الأندلس الغائب الحاضر في ذاكرة العرب ماضي الخميس تصوير: سليمان حيدر

الأندلس الغائب الحاضر في ذاكرة العرب

إن الذاكرة العربية ملأى بالأحداث والأيام والتواريخ، وهي ملأى كذلك بالأفراح والأتراح، وبأيام العسر وأيام اليسر، وبالنصر والهزيمة. وبلا أدنى شك فإن الأندلس تحتل مساحة كبيرة في الذاكرة العربية، وتحظى باهتمام واسع لدى عدد كبير من الباحثين والدارسين والمتذكرين لأمجاد العرب والمسلمين وأيامهم.

ابك كالنسـاء ملكا لم تدافع عنه الرجال". بهذه العبارة الشهيرة طويت آخر صفحة من صفحات المجد العربي التليد، وودع آخر ملوك العرب والمسلمين حكما عربيا إسلاميا ما زال صداه إلى يومنا هذا يتردد في ذاكرة العرب والمسلمين، وما زالت معالم حضارته مضربا رائعا للأمثلة، ومرتعا خصبا لمن يريد أن يتشدق بما وصل إليه العرب والمسلمون من أمجاد. هذه العبارة التي وبخت بها والدة ابنها آخر الملوك العرب المسلمين "محمد الثاني عشر أبو عبدالله " الذي كان حاكما لمدينة "غرناطة" آخر مدينة إسلامية في بلاد الأندلس، وقد تركها ضعفا وخوفا، وليمة خصبة بيد الفرنجة الإسبان ليحتلوها ويقضوا على آخر معلم من معالم الحضارة العربية والإسلامية ولينهوا حكم العرب المسلمين على أجمل بقاع الأرض "الأندلس". لقد بدأ حكم المسلمين للأندلس عندما فتح العرب المسلمون شمال إفريقيا عام "711 م".. وانضمت شبه جزيرة إيبيريا إلى العالم الإسلامي، وعرفت تلك المنطقة فيما بعد باسم "الأندلس"، وأصبحت الأندلس إمارة تخضع لسلطة دمشق "الشام"، وصارت "قرطبة" عاصمة إمارة الأندلس منذ عام "716 م". وبينما أنا أستعد للبدء بهذه الرحلة التي طالما تمنيت القيام بها، وقفت أسأل نفسي عما سأكتبه عن هذه الجولة في بلاد أجدادي، الذين حكموا الدنيا ذات يوم من مشرقها إلى مغربها، ومن شمالها إلى جنوبها، حتى أن أحدهم كان يخاطب غيم السماء قائلا: "امطري حيث شئت يأتينا خراجك". هل سأعيد كتابة التاريخ، أم أترك التاريخ ليحدثنا عن قوم جاءوا فيه، وتفاعلوا معه، أقاموا وأقعدوا، وعمروا ودمروا، وأصلحوا وأفسدوا!!. هل سأبحث في العمارة الأندلسية؟ أم الفنون، أم الآداب، أم العلوم، أم الطب، أم الموسيقى؟.. أم أي جانب من جوانب الإبداع الأندلسي؟ سأكتب في ماذا وأتحاشى ماذا؟.

من هنا كانت البداية

بعد سقوط الخلافة الأموية على يد العباسيين في بلاد الشام سنة "132 هـ- 748 م" بدأ العباسيون حملة تصفية لجميع أمراء بني أمية، وأفلحوا في القضاء عليهم جميعا، سوى شاب يافع، خارق الذكاء، وهب الفطنة، ودرس الفروسية، واتصف بجميع صفات الإمارة.

