخلاص من حمأة الجهل، والسير بهم ومعهم نحو المعرفة، هذه التي هي الخطوة الأولى في (المسيرة الكبرى) نحو الغد الأفضل.

تحقيق الإنسانية

لقد تقضى العمر، في حلقاته المتتابعة، بشيء جوهري لدي: هو تحقيق إنسانيتي، من خلال تحقيق إنسانية الناس، أنفقت طفولتي في الشقاء، وشبابي في السياسة، ولئن كان الشقاء قد فُرض علي من قبل المجتمع، فعشت حافياً، عارياً، جائعاً، محروماً، من كل مباهج البراءة الأولى، فإن السياسة نقشت صورتها على أظفاري بمنقاش الألم، فتعلمت، مبكّراً، كيف أصعّد الألم الخاص إلى الألم العام، وكيف أنكر ذاتي، وأنتصر على رذيلة الأنانية، وكل إغراءات الراحة البليدة، التي توسوس بها النفس، فكان الإنسان في داخلي، إنساناً توّاقاً إلى ما يريد أن يكون، لا إلى ما يُراد له أن يكون.

وكان المحيط الاجتماعي الذي نشأت فيه، بتمام الكلمة، أميّاً، متخلّفاً، إلى درجة لا تصدّق، لم يكن في حيّ المستنقع كله، مَن يقرأ ويكتب، كان سكان هذا الحي، والأحياء الفقيرة الأخرى في مدينة اسكندرونة، يتلمّسون في الظلمة سبيلهم إلى النور، والذين ساعدوهم في ذلك كانوا المناضلين الأول، ضد الانتداب الفرنسي والإقطاع، وكان لي - وأنا فتى في الثانية عشرة من عمري - حظ التعرف على هؤلاء الحاملين المشاعل، وشرف الانتماء إليهم، والتعرّف إلى حقيقة الكلمة وشرفها من خلال إرشاداتهم، هذا المجتمع، في الطفولة واليفاعة والشباب، أعطاني تجارب لا تُنسى، أفدت منها في كفاحي بالقلم على امتداد حياتي الأدبية التي قاربت الخمسين الآن. وكي أختصر الكلام عن المحيط السياسي أقول: عرفته، رافقته، كنت قريباً من أبرز رجاله، منذ هجرة عائلتي من اللواء العربي (الاسكندرونة) إلى اللاذقية، وقبل ذلك بقليل، وبعد ذلك إلى الوقت الراهن، غير أن كفاحي، على الجبهة الثقافية، وما فيها من كرم الكفاح، قد جعلني أكتشف حقائق كثيرة، ومنذ وقت مبكّر، لذلك تركت الانتماء الحزبي، منذ منتصف الستينيات، وكرّست حياتي للأدب، وللرواية تخصيصاً، وسأبقى كذلك، دون أن يعني ذلك نسيان الماضي، أو عدم الأمانة للمنطق، فأنا أعرف أن اليوم الذي أنسى فيه ناسي، أو أدير لهم ظهري، أو ينقطع حبل السرّة الذي يربطني بهم، سيكون يوم توقفي عن الكتابة، وتالياً عن الحياة.

