عندما كان الدينار الإسلامي عملة عالمية مزدهرة

عندما كان الدينار الإسلامي عملة عالمية مزدهرة

ارتبطت عالمية الدينار الذهبي الإسلامي بالعصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية، فقد كان انتشاره في معظم أرجاء العالم القديم أحد مظاهر تلك الحضارة.

إن المكانة العالمية التي تتمتع بها عملة ما أو بعض العملات، في عصرنا هذا، ليست ظاهرة جديدة في التاريخ الاقتصادي. فقد شهدت العصور الوسطى، التي تمتد من القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر الميلادي، أكثر من عملة عالمية، وحظيت كل منها، خلال حقبة زمنية معينة، بمكانة دولية.

فإذا كان الدينار الذهبي، الذي أصدرته الإمبراطورية البيزنطية، قد اكتسب تلك المكانة الدولية في صدر العصور الوسطى، فإن الدينار الذهبي الإسلامي، الذي أصدره الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان (65-86هـ/685-705م)، قد حظي بمكانة عالمية واكتسب، بجدارة، احتراماً وقبولاً في أرجاء العالم القديم، دون أن ينازعه في ذلك منازع، منذ أوائل القرن الثامن الميلادي (الثاني للهجرة) حتى أوائل القرن الثالث عشر الميلادي (السابع للهجرة).

إن إلقاء بعض الضوء على قصة (عالمية) الدينار الإسلامي يشكّل موضوعاً مهماً وممتعاً. كان سك الخليفة عبدالملك للنقود العربية الإسلامية، الدينار الذهبي والدرهم الفضي، من أهم أحداث التاريخ العربي الإسلامي، نظراً لما ترتب عليه من نتائج بالغة الأهمية، اقتصادية وسياسية...، محلية وعالمية. بل يمكن القول إن هذا الإنجاز كان إىذاناً (بانقلاب) جذري في النظم المالية والاقتصادية التي كانت سائدة في عالم العصور الوسطى. ولكي ندرك هذا الإنجاز على حقيقته علينا أن نتعرف، بداية، على الخريطة النقدية التي كانت سائدة في العالم عشية ظهور الإسلام، في مستهل القرن السابع الميلادي. فقد أجمعت المصادر على أن الإمبراطورية البيزنطية كانت الدولة الوحيدة التي تصدر العملة الذهبية، وهي المعروفة باسم (الصولدي)، والدولة الفارسية كانت تصدر العملة الفضية، وهي الدرهم الفضي الفارسي، أما الممالك الجرمانية البربرية، التي كانت قد قامت على أنقاض الإمبراطورية الرومانية في الغرب الأوربي، منذ القرن الخامس الميلادي، فقد كانت لا تسك إلا عملات فضية.

وقد استخدم عرب الجزيرة، في تجارتهم مع الشام وفارس واليمن، قبل الإسلام، بشكل رئيسي، الدينار البيزنطي والدرهم الفارسي. ولم يكن أمام الدولة العربية الإسلامية الناشئة، خيار سوى استخدام النقود المتداولة، من بيزنطية وفارسية، خدمة لشئونها المالية والاقتصادية، وحرصاً منها على مصالح الناس عامة، ولاسيما أن الهم الأول للعرب المسلمين في تلك المرحلة، كان نجاح الدعوة الإسلامية وتثبيت أركان الدولة ونشر الإسلام، في الجزيرة وخارجها، ولهذا فإن سك نقد جديد لم يكن مطلباً ملحّا آنذاك، كما أن الشروط اللازمة لنجاح مثل هذا المشروع لم تكن قد توافرت بعد. ولكن على الرغم من ذلك فقد حاول بعض الخلفاء والأمراء العرب المسلمين، قبل عبدالملك، سك بعض النقود، ولكنها جاءت في معظمها على طراز النقود الفارسية والبيزنطية، ولم يتم تداولها رسمياً. وعلى أي حال، فقد شكّلت هذه المحاولات إرهاصات أولية لظهور النقود العربية الإسلامية.