الشاب هو عبدالرحمن بن معاوية بن هشام بن عبدالملك، الذي استطاع الفرار من قبضة بني العباس ولجأ إلى أخواله في المغرب العربي من البربر، الذين آزروه وأعانوه بما أوتوا من قـوة ومن رباط الخيل، كي يحقق حلمه الذي ظل يراوده فترة طويلة منذ لحظة فراره من بلاد الشام، بإقامة دولة بني أمية مرة أخرى. واتجهت أحلام الشاب إلى إقامة هذه الدولة بعيدا ما أمكن عن سلطة وبطش بني العباس، وكانت أحلامه وآماله تتجه لإقامة هذه الدولة في بلاد الأندلس، وبعد فترة وجيزة من الزمن، حقق عبدالرحمن الداخل في عام 138 هـ الموافق 755 م أمنيته واستطاع أن يدخل الأندلس أميرا عليها وحاكما لها، ليعيد مرة أخرى رفع راية بنى أمية من جديد، حتى أن ألد أعدائه وأشد أضداده "أبوجعفر المنصور" أحد مؤسسي الدولة العباسية أطلق عليه لقب "صقر قريش" وذلك إعجابا منه بهذا الشاب الأعزل الذي أسس دولة بمفرده. ولقد قام الحكم الأموي في الأندلس عام 756 م في أعقاب حكم الولاة " 710- 755 م" الذين كانوا تابعين للدولة العباسية، واستمروا كذلك حتى عام "1030" وتوالى على الحكم عدد كبير من الأمراء الأمويين، الذين ازدهرت في عهدهم الأندلس وبلغت أوج عزها، وتسلم الخلافة بعدهم بعض الحكام الذين قادوا الدولة إلى الانهيار، وعرضوها للدمار، حتى سقط حكم الأمويين "عام 1030 م"، ويرجع بعض المؤرخين أسباب سقوط حكم بني أمية لعدة أسباب من أهمها، عداوة العرب والبربر، إذ كان للعرب امتيازات كثيرة لا تتوافر للبربر، ومنها أيضا تنوع الأجناس البشرية، إذ التقت في الأندلس أجناس وطوائف متعددة "عرب، بربر، صقالبة، يهود، إسبان.. " إضافة إلى ذلك كثرة طلاب العرش من بني أمية، وتكالبهم على الظفر بكرسي الملك. وبعد انهيار الدولة الأموية أصبحت الأندلس دولا متعددة، لكل دولة أمير وجيش وحياة خاصة، وكان هم الحكام آنذاك بناء الحصون والقلاع والاستعانة بالمرتزقة، وقامت بين هذه الدول حروب عدة، وشهدت المنطقة تحالفات وفتنا ومكائد. حتى جاء المرابطون الذين عملوا على توحيد البلاد ولم يفلحوا، وألهتهم متع الحياة عن تحقيق أهدافهم، وجاء بعدهم الموحدون، الذين كانوا نهاية الحكم الإسلامي في الأندلس.

فضل الأندلس ورجالها

رغم الأوضاع السيئة التي كانت تشهدها المنطقة فإنها كانت أرض حضارة لم يشهد لها التاريخ مثيلا، أنجبت العديد من العلماء والفنانين والمبدعين في العديد من المجالات، ففي الأندلس عاش أول إنسان فكر في الطيران حول العالم وصمم أداة الطيران على هيئة الطير، وأجرى التجربة في نفسه، وفتح عيون العالم إلى الفكرة، ذلك هو عباس بن فرناس القرطبي، الذي اخترع صناعة الزجاج من الرمل، وفي الأندلس عاش الفيلسوف ابن رشد الذي نظم مسار الفلسفة العالمية عبر التاريخ ووصل أطرافها، كما عاش في الأندلس أبو إسحاق إبراهيم الزرقاني عالم الفلك الأندلسي القرطبي الذي اخترع الأسطرلاب وأدهش علماء أوربا، كما أن لعلماء الزراعة في الأندلس فضلا على الزراعة في أوربا في مجالات عدة مثل نقل حبوب القمح الأسود إلى جنوب فرنسا، وكذلك كان للعلماء الأندلسيين الفضل في الوصول إلى الفضاء، فقد قام العلماء العرب والمسلمون بخطوة جبارة في سبيل الوصول إلى صناعة المناظير الفلكية الضخمة التي يسرت غزو الفضاء اليوم، كما أنهم أول من رسم الخرائط رسما علميا وأول من قالوا باستدارة الأرض ودورانها حول محورها، ودورانها حول الشمس قبل "كوبرنيك "، كما أنهم اكتشفوا أكثر من نصف النجوم المعروفة وأسموها بأسمائها العربية الباقية حتى اليوم، ووصل العالم المسلم "البيروني" إلى نظرية استخراج محيط الأرض، كما أن "ابن الشاطر" كان أول من برهن على أن الشمس مركز الكون، إضافة إلى أن "ابن يونس" هو أول من اخترع البندول الذي طوره "جاليليو" بعد ذلك بأربعة قرون، وعلماء الرياضة المسلمون وضعوا علم الجبر وحساب المثلثات واخترعوا الصفر والكسور العشرية واكتشفوا سرعة الصوت والضوء.

هذا جانب مما وصل إليه العلماء العرب والمسلمون في الأندلس، والذي ترجمه الإسبان والأوربيون واستفادوا منه، ونقلوه إلى حضاراتهم.