ولندع الكلمات الكبيرة، فإنني لا أنسجم معها، رغم أن الحديث قد اضطرني إلى مقاربتها، فما أقوله لقرّائي أنني ولدت في حيّ فقير بائس في مدينة اللاذقية، وفي دار تتقاسم عائلات فقيرة غرفها، وقد اضطرت أمي إلى حرماني من نصف حليبها، وبيع النصف الآخر إلى ابن عائلة ثرية كانت تعمل عندها، يُقال إن أخي في الرضاعة كان (جول فيتالي) وهو من الأغنياء الذين عاشوا حياة ترفة، ولم أر له وجهاً، لأنه ارتحل قبل سنوات. لقد صوّرت وضعي الصحي العليل في سيرتي الذاتية، ومنها تعرفون وضعي العائلي الغارق، حتى الاختناق، في حفرة شقاء تدافعناه، بكل ما نملك من إرادة، فلم يندفع! أمي وأخواتي الثلاث، عملن خادمات، عملت أنا الصبي الوحيد، الناحل، أجيراً، كذلك عمل الوالد، سليم حنا مينه، الخائب في كل أعماله ونواياه، حمّالاً في المرفأ، بائعاً للحلوى، وللمرطبات، مرابعاً في بستان قاحل إلا من أشجار التوت، ومربيّاً لدود القز، ثم عاود، بين كل هذه الأعمال وأثناءها، سيرته في الترحال، كأنه (موكل بفضاء الله يذرعه)، كان أبي، رحمه الله، رحّالة من طراز خاص، لم ينفع ولم ينتفع برحلاته كلها، أراد الرحيل تلبية لنداء المجهول، تاركاً العائلة، أغلب الأحيان، وفي الأرياف، للخوف والظلمة والجوع، ولطالما تساءلت: وراء أي هدف كان يسعى؟ لا جواب طبعاً، إنه بوهيمي بالفطرة، وقاص بالفطرة، يصنع من أي مشهد حكاية شائقة، وقد أفدت منه، في هذا المجال فقط، كان رخواً إلى درجة الخور أمام شيئين: الخمر والمرأة! لم يفز بالمرأة ولم يستمتع بالخمر. كان يسكر إلى درجة التعتعة والسقوط والنوم حيث يسقط. لمجرد شرب كأس أو كأسين. يا للأب المثالي، الذي كافأته، في السنوات الخمس عشرة الأخيرة من عمره، مكافأة حسنة، متجاوزاً عن كل ما ألحق بالعائلة من أذى، وليس في ذلك منّة، بل واجب البنوّة وحده.

متاهة الضياع

من اللاذقية، حيث ولدت، تشرّد الوالد، وجرّ العائلة معه، إلى متاهة الضياع، وهذا التشرد فرض علي البحث عن اللقمة أولاً، وفرض علي، ثانياً، العمل الشاق في السياسة، وأمنيتي، الآن، أن أتشرّد من جديد، لأنني أكاد أتعـفّن بين الجدران الأربعة من مكتبي في الوظيـفة، ومن مكتـبي في البيت، الذي أعمل فيه وسط شروط لا إنسانية!

الرحلة، في الخطوات الأولى، انطلقت من اللاذقية إلى سهل أرسوز قرب أنطاكية، مروراً باسكندرونة، ثم اللاذقية من جديد، وبيروت، ودمشق، وبعد ذلك تزوجت، وتشردت مع عائلتي لظروف قاهرة، عبر أوربا وصولاً إلى الصين، حيث أقمت خمس سنوات، وكان هذا هو المنفى الاضطراري الثالث، وقد دام، هذه المرة، طويلاً، حتى قارب العشرة من الأعوام، لم أكتب فيها حرفاً واحداً، وبذلك ضاع استواء رجولتي بين الثلاثين والأربعين من عمري، سدى، فالنبتة قلّما تعيش إلا في تربتها! هناك استثناءات كثيرة طبعاً، لكن غربتي، وهي مهنتي الشاقة، تختلف جداً، بسبب ما ترتّب عليّ من كدح لإعالة أسرتي، التي كان نصفها معي، والنصف الآخر في اللاذقية.

لقد تزوجت مريم دميان سمعان، أصلها من بلدة السويدية، مصب نهر العاصي قرب أنطاكية، وكانت مقيمة في اللاذقية عندما التقيتها وتعارفنا بعد هجرة العائلة من اللواء العربي السليب، إنها إنسانة طيبة، شعبية، لم تتجاوز دراستها الصفوف الابتدائية، أي أنها مثلي من ناحية التحصيل العلمي، لكنها بذكائها الفطري، تفهّمت ظروفي كمناضل سياسي ضد الانتداب الفرنسي قبل الزواج، كما تفهمت ظروفي بعد الزواج ككاتب، فوفّرت لي، في الحالتين، جوّاً أسرياً سعيداً، قوامه نكران الذات إلى حد التضحية، في سبيل إنشاء الأسرة، ومشاطرتي آلام الغربة، وتوفير الهدوء والصفاء اللازمين لي ككاتب، وإني مدين لها بنجاحي، وهذه مناسبة أتحدث فيها لأول مرة عن هذه الإنسانة الرائعة، التي كانت معي على الدهر، لا مع الدهر علي، وهذه مأثرة المرأة الرائعة دائماً، التي تتحلى بصفات نبيلة، ومنها الصبر، والتدبير، والخلق الكريم، حتى أجد نفسي عاجزاً عن الكلام الذي يفيها حقها، بسبب أنها تفانت، ولاتزال، لإسعادي، وللسهر على الأسرة في غيابي وحضوري.