يتفق المؤرخون على أن الخليفة عبدالملك بن مروان هو أول مَن سك الدينار الذهبي على الطراز الإسلامي الخالص، ما بين 76-77هـ، أي بعد نحو عقد من اعتلائه الخلافة. ويقف وراء قرار عبدالملك جملة من الأسباب، ولكن السبب المباشر هو ما عُرف تاريخياً باسم (مشكلة القراطيس)، أي ورق البردي. وخلاصتها أن مصانع البردي، في مصر، اعتادت أن تبعث بهذا الورق إلى بيزنطة، وقد كتبت عليه بسملة التثليث (الأب والابن وروح القدس) باللغة اليونانية. واستمر هذا التقليد قائماً بعد فتح مصر على يد العرب المسلمين، ولاسيما أن أصحاب هذه المصانع كانوا أقباطاً، وشاءت الظروف أن يتنبه عبدالملك إلى هذا الأمر، فطلب من عامله على مصر، وهو شقيقه عبدالعزيز، بأن يُلغي هذا التقليد، وأن يُكتب على البردي (قل هو الله أحد)، وعندما علم الإمبراطور البيزنطي، جستنيان الثاني (ت 711)، بذلك، استشاط غضباً، وبعث إلى الخليفة، أكثر من مرة، يطلب منه سحب قراره، وعندما أدرك الإمبراطور أن عبدالملك مصمم على موقفه هدده بأن يُصدر دنانير تحمل نقشاً مُهيناً للإسلام والمسلمين. فاستشار الخليفة أصحابه، واتخذ في ضوء ذلك قراره التاريخي بسك الدينار الذهبي الإسلامي، وتحريم التداول بالدنانير البيزنطية تحريماً كاملاً. وبذلك انتزع من جستنيان الورقة التي كان يهدد بها.

الاستقلال المالي

إذا كانت (مشكلة القراطيس) هي السبب المباشر لقرار عبدالملك، في سك النقود العربية الإسلامية، الدنانير منها والدراهم، إلا أن هناك أسباباً أخرى، ربما تفوق في أهميتها تلك المشكلة، وفي مقدمتها رغبة الخليفة في تحقيق الاستقلال المالي عن الدولة البيزنطية، وفي التخلص من الفوضى التي كانت سائدة في النقود الأجنبية المتداولة في العالم العربي الإسلامي، آنذاك، الدنانير منها والدراهم، نتيجة تنوّعها واختلاف أوزانها وعيارها، وما كان يترتب على تلك الفوضى من أضرار مالية واقتصادية تلحق بالدولة والرعية على السواء. هذا فضلاً عن رغبة الخليفة في التخلص من الغش الذي انتشر في تلك النقود، وأدى، بالتالي، إلى انخفاض قيمتها الشرائية وارتفاع الأسعار وانعدام ثقة الناس بها.

وجاء شكل الدينار الذهبي الإسلامي الذي سكه عبدالملك عام 77 هـ على النحو التالي: نُقش على أحد الوجهين (الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد) ونُقش على مدار الوجه نفسه: (بسم الله، ضرب هذا الدينر في سنة سبع وسبعين).

أما على الوجه الآخر، فقد نقش: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له)، ونُقش على مداره: (محمد رسول الله، أرسله بالهدى ونور الحق ليظهره على الدين كله). أما وزن هذا الدينار فقد كان 25،4 غرام، وهو الوزن الشرعي للدينار، وكانت نسبة الذهب فيه نحو 96%.