هذه كانت بداية قيام الدولة الأموية على أرض الأندلس، وهذه نهايتها، وهذا جانب مما حوته من أمجاد وخيرات. سأجول بقلمي وبعدسة زميلي في أرجاء بلاد الأندلس، وسنزورها مدينة مدينة، كي نتعرف عليها عن قرب ونستطلعها عن كثب.

طليطلة

في شوارع طليطلة يجذبك التاريخ جذبا فلا تستطيع أن تبتعد عنه أو تنفك منه، كل شيء في هذه المدينة يدعوك لاستعادة التاريخ، الأشجار والحجارة والقصور والجبال والمعابد تكاد تنطق بالتاريخ، فقد دونت الأيام سيرتها على حوائط طليطلة وجدرانها، ونطق الحاضر بسيرة الماضي، وكانوا قد أمنوا التاريخ على المكان والزمان، ولكن المكان تغير والزمان اختلف، والآية انقلبت، وكما قال الله عز وجل في كتابه المجيد وتلك الأيام نداولها بين الناس..، وقديما قالوا "لكل زمان دولة ورجال"، فلا الزمان زماننا ولا الدولة لنا، ولا الرجال نعرفهم ويعرفوننا.

المساجد أصبحت معابد وكنائس وكاتدرائيات، القصور العربية أصبحت قلاعا غربية.. والبنية تغيرت واللغة تبدلت، وكل شيء لم يعد كما كان.

في طليطلة برزت الدولة الذنونية نسبة إلى "بني ذي النون" التي أسسها إسماعيل بن ذي النون الملقب بالظافر، وخلفه ولده الملقب بالمأمون، وانتهت هذه الدولة باستيلاء الأدفونش "ألفونس" ملك قشتالة "كستيليا" على طليطلة عام 1085 م. وطليطلة الآن مدينة إسبانية، تبعد عن مدينة مدريد العاصمة الإسبانية حوالي ستين كيلو مترا، ويبلغ عدد سكانها الآن حوالي 500 ألف نسمة ويوجد بها حاليا مركز عالمي لصناعة السيوف والرماح. واشتهرت طليطلة في الأندلس، وأصبحت عاصمة بني ذي النون وهم من ملوك الطوائف، وفي المدينة حاليا آثار عديدة سواء رومانسية أو عربية أو إسبانية أهمها قصر طليطلة، وكاتدرائية من القرن الخامس عشر للميلاد. وكانت تعرف في القرون الوسطى باسم "مدينة التسامح" حيث كان يتعايش فيها المسلمون واليهود والمسيحيون. ويرجع اسم المدينة إلى العهد الروماني، حيث كان يطلق عليها اسم "توليدو" وتعني بالرومانية "المدينة المحصنة". وتتميز طليطلة على بقية المدن الإسبانية بأن فيها واحدا من أكبر الأسواق في العالم الذي يضم تحفا وهدايا خاصة ذات الطابع الأندلسي، وهي تشتهر كذلك بمصانع السجاد والسيوف والحفريات والعديد من الصناعات ذات المهارة اليدوية. ولطليطلة حاليا جانب آخر من الأهمية، ففي هذه المدينة ذات التاريخ المشترك لعدد من الشعوب يعقد سنويا "الملتقى العربي الإسباني" والذي يتخذ في كل عام شعارا مختلفا له، ويشارك فيه العديد من المختصين والباحثين والديبلوماسيين والكتاب والصحفيين من الجانبين العربي والإسباني.

إشبيلية

لقد كان آباؤنا وأجدادنا الأوائل يقطعون آلاف الأميال وهم يمتطون الجياد، واستطاعوا رغم ضنك العيش أن يتسيدوا العالم بإصرارهم وعزيمتهم.

سرحت بحياة أجدادي تلك بينما كان القطـار ينطلق مسرعا من مدريد العاصمة إلى إشبيلية المدينة الشهيرة في الماضي والحاضر، ففي الماضي شهدت هذه المدينة حكم بني العباد وهم من أهم أمراء الأندلس وكانت عاصمة لهم، كما كانت مركزا تجاريا وثقـافيا مزدهرا في عهد المرابطين والموحدين الذين حكموا الأندلس، وفي الحاضر اختيرت من بين عشرات المدن ليقام عليها المعرض الدولي السنوي "الاكسبو" وذلك في عام 1992 والذي شاركت فيه جميع دول العالم.

