ديمتريو.. قصة للكاتب البيروفي خوليو رامون ريبيرو

ديمتريو.. قصة للكاتب البيروفي خوليو رامون ريبيرو

ربع الساعة وينتصف الليل. ما يهم في الأمر هو كون اليوم هو العاشر من نوفمبر من عام 1953. كان ديمتريو فان فاجن قد دّون في يومياته الخاصة ما يلى: «فى العاشر من نوفمبر من عام 1953 زرت صديقى ماريوس كارلن». أنوه بأننى ماريوس كارلن هذا وأن ديمتريو فان فاجن قد توفي منذ ثماني سنوات وتسعة عشر شهرا تماما.

كانت صحيفة محلية قد نشرت بعد وفاته بأسابيع قليلة ملحوظة سيئة النية تقول: «كما يعلم قراؤنا فإن الروائى ديمتريو فان فاجن قد توفي في الثاني من يناير من عام 1945. وقد وجدت في يومياته الخاصة، والتي لم تنشر بعد، مذكرات تنسب للسنوات الثماني المقبلة. لقد اكتشف أنه كتبها مسبقا. وبحكم الصداقة التي كانت تجمعني بديمتريو، بدأت في عمل تحريات يمكن وصفها بالدقيقة حسب التعبير التقليدي. على الرغم من أنني لم أره منذ الحرب الآخيرة فإنه ترك في نفسي ذكرى طيبة، فقد كنت أرى فيه دائما الرجل النزيه والجاد والبعيد عن أي ادعاء. وعليه، فإن، مسألة كتابة يومياته مقدما تشير إلى أحد احتمالين: إما أنها مزحة من جانب الصحافيين الذين أخطأوا التقاط تواريخ يومياته والتى لم تنشر بعد، أو أن الأمر يتعلق ببداية شيء مهم وغامض.

كان ديمتريو قد مات بطريقة غامضة في حانة في آمبيريس، وعندما نقل جثمانه إلى أوتريخت قمت بزيارة خاصة للمدينة المذكورة واستخرجت من المكتبة العامة مخطوط يومياته. كان المخطوط الذى قام الصحافيون بمراجعته بشكل سطحي للتأكد من عدم تناسب التواريخ فقط، مليئا بحروق السجائر وبقع القهوة.

استطعت بصبر عالم الكتابات القديمة فك رموز صفحاته شيئا فشيئا، وبالذات تلك الخاصة بالسنوات التي تلي موته والتي من المفترض أنها مختلقة. كانت القراءة الاولى تؤيد هذا الرأي بالفعل، حيث تتحدث اليوميات عن رحلات عجيبة وعلاقات عاطفية ولكنها يائسة في عمومها، وكذلك عن أمور تافهة مثل أكلة ما في مطعم، أو حديث مع سائق تاكسي. فجأة لفت نظرى تفصيل ما، ففي الصفحة التى تسجل ليوم 28 من يوليو عام 1948 يقول: «حضرت اليوم جنازة ارنستو بانكلوس». كان اسم ارنستو بانكلوس ملتبسا علي بعض الشيء. استطعت بشيء من التفكير التوصل إلى أنه كان اسم صديق مشترك لكلينا أيام الطفولة. حاولت مباشرة التوصل إلى أهله ولكنني لم أستطع. وبمراجعة صحف الفترة ذاتها تأكدت أنه قد تم بالفعل دفن جثمان أرنستو بانكلوس في يوم 28 من يوليو من عام 1948. أحدث هذا التأكد شيئا من الالتباس لدي, ولكنه لم يعفنى من بعض الارتياب.اعتقدت أن الامر مجرد صدفة أو أنها حالة تكهن غير مستغربة من طبيعة الفنانين. لكنني على كل الاحوال بقيت مشغولا. ولكي أهدأ قررت أن أصل بتحرياتي إلى نتائجها الأخيرة.

يقول في الصفحة التى تحمل تاريخ 14 من أبريل عام 1949: «سأركب الطائرة اليوم متوجها إلى أوسلو وسأزور المتحف الوطنى بالمدينة». كان علي أن أقوم بمراجعة كل سجلات شركات الطيران إلى أن أكتشفت في قائمة المسافرين لاحداها اسم ديمتريو فان فاجن.