إننا، هي وأنا، نقترب من نصف قرن من الزواج الناجح، والفضل في نجاحه يعود إليها حصراً، لأنها تتيح لي حرية اكتساب التجارب من جهة، والمناخ الملائم للكتابة عن هذه التجارب من جهة أخرى.

رزقنا خمسة أولاد، بينهم صبيان، هما سليم، توفي في الخمسينيات، في ظروف النضال والحرمان والشقاء، والآخر سعد، أصغر أولادي، وهو ممثل ناجح جداً الآن، شارك في بطولة المسلسل التلفزيوني (نهاية رجل شجاع) المأخوذة عن رواية لي بهذا الاسم، فأبدى مقدرة غير عادية، في أدار دور (مفيد الوحش) عندما كان صغيراً، وهذا المسلسل لقي إعجاباً مثيراً، وبث إلى كل أنحاء العالم، كما شارك بدور البطولة (شاهين) في المسلسل التلفزيوني المهم (الجوارح) وكلا المسلسلين من إخراج نجدت إسماعيل أنزور، هذا الإنسان الموهوب إلى درجة الإبهار.

لدينا ثلاث بنات: سلوى (طبيبة)، سوسن (مخدرة وتحمل شهادة الأدب الفرنسي)، وأمل (مهندسة مدنية) وقد تزوجن، ولم يتبعنني على طريق جهنم: طريق الأدب!

شكاوى الناس

بداياتي الأدبية الأولى كانت متواضعة جداً، فقد أخذت، منذ تركت المدرسة الابتدائية (هذه التي تعلمت فيها فكّ الحرف كما يقولون) بكتابة الرسائل للجيران، وكتابة العرائض للحكومة، كنت لسان الحي إلى ذويه، وسفيره المعتمد لدى الدوائر، أقدم لها، بدلاً من أوراق الاعتماد، عرائض تتضمن شكاوى المدينة ومطالبها، هنا كنت صدامياً ومنذ يفاعتي: إننا جياع، عاطلون عن العمل، مرضى، أميّون، فماذا يريد أمثالنا؟ العمل، الخبز، المدرسة، المستشفى، رحيل الانتداب الفرنسي، مطالبة الحكومة، في فجر الاستقلال، أن تفي بوعودها المقطوعة لأمثالنا.

هذه كانت بدايتي، وقد دفعت الثمن، لأن المسئولين، آنذاك، وجدوا فيّ مخلوقاً يطالب بقوة، بإلحاح، بجرأة، مع أمثاله، بما هو حق لهم، وماذا كنا نخشى؟ في السجن نجد اللقمة، وفي تحقيق هذا المطلب أو ذاك نلقى العزاء، ولم يكن لدينا ما نخاف عليه، لأننا، أصلاً، مخلوقات العالم السفلي.

بعد ذلك، وأنا حلاّق في اللاذقية، كنت أبيع جريدة (صوت الشعب) الناطقة باسمنا ونيابة عنا، وعن المسحوقين من أمثالنا، كان ذلك خلال الحرب العالمية الثانية، وكنا ضد النازية، وضد الاحتلال الفرنسي، وضد آغواتنا، وقد تدرّجت، من كتابة الأخبار والمقالات الصغيرة، في صحف سوريا ولبنان، إلى كتابة القصص القصيرة.