لقد كان وقع سك الدينار الإسلامي على بيزنطة بالغ القسوة، حيث فقد جستنيان صوابه، وأعلن الحرب على عبدالملك، ولكنها انتهت بهزيمة القوات البيزنطية هزيمة منكرة، في منطقة (قيليقية) بآسيا الصغرى، وظل عدد من المؤرخين البيزنطيين يهاجمون هذا الإمبراطور، لا لأنه شنّ الحرب على العرب المسلمين، وإنما لأنه هُزم فيها. وعلى أي حال، لم تكن هذه الحرب، في حقيقتها، مجرد صراع بين خليفة يتسم بالحكمة والرزانة، وإمبراطور اشتهر بالحماقة والتهوّر، وإنما بين إمبراطورية اعتادت أن تحتكر سك العملة الذهبية والسيطرة على السوق المالية والاقتصادية في العالم، ودولة ناشئة مارست حقها في سك عملة ذهبية خاصة بها لبناء استقلالها المالي والمشاركة في الاقتصاد العالمي.

أخذ الدينار الإسلامي بالانتشار التدريجي، وغدا العملة الذهبية الوحيدة في العالم الإسلامي، من حدود الصين شرقاً إلى الأندلس غرباً. ووضعت الدولة العربية الإسلامية النظم والقواعد لدعمه وحمايته.، ولكن لم يقتصر انتشار هذا الدينار داخل حدود العالم الإسلامي، وإنما اجتازها إلى مدن العالم القديم وأسواقه. وإذا كان انتشاره العالمي قد جاء متوافقاً، في البداية، مع ازدياد النشاط العالمي للتجارة الإسلامية، إلا أنه سرعان ما تجاوز في انتشاره آفاق هذه التجارة، وتسرّب إلى مناطق لم يصل إليها التجار المسلمون، وغدا، بالتالي، نقداً دولياً رئيساً على امتداد خمسة قرون من تاريـخ العصـور الوسطى (ق 8 - ق 13م). ولعل أهم الأسئلة التي تُطرح في إطار هذا الموضوع هي: ما العوامل التي ساعدت الدينار الإسلامي على أن يصبح نقداً عالمياً؟ ما مظاهر هذه العالمية؟ وما نتائجها؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة يمكن أن تكشف لنا بعض ملامح الدور العالمي للدينار الإسلامي.