ونتيجة إثارة فضولى، توجهت إلى أوسلو ووجدت في سجل مشاهير الزوار الخاص بالمتحف الوطني توقيع صديقى مسجلا. عندها بدأت أشك في أن أمرا ما غريبا قد حدث. توجهت أكثر من مرة إلى مدافن وتريخت بهدف رؤية شاهد القبر والتحقق من اسم وتاريخ وفاة ديميتريو. وعندما حصلت عليه طلبت فحص الرفات عن طريق الأطباء الشرعيين الذين أكدوا لي أنها لديميتريو فان فاجن.

بالعودة إلى قراءة اليوميات قررت أن أقوم بتجربة أخيرة. ففي الصفحة التى تسجل ليوم 31 من أغسطس من عام 1951 يقول: «عدت لتوي من ألمانيا. لن أنسى ماريون أبدا وبلدة فريمان الصغيرة. كانت لقاءاتى بها قليلة ولكنها مشرقة». اعتبرت أنني لو توصلت إلى ماريون فسوف أحصل على معلومات مباشرة وأكيدة.

لم يكن الأمر هينا - فاسم فريمان لم يكن موجودا بالخرائط كما يبدو وأن اسم ماريون منسوب لأغلب نساء هذه الناحية- ولكن وبعد استقصاء شديد استطعت التوصل إلى هذه المرأة. كان الوصف الذي قدمته عن حبيبها السابق يتفق وشكل ديميتريو وأكثر من هذا، كان لديها ابن ثمرة علاقتها به، والذي ما إن رأيته أصابني الذهول، فبالرغم من أنه مازال صغيرا فإن ملامحه قد ذكرتنى بملامح ديمتريو بجلاء.

عدت إلى بلدي ويقيني تام، ولكن مشتت الذهن في الوقت نفسه، ثم أدركت بعد مدة طويلة وبشيء من الرهبة أننى أطأ منطقة محرمة ترتبط بهذه الظواهر الغريبة. حتى أننى قمت باستشارة أهل العلم في هذا الشأن، ولكنهم جميعا تلقوا طلبي بالسخرية ورفضوا مراجعة أدلتي وقالوا إن المسألة تتعلق بأحد الأمرين أنه لابد وأن أحدنا - الميت أو أنا - مجنون. أما الأكثر تهذيبا فقد تحدثوا بصيغ مختلفة عن «شرود العقل» أو تواروا بجهلهم خلف كلمة «الصدفة».

عند ذلك ازدادت حيرتي، كما أن النتائج التي أمكنني استخلاصها كانت قليلة. فواضح أن ديميتريو قد توفي في 2 يناير عام 1945 ولكن المؤكد أيضا أنه في عام 1948 حضر مراسم دفن ارنستو بانكلوس وأنه في عام 1949 كان بالمتحف الوطنى بأوسلو، وفي عام 1951 تعرف على ماريون في فريمان ورزق منها بطفل. لقد تم التحقق من كل ذلك بالفعل. ولكن هذا لا يعني بلا شك أن التواريخ المذكورة قد تصادفت مع التقويم الرسمى فقد بدا لي التقويم الرسمي، بعد ما حدث، مقياسا اصطلاحيا للزمن، يصلح فقط كمرجع لأحداث عارضة - استحقاق حوالات، تواريخ قومية - ولكنه غير صالح بالمرة لقياس الزمن الداخلى لكل إنسان وهو الزمن الوحيد المهم قطعا.

إن دوامنا الداخلى لا يمكن تعريفه ولا قياسه ولا تأجيله. فمن السهل أن نعيش أياما في دقائق والعكس، دقائق في أسابيع. فكما هو معلوم أن حالات ظواهر التنويم المغناطيسى كثيرة أو حالات شدة الإثارة أو النشوة التى يسببها الحب أو الخوف أو الموسيقى أو الحمى أو المخدر أو التدين الشديد، ولكن ما لا أستطيع إدراكه هو كيف ينتقل هذا الدوام الداخلى إلى حيز الفعل، وكيف يتوافق زمن كل فرد منا مع الزمن الشمسي؟ إن التفكير في أكثر من شيء خلال الثانية الواحدة أمر معتاد ولكن الأكثر تعقيدا هو القيام بذلك في المدة نفسها.