بدأت حياتي الأدبية بكتابة مسرحية دونكيشوتية، صرخت فيها على كيفي، غيّرت العالم على كيفي، أقمت الدنيا ولم أقعدها، ضاعت المسرحية ومنذئذ تهيّبت الكتابة للمسرح، ولاأزال. القصص ضاعت أيضاً، لم أشعر بالأسف، وكيف أشعر به وحياتي نفسها ضائعة؟ المهم أنني لم أفكر، وأنا حلاق، وسياسي مطارد، بأنني سأصبح كاتباً، كان هذا فوق طموحي، رغم رحابة هذا الطموح، صدّقوني إنني، حتى الآن، كاتب دخيل على المهنة، وأفكر، بعد هذا العمر الطويل، بتصحيح الوضع والكف عن الكتابة، فمهنة الكاتب ليست سواراً من ذهب، بل هي أقصر طريق إلى التعاسة الكاملة. لا تفهموني خطأ، الحياة أعطتني، وبسخاء، يقال إنني أوسع الكتّاب العرب انتشاراً، مع نجيب محفوظ بعد نوبل، ومع نزار قبّاني وغزلياته التي أعطته أن يكون عمر بن أبي ربيعة القرن العشرين.

يطالبونني، في الوقت الحاضر، بمحاولاتي الأدبية الأولى، التي تنفع النقاد والدارسين، لكنها، بالنسبة إلي، ورقة خريف سقطت!

وقد كنت، كما هو معروف، يسارياً وسأبقى، أما لماذا الأمر كذلك، فإن هذه (اللماذا) في غير محلها! تصوّروا ابن العالم السفلي، العاري، الحافي، الجائع، مثلي ومثل ناسي، ثم نكون في اليمين، الذي يتغذى أطفاله بالشيكولاته، ويركبون الكاديلاك! مفارقة أليس كذلك؟!

مصابيح زرق

الرواية الأولى التي كتبتها كانت (المصابيح الزرق) لكنني لم أفكر بشرارتها، أهي حمراء أم زرقاء؟! وهل أنا نيرودا حتى تطلق قصائدي شرارات؟! إنني بابا نوئيل أوزع الرؤى على الناس، كي أفتح عيونهم على الواقع البائس، وأحسب أنني ناجح إلى حد ما، لأن كلماتي التي أكلت عيوني، على مدى نصف قرن، لم تكن مجانية، لقد حرصت دائماً على شيئين: الايقاع والتشويق! وكتبت لغايتين: توفير المتعة والمعرفة للقرّاء، وهذا سر نجاحي الكبير، فلا أبوح به إلا للنشر! تأملوا!!

يقال إن البحر كان دائماً مصدر إلهامي، حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب، وأسأل: هل قصدت ذلك متعمّدا؟ في الجواب أقول:

في البدء لم أقصد شيئاً، لحمي سمك البحر، دمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش كان صراع حياة، أما العواصف فقد نُقشت وشماً على جلدي، إذا نادوا: يا بحر!

أجبت أنا! البحر أنا، فيه وُلدت، وفيه أرغب أن أموت.. تعرفون معنى أن يكون المرء بحّاراً؟ إنه يتعمّد بماء اللجة لا بماء نهر الأردن، على طريقة يوحنا! أسألكم: أليس عجيباً، ونحن على شواطئ البحار، ألا نعرف البحر؟ ألا نكتب عنه؟ ألا نغامر والمغامرة احتجاج؟ أن يخلو أدبنا العربي، جديده والقديم، من صور هذا العالم الذي هو العالم، وما عداه، اليابسة، جزء منه؟!

البحّار لا يصطاد من المقلاة! وكذلك لا يقعي على الشاطئ، بانتظار سمكة السردين التافهة. إنه أكبر، أكبر بكثير، وأنا هنا أتحدث عن البحّار لا عن فتى الميناء! الأدباء العرب، أكثرهم لم يكتبوا عن البحر لأنهم خافوا معاينة الموت في جبهة الموج الصاخب. لا أدّعي الفروسية، المغامرة نعم! أجدادي بحّارة، هذه مهنتهم، الابن يتعلم حرفة أهله، احترفت العمل في الميناء كحمّال، واحترفت البحر كبحّار على المراكب.