أما بالنسبة إلى السؤال الأول، فيمكن إيجاز أهم هذه العوامل بما يلي: أولاً، إن ما كان يتمتع به الدينار الإسلامي من سمات، ولاسيما ما يتعلق منها بوزنه وعياره ونقائه، وتمسّكه بهذه السمات على امتداد قرون عدة، خلقت له مكانة عالمية وسمعة دولية وثقة وقبولاً في الأسواق المالية والتجارية في العالم آنذاك. فقد حافظ الخلفاء والحكام، في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، على الوزن الشرعي للدينار وعياره ونقائه. وعلى الرغم من الفروق الضئيلة في الدنانير التي سكت في عهد هذا الخليفة أو ذاك، فإنه تمت المحافظة على السمات الأساسية لهذا الدينار خلال تلك القرون. ثانياً: إن حرص الدولة العربية الإسلامية على حماية نقدها كان عاملاً مهماً في وصول الدينار إلى مكانته العالمية. فقد أدرك الخلفاء والحكام جميعاً أن سلامة الاقتصاد وانتظام مصالح الناس وسمعة الدولة، في الداخل والخارج، يرتبط ذلك كله بسلامة النقد، ولهذا وضعوا النظم والقواعد لحمايته، وأشرفوا بأنفسهم أو من خلال مَن يمثلهم، على تنفيذها. فقد تمت مراقبة دور سك العملة مراقبة دقيقة، وفُرضت أقسى العقوبات على كل مَن يحاول سك نقد خارج دور السك الحكومية، وعلى كل مَن يحاول التلاعب في وزن الدينار وعياره ونقائه. وقد أسهم ذلك كله، بدوره، في خلق الثقة بالدينار الإسلامي، في الأوساط المالية، المحلية منها والعالمية. ثالثاً: لم يكن بالإمكان سك الدينار الإسلامي وانتشاره لولا وفرة معدن الذهب، فقوّة الدينار كانت مرهونة بتدفق هذا المعدن إلى العالم الإسلامي. وإذا كان العرب المسلمون قد أفادوا، في بداية سكهم للدينار، من غنائم الفتوحات والكميات الضخمة من الذهب الذي كان مكتنزاً في مدن مصر والشام وقصور الساسانيين في العراق وبلاد فارس، إلا أنهم اعتمدوا، بعد اتساع رقعة الدولة واستقرار الفتوحات، على مناجم الذهب في آسيا وإفريقيا، بشكل مباشر وغير مباشر، سواء أكانت تلك التي تقع داخل بلادهم أو خارجها. ولهذا فقد أفادوا، على سبيل المثال، من مناجم الذهب في آسيا الوسطى وبلاد القوقاز وأرمينية والنيجر والسنغال والنوبة وغيرها. ولكن كان ذهب السودان هو أهم مصادر الدينار الإسلامي، بل هو الذي جعل العرب المسلمين (سادة الذهب) في العصور الوسطى. كما شكّل الذهب القادم من بيزنطة مورداً مهماً، خاصة أن بيزنطة اعتمدت على العرب المسلمين، أكثر مما كانت تعتمد على الفرس، في الحصول على السلع والمتاجر الشرقية، ولاسيما تلك التي كانت تتعلق بحياة الترف كالحرير والتوابل والأحجار الكريمة. وكانت تدفع بيزنطة، مقابل ذلك، كميات ضخمة من الذهب. ويمكن أن تضيف إلى ذلك كله ما تم اكتشافه من كنوز في مقابر الفراعنة في مصر، والذي شكّل رافداً مهماً لسك الدينار الإسلامي. رابعاً: وكانت قوة اقتصاد العالم الإسلامي وازدهاره من أهم العوامل التي ساعدت الدينار على تحقيق مكانته العالمية. فقد أصبح للمسلمين جميعاً، في العصور الوسطى، سيادة اقتصادية على الشرق والغرب، فثرواتهم، الزراعية منها والصناعية، وما تميّزت به من تنوّع وجودة وسمعة عالية، في الأسواق المحلية والعالمية، كانت سنداً أساسياً لهذا الدينار. كما أن موقع العالم الإسلامي جعل التجّار المسلمين يمسكون بأيديهم معظم التجارة الدولية آنذاك، فقد غدت الطرق التجارية الكبرى، البرية منها والبحرية، بأيديهم أو تحت رحمتهم. ويضاف إلى ذلك كله، فقد تحوّل البحر المتوسط، منذ مستهل القرن التاسع الميلادي (الثالث للهجرة) إلى بحيرة إسلامية. ومن المعروف، تاريخياً، أن مَن يملك هذا البحر يغدو (سيد العالم) اقتصادياً وسياسياً بل وحضارياً. ولهذا فإن هذا الاقتصاد، بثرواته المتنوعة، قد شكّل قاعدة صلبة اعتمد عليها الدينار في رحلته العالمية.

الانتشار والدقة

أما أهم المظاهر، التي تجلّت فيها عالمية الدينار الإسلامي فيمكن إيجازها بما يلي: أولاً: إن الانتشار الجغرافي الواسع لهذا الدينار يُعد أحد هذه المظاهر المهمة. فمنذ القرن الثامن الميلادي (الثاني للهجرة) وحتى القرن الثالث عشر الميلادي (السابع للهجرة)، انتشر في معظم أرجاء العالم القديم. فقد غدا عرفاً في أوربا، مثلاً، خلال تلك الحقبة، أن كل قطعة ذهبية في الغرب لابد من أن تكون عليها نقوش باللغة والحروف العربية، وكل قطعة فضية لابد من أن تحمل نقوشاً باللغة والحروف اللاتينية.