والمؤكد أن ديمتريو فان فاجن قد قام بأشياء كثيرة خلال زمنه الشخصي، وهي أشياء لم تتم في الزمن الحقيقي إلا فيما بعد. كما أن هناك أشياء كثيرة فعلها وما زالت لم تتحقق بعد. فنجده مثلا يصف في العام 1954 رحلة إلى الهيمالايا يفقد خلالها أذنه اليسرى نتيجة التجمد. أو، دون أن نبتعد كثيرا، يشير إلى اليوم وهو العاشر من نوفمبر من عام 1953 إلى قيامه بزيارة لبيتي. وهو ما لم يحدث بالطبع لا في زمني ولا في الزمن الشمسي. ولكن اليوم لم ينته بعد وكل شيء محتمل الحدوث. فهو لم يحدد في يومياته الساعة، كما أنها لم تشر بعد إلى الثانية عشرة ليلا. أو لعله قد أجل الزيارة دون تدوين هذا في يومياته.

مازالت هناك دقيقة باقية. أقر بالشعور بنفاد صبرى بعض الشيء حتى أن ربع الساعة الشمسي الذى استغرقته كتابة هذه الصفحات قد بدا لي طويلا بلا حدود. ولكن لا يمكنني بالطبع أن أخطأ، فأحد ما يصعد الدرج. خطوات تقترب. ساعتي تشير إلى الثانية عشرة ليلا. طرق على الباب. إنه ديميتريو، هنا..

خوليو رامون ريبيرو
Juan Ramon Ribeyro

خوليو رامون ريبيرو ( 1929) أحد كتاب أمريكا اللاتينية (بيرو) البارزين في الأدب الإسباني حيث تعتبر قصصه من كلاسيكيات الأدب المعاصر. كتب في الرواية والمسرح والمقال الأدبي وغيرها ولكنه برز كقاص. أهم ما يميز أسلوبه القصصي هو المحافظة على دهشة القارئ فهو يضع شخصياته في مواقف تجعله أسير حيرة غير متوجسة ثم في اندهاش لا مفر منه. إن العالم الخيالي لدى «ريبيرو» ينزلق بشكل غير واع تقريباً من خلف المشاهد والظروف التي تكون عادة منتمية للحياة اليومية في وضع يبدو في البداية بلا مفاجآت ولكنه في الحقيقة يقف فوق رمال متحركة تحكم عليه ولو بشكل ضمني، بحالة من القلق الدائم. فلا حقيقة لظواهر الأمور وما يمكن أن يختفي في أية لحظة تحت نزوة ما للصدفة. يحمس «ريبيرو» قارئه دائما لمشاركته ألعاب خياله البهلوانية. إنه «المسافر الدائم» بحثا عن كتابات جديدة وصلت إلى 87 قصة (القصص الكاملة، الفاجوارا 1994) والتي تتضمن رواة وانتماءات أدبية وأمزجة ومواضيع قصص ريفية وخيالية وملحمية ومجازية ومدنية وساخرة وغامضة وللأطفال و«للأدباء». إنه يلجأ أيضا إلى الكتابة الإخبارية واليوميات والنقد والحكايات الرمزية والأسطورة. إن «ريبيرو» يبني جُملَه "كلمة بكلمة" باحثا بعناد فريد، عن طريق نحو أسلوب محايد أي نحو إلغاء كل أسلوب.

-------------------------------------

لا تقولي: أخشى عليك العوادي
أي شيء أبقت عواديك مني؟
وكليني لوحدتي في زوايا الصمت
أسري على غياهب حزني
وتناسي عهدي البئيس
فإن شاقك أمري فسائلي الليل عني
فأنا فيه قطعة من دياجيه
عداها عن اليقين التظني
فاهربي من نهاية حرم الماضي
عليها حتى عزاء التمني

حمزة شحاتة

 

 

 

ترجمة: د. نادية جمال الدين