كان ذلك في الماضي الشقي والماجد من حياتي، بعد ذلك، وفي الحرب العالمية الثانية، توقف العمل في البحر، اشتغلت في مهن كثيرة، من أجير مصلّح دراجات، إلى مربّي أطفال في بيت سيد غني، كان يسومني العذاب مرّاً إذا بكى طفل، أو مرضت طفلة، إلى عامل في صيدلية، إلى حلاّق، إلى صحفي، إلى كاتب مسلسلات إذاعية باللغة العامية، إلى موظف في الحكومة، مع كل ما تقوم به الوظيفة من تدجين بطيء، إلى روائي، وهنا المحطة قبل الأخيرة، أي قبل غزل الظلمة في حضن الثرى.

هذه المسيرة الطويلة كانت مشياً، وبأقدام حافية، في حقول من مسامير، دمي سال في مواقع خطواتي: أنظر الآن إلى الماضي، نظرة تأمل حيادية، فأرتعش. كيف، كيف؟! أين، أين؟! هناك البحر وأنا على اليابسة؟! أمنيتي الدائمة أن تنتقل دمشق إلى البحر، أو ينتقل البحر إلى دمشق، أليس هذا حلماً جميلاً؟! السبب أنني مربوط بسلك خفي إلى الغوطة، ومشدود بقلادة ياسمين إلى ليالي الشام الصيفية الفاتنة، وحارس مؤتمن على جبل قاسيون، ومغرم متيّم ببردى، لذلك أحب فيروز والشاميات.

روايات البحر

هذا كله جميل، لكنني غريب في غربته، قولة أبي حيان التوحيدي، غريب عن البحر: بيتي، حديقتي، ملعبي، فكيف تكون الهناءة والحبيب الأزرق بعيد؟ تعويضاً أسترجع الماضي، أكتبه، أعوّض بما هو كائن، عمّا كان، أهدم العالم وأعيد بناءه، أستحضر تجارب البحر، أشدّها هولاً، أكتب وأكتب: ثماني روايات عن البحر، ولم أزل في المقدمة من هذا السفر الذي سيكتبه الآتون بعدي من الأجيال الشابّة، إذا لم تكن قلوبهم من تراب!

أكره الطرق المعبّدة، دأبي اكتشاف المناطق المجهولة في أدبنا: البحر، الغابة، الجبل، الثلج، المعركة الحربية، البلدان البعيدة، النضال الوطني السري، الموت، الجنون، الشجاعة، البطولات الشعبية، الموروثات والمأثورات والصور الغريبة، أكره، أيضاً، نصفي العاقل، لماذا، نحن الأدباء العرب، في العقلاء جداً، ولماذا في القعدة؟ وأين الجنون والانتحار وعدم الانتماء؟ لا أحب الذين يستريحون على مؤخراتهم؟

في أعمالي الأدبية (30 رواية حتى الآن) شخصيات كثيرة جداً: هناك عالم متكامل من مخلوقات متنوعة متباينة، على أرضية واقعية، تمتزج معها الرومانتيكية وتتبلور في تصرّفاتها والأقوال، (روائي واقعي رومانتيكي)، هذا هو عنوان دراسة الدكتورة نجاح العطار، التي نُشرت في (الطريق) و (المعرفة) ومجلات أدبية أخرى، ذلك أن الواقعية، كما ترى الناقدة الدكتورة العطار، تتسع وتستوعب، كل المدارس الأدبية.

أذكّر هنا بطرفتين: أولاهما أنني كلفت صديقاً بأن يجمع لي أسماء شخصيات رواياتي، قبل أن أبدأ كتابة رواية (النجوم تحاكم القمر)، فقام بالمهمة حتى عجز عنها. قال لي: (هناك أكثر من (560) شخصية، في عشر روايات فقط، فكم يكون العدد في الروايات العشر الأخرى؟ إنني، وأنا أقرأ الرواية، تستهويني الأحداث، فأنسى إحصاء الشخصيات، ويكون علي أن أعود من جديد، وهذا مالا أستطيعه، يا للغرابة إن ضحكت طبعاً وقلت: (أنا تلميذ بالنسبة لأستاذي نجيب محفوظ، فكيف لو كلفك هو بما كلفتك أنا به؟).