وإذا كان من الصعوبة بمكان أن نحدد بدقة، آفاق انتشار الدينار الإسلامي، خاصة أن التطابق لم يكن مطلقاً بين آفاق نشاط التجار المسلمين وتوزع جالياتهم في العالم من ناحية، وبين آفاق انتشار الدينار من ناحية أخرى، ولكن نستطيع أن نقول، باطمئنان، إن الدينار الإسلامي وصل شرقاً إلى معظم بلدان آسيا الشرقية مثل: شبه القارة الهندية، والهند الصينية والصين وكوريا وأندونيسيا وغيرها، كما انتشر في أوربا الشرقية والشمالية مثل بلاد الروس والبلغار وفنلنده والنرويج والسويد والدانمارك وإيسلنده، وغطى بلدان أوربا الغربية، دون استثناء، مثل: إيطاليا وألمانيا وغاليا وإسبانيا والجزر البريطانية.

وانتشر - بطبيعة الحال - في الأقاليم التي كانت لاتزال بيد بيزنطة مثل: آسيا الصغرى والبلقان وجزر بحر إيجه. أما القارة الإفريقية فقد انتشر فيها الدينار، وعبر سواحلها كلها تقريباً، العربية منها وغير العربية. وعلى أي حال، فإن محتويات متاحف بلدان العالم القديم، من نقود عربية إسلامية، تقف شاهداً على ذلك الانتشار العالمي للدينار. ثانياً: أن تعدد أشكال التداول الدولي للدينار الإسلامي، يعد مظهراً من مظاهر عالميته. فالدنانير التي خرجت من بلدان العالم العربي الإسلامي تمّ استخدامها بأشكال عدة. فقسم كبير منها استخدم كأداة تبادل، أي كنقد، في الصفقات التجارية الكبرى، حيث حمله التجار، على اختلاف بلدانهم وأجناسهم وعقائدهم، إلى الأسواق الدولية، في الشرق والغرب، وكان سلاحهم في نشاطاتهم المالية والتجارية كافة. كما أن قسماً آخر من الدنانير الإسلامية تم تداوله في الأسواق الدولية بوصفه (سلعة تجارية). وبعبارة أخرى، فقد تم تحويل هذه الدنانير الذهبية إلى مجوهرات وحليّ وسبائك، ومن ثم عرضها في الأسواق كسلعة. ويضاف إلى ذلك، فقد اكتنز التجّار والأثرياء في خزائنهم وقصورهم كميات من الدنانير الإسلامية وحبسوها عن التداول بغية الاحتفاظ بها كنقد احتياطي لمواجهة الأزمات في المستقبل. ثالثاً: إن استخدام القوى السياسية والدينية، في الغرب، الدينار الإسلامي للإيفاء بالتزاماتها المالية يعكس مدى تغلغل هذا الدينار في النظم المالية في أوربا في العصور الوسطى، ويقدم دليلاً قوياً على عالميته. فقد دفع حاكم مقاطعة إستريا ضريبة إلى شارلمان، ملك الفرنجة، عام 800م، بالدينار المنقوش، أي الدينار الإسلامي. والأمر اللافت للنظر أن البابوية نفسها كانت تتسلم من حكام الغرب والأديرة التابعة لها حقوقها المالية بالدينار الإسلامي. فقد كان الملك أوفا (757-796)، ملك مرسيه، يبعث الضريبة السنوية المتوجبة عليه للبابوية بالدينار الإسلامي. كما كانت البابوية تتسلم الضريبة من الأديرة الأوربية التابعة لها بالدينار الإسلامي.أيضاً. رابعاً: كان سك حكام الغرب عملاتهم الذهبية على طراز الدينار الإسلامي أبرز مظاهر عالميته. فقد درج هؤلاء على إصدار دنانير ذهبية تحمل عبارات دينية إسلامية وتواريخ هجرية، وقد نُقشت كلها باللغة والحروف العربية. ولم تكن تحمل هذه الدنانير باللغة اللاتينية سوى اسم الحاكم الذي أصدرها. ولكن لماذا أقدم هؤلاء الحكام على تقليد الدينار الإسلامي؟ والجواب على ذلك، باختصار، هو أن التجارة الدولية، في ذلك العصر، وكما هي في كل عصر، كانت تتطلب عملة موثوقاً بها، أي كان لابد من ختم مطبوع، على هذه العملة يثق به التجار وغير التجار على اختلاف أجناسهم وبلدانهم. وما دام ملوك الغرب وأمراؤه كانوا عاجزين، بحكم ضعف اقتصادهم، عن إعطاء مثل هذا الختم الموثوق به، وبما أن الناس لم تكن تثق، آنذاك، إلا بالدنانير التي كان يسكها العرب المسلمون، في المشرق والمغرب، فقد أقدم هؤلاء، والحالة هذه، على سك دنانيرهم على طراز الدينار الإسلامي. ولم يُقصد بهذه العملات (المقلدة) للدينار الإسلامي الغش والخداع أو يقوم بها المزيفون وإنما الحكام أنفسهم، بل اتخذت مكانها في السلسلة النقدية التي اعتمدت عليها التجارة في العصور الوسطى. وكان من بين هؤلاء الحكام الملك أوفا، الذي أشرنا إليه، حيث لدينا قطعة ذهبية تحمل كل سمات الدينار العباسي، ونُقشت عليها عبارات باللغة والحروف العربية، فضلاً عن التاريخ الهجري وهو 157هـ (774م). ولم يكن على هذا الدينار باللغة والحروف اللاتينية سوى عبارة (الملك أوفا). وقد وُجدت هذه القطعة في روما أو ضواحيها، ويُحتمل أنها كانت من بقايا الضريبة التي كان يدفعها هذا الملك، كما ذكرنا، للبابوية.

بداية الانحسار

ولكن تمسك حكام الغرب بتقليد الدينار الإسلامي في سك عملاتهم الذهبية، واستمرار هذا التقليد في الغرب قروناً عدة، أثار اعتراضات في بعض الأوساط الدينية في الغرب، حيث أخذ رجال الدين يمارسون ضغطاً قوياً على هؤلاء الحكام للإقلاع عنه، خاصة أن العملات (المُقلدة) للدنانير الإسلامية كانت تحمل، كما أشرنا، عبارات دينية إسلامية باللغة والحروف العربية. واضطر بعض الحكام، إزاء ذلك، للخروج من هذا المأزق، أن يستبدلوا بتلك العبارات الإسلامية عبارات دينية مسيحية، ولكنها استمرت تُنقش باللغة العربية. وكان هذا الإجراء من باب الحفاظ على ماء الوجه أمام الرأي العام الأوربي. ومن بين هؤلاء الحكام نذكر الفونس الثامن، ملك قشتاله (1126-1157) ولويس التاسع ملك فرنسا (1226-1270). ولكن على الرغم من ذلك كله فقد ظل تقليد حكام الغرب للدنانير الإسلامية قائماً زمناً طويلاً في العصور الوسطى دون أي تعديل في نقوشه ولغته، لأن الأمر كان ضرورياً لحماية عملاتهم وضمان تداولها.

أما بالنسبة إلى النتائج التي ترتبت على (عالمية) الدينار الإسلامي، يمكن أن نشير، بإيجاز شديد، إلى بعضها، ومنها:

1- انقلبت الخريطة النقدية التي عرفها العالم، عند ظهور الإسلام، رأساً على عقب. فقد حلّ الدينار الإسلامي، محل العملة البيزنطية، كعملة دولية، بل تجاوز الدينار في انتشاره كل البلاد التي وصل إليها (الصولدي) البيزنطي، وأقام لنفسه (إمبراطورية) ضمت تحت سيادتها معظم بلدان العالم القديم. كما أن الدرهم الفضي الفارسي خرج نهائياً من المسرح الاقتصادي بخروج دولة الفرس من التاريخ، وحل محله الدرهم الفضي الإسلامي.