متحف بشري

الطرفة الأخرى أن أديباً من اللاذقية، هو الأستاذ سمير سكاف، قام بمحاولة من هذا النوع، دون تكليف طبعاً، وقد كتب إلي، بعد أن أعياه الجواب عن السؤال التالي: (من أي متحف بشري جئت بهذا الحشد من المخلوقات، الذين لا يشبه أحدهم الآخر؟! إنني ألجأ إليك، وأنتظر الجواب!) ضحكت ولم أجب، أنا نفسي لا أعرف، وأحسب أن هذا السؤال من باب التعجيز، وأشهد أنني عاجز!

إذن، بمقياس كهذا، كيف أحصي الشخصيات الروائية التي تركت بصماتها في ذاكرتي؟ كيف أعد الشخصيات التي لم أكتبها بعد، والتي لاتزال حبيسة في طاسة رأسي، تدق على صدغيّ طالبة الخروج إلى النور؟ أحيلكم، في الجواب، إلى روايتي (النجوم تحاكم القمر)، و(القمر في المحاق)، ففيهما متحف مخلوقات أكبر بكثير من المتحف الذي سألني عنه الأديب سمير سكاف، عرفتم الآن، لماذا أنا معذّب، ولماذا أفكّر باعتزال الكتابة؟! إنها (ملهاة إنسانية) كاملة! وإنها لسخرية أن تحاكم الشخصيات الروائية مبدعها الروائي، بكل ما تعنيه المحاكمة، التي يتهم فيها المؤلف عناد الزكرتاوي بقتل ديمتريو، بطل (مأساة ديمتريو) ويُحكم عليه بالإعدام مع وقف التنفيذ، حتى يكمل كتابة ما تبقى من روايات وقصص! وهو، المؤلف، يصرخ ناشجاً: (نفّذوا! نفّذوا!) ذلك أننا، بعبارة واحدة، محكومون جميعاً بالإعدام مع وقف التنفيذ، حتى نواصل حياة الأديب العربي التي هي، مع التخفيف والرحمة، حياة تعاسة دراماتيكية بامتياز!

أحب أكثر شخصياتي. إنها منقوشة في الذاكرة. ليتها لم تكن كذلك، وليتني أصاب بفقدان الذاكرة حتى أنساها، مرة واحدة وإلى الأبد! تعرفون لماذا؟ لأن مصيرنا إلى الجلجلة، وعندئذ نصلب فنموت، ونُننزل صليبنا الذي نحمله منذ أمسكنا القلم! هذا ليس من التشاؤم، فالمعروف عني أنني بائع تفاؤل، إلا أن الكاتب، الذي يرى مالا يراه الآخرون، يعرف أن كل إنسان يحمل صليبه في هذه الحياة، مع الفارق في حجم الصليب وثقله، فالمليونير، وبالدولار كوحدة نقدية، يحمل صليب الشره للاستزادة من جمع المال، بينما نحن، الأدباء الفقراء، وكذلك أبناء الشعب الذين مثلنا، نحمل صليب الركض وراء اللقمة!

الإنسان ابن تاريخه الاجتماعي، والتاريخ حقب ومراحل، ونحن الآن في مرحلة المجتمع الاستهلاكي، حيث النفعية عنوان كبير وبارز له، مع كل ما ينطوي تحتها من شرور وآثام، لكننا، في الوطن العربي مكتوب علينا أن نواصل الكفاح، في سبيل التحرير واسترداد الحقوق، وضد التطبيع الثقافي، وكل تطبيع، مع إسرائيل، التي تحتل أرضنا وتقتل وتشرّد إخوتنا في فلسطين، وهذا الكفاح مجيد، وسيكون مجيداً أكثر، ومجدياً أكثر في مناخ الحرية التي يريدون وأدها، كما في حادثة التفريق الجائرة والظالمة بين نصر حامد أبو زيد والسيدة زوجته.الإبداع رسالتنا إلى العالم، به وحده نجبه التحديات الثقافية في الجوار وفي العالم، لكن الإبداع نبتة تحتاج إلى الشمس، وهذه اسمها الحرية الفكرية.

 

حنا مينه

 
 




حنا مينه