2- أسهم الدينار الإسلامي في صبغ التجارة الإسلامية بالصبغة العالمية، فالدينار كان أسرع في نشاطه من التجار، والآفاق التي وصل إليها لم يتمكن هؤلاء من الوصول إليها، ولكن الدينار خلق لهم ولمتاجرهم سمعة عالية في المناطق التي تم تداوله فيها، وبالتالي فتح أمام التجارة الإسلامية أبواب الكثير من بقاع العالم، سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر.

3- لعب الدينار دوراً مهماً في نقل الأفكار والثقافات بين الشعوب، أي لم يكن الدينار خلال انتقاله بين أيادي تجار العالم ومدنه أداة نقدية فحسب، وإنما كان أداة تواصل، فما يحمله من نقوش ومضامين روحية وتواريخ، شكّلت نافذة أطلت من خلالها شعوب العالم القديم على المجتمع العربي الإسلامي وحضارته.

4- أسهمت (عالمية) الدينار الإسلامي في خلق المهابة والاحترام، في عيون الشعوب، للدولة التي سكته. فالدينار يرمز، في نهاية المطاف، إلى ثروة الدولة واستقرارها السياسي والاجتماعي وقدرتها العسكرية التي تحمل ذلك كله.

5- بعث الدينار الإسلامي، على طول الطرق التي سلكها في رحلته عبر العالم، نشاطاً اقتصادياً ومالياً وثقافياً، وتحوّلت المناطق التي التقت على أرضها دنانير العرب المسلمين ومتاجرهم وأفكارهم، إلى مراكز انطلقت منها النهضة الأوربية والآسيوية في بدايات العصر الحديث.

أخذ الدور العالمي للدينار الإسلامي بالأفول منذ أوائل القرن الثالث عشر الميلادي (السابع للهجرة)، فالعوامل التي شكّلت القاعدة الصلبة لانطلاقه، محلياً وعالمياً، تصدّعت تدريجياً، وبالتالي أخذ يفقد السمات الأساسية التي حققت له المجد والعظمة على امتداد خمسة قرون. ومن الصعوبة بمكان، في هذه العجالة، تحليل قصة انتهاء الدور العالمي للدينار، ولاسيما أنها مرتبطة بعوامل عدة ومتشابكة، اقتصادية وسياسية، محلية وعالمية، وعلى أي حال، فقد أخذت العملات الذهبية التي أصدرتها الجمهوريات الإىطالية تحل محل الدينار الإسلامي. فقد سكت فلورنسا، عام 1252م، عملتها الذهبية المعروفة باسم (الفلورين)، كما أصدرت البندقية، عام 1284م، عملتها الذهبية المعروفة باسم (الدوكات). وعلى الرغم من أن العملات الإيطالية هذه قد انتشرت تباعاً في عالم البحر المتوسط، بوصفها عملات دولية، فإنها لم تحقق الانتشار الجغرافي والتداول العالمي والمكانة الدولية التي نجح الدينار الإسلامي في تحقيقها.

وصفوة القول: إن عالمية الدينار الإسلامي، التي تعددت عواملها، وتنوّعت مظاهرها ونتائجها، ارتبطت ارتباطا وثيقاً بـ(العصر الذهبي)، للحضارة العربية الإسلامية، فبقدر ما كان هذا الدينار أحد مظاهر عالمية هذه الحضارة، كان في الوقت نفسه، وبما يرمز إليه، أداة من أدواتها. إن (حكاية) عالمية الدينار الإسلامي هي أحد فصول قصة الحضارة الإنسانية.

 

 

عادل زيتون

 
 




الظهر والوجه لدينار ذهبي ضرب عام 77 هـ في عهد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان





الظهر والوجه لدينار ذهبي ضرب عام 77 هـ في عهد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان





دينار أموي أندلسي





 





دينار فاطمي