تقع مدينة إشبيلية في جنوب غرب إسبانيا على الوادي الكبير، ويبلغ عدد سكانها حوالي 775 ألف نسمة، وكان العرب قد فتحوها عام 712 م، وخرجوا منها عام 1248 م على يد فيردنالد الثالث. وتعد إشبيلية أشهر الدويلات وأقواها، وقد حكمها بنو العباد، ولقد كانت تمتد من شرقي الوادي الكبير حتى المحيط الأطلسي، وقد شهدت إشبيلية نهضة بارزة وتطورا ملحوظا، وكان من أشهر حكامها المعتمد بن عباد الذي كان يتلقى الدروس على يد ابن زيدون حتى أصبح أديبا وشاعرا، وفي عهده انتهت الدولة العبادية وسقطت إشبيلية بيد المرابطين عام "483 هـ/ 1091 م" الذين قرروا توحيد الدويلات الإسلامية مرة أخرى، وأسر المعتمد ونفي إلى "أغمات " في المغرب، وبقي هناك حتى وفاته سنة "488 هـ/ 1095 م". ويعود أصل المدينة إلى جذور إيبيرية "إسبانية / برتغالية"، ويعتقد البعض أنها "فينيقية"، وفي ظل الحكم الروماني أصبحت المدينة رومانية الطابع، وفي العهد العربي وصلت المدينة إلى القمة بازدهارها وتقدمها، وقد ساعد وقوعها على الوادي الكبير إضافة إلى النهر الذي يخترقها من المنتصف تقريبا على كسب تلك الأهمية. وفي العام 1249 م استولى الملك فريدنالد الثالث على إشبيلية وجعل منها مركزا للسلطة، وبعد اكتشاف أمريكا على يد "كريستوفر كولومبوس" أنيط بمدينة إشبيلية مهمة الإشراف على عمليات الإبحار إلى العالم الجديد، حتى أن رفات المكتشف كولومبوس جلب ودفن في كاتدرائية إشبيلية. وإشبيلية مدينة ما زالت تحافظ في كثير من جوانبها على طابعها العربي، ويسهل للسائح أو الباحث أن يكتشف عراقة هذه المدينة وأصالتها بجولة ميدانية في الشوارع والأزقة، أو أن يجلس لتأمل فن العمارة الذي يغلب عليه الطابع العربي، أو حتى يكتفي بالنظر إلى وجوه الناس ليعرف أن كثيرا منهم يمتازون بالأشباه العربية. لقد حرصت كل الحرص وأنا في إشبيلية على زيارة معلمين مهمين من معالم الحضارة العربية والإسلامية مما خلده أجدادنا من تاريخ لم يصل لنا. المعلم الأول هو الكنيسة الكاتدرائية في إشبيلية وهي ثاني أكبر كاتدرائية في العالم الأوربي، وقد كانت إلى وقت قريب وحتى القرن الثامن عشر مسجدا، كان يطلق عليه "الجامع الأكبر" والذي شيد في القرن الثاني عشر. ويعلو الكنيسة منارة كانت إسلامية، عبارة ع ن خمسة وثلاثين دورا، صممت بحيث يصعدها المؤذن عندما يحين وقت الآذان وهو يمتطي جواده، ويبلغ عرض الممر المؤدي إلى أعلى المنارة حوالي متر ونصف المتر، وطول السلم لكل دور حوالي ستة أمتار مسطحة وقد استبدلت قمة المنارة، وأصبحت اليوم جزءا من الكنيسة.

أما المعلم الآخر الذي حرصت على زيارته فهو قصر إشبيلية، ذلك القصر الذي يعتبر واحدا من أهم القصور في العالم، والذي كان يسكنه أحد أهم ملوك بني العباد هو المعتمد بن عباد. هذا القصر الضخم الذي يقال إنه بني على أنقاض قصور رومانية قديمة يعتبر تحفة من تحف الزمان الخالدة التي بات من الصعب إيجاد شبيه لها.

مدينة التفاؤل

تركت الماضي الذي شدني إليه، وحاولت جاهدا أن أعيش في الحاضر، فلإشبيلية الآن حاضر زاهر وهي تحتل مكانة ثقافية وتجارية غايـة في الأهمية، ففي عام 1992 أقيم المعرض الدولي السنوي "اكسبو" الذي يعد من أهم التجمعات الدولية، إضافة إلى ذلك فالإسبان أنفسهم يتفاءلون جدا بهذه المدينة التاريخية، وقد رأيت إشبيلية تعج بآلاف الإسبان الذين توافدوا من جميع أنحاء إسبانيا، فسألت أحدهم عن السبب، فقال: اليوم ستقام المباراة النهائية في كرة القدم بين إسبانيا، والدانمرك، والفائز سيصل إلى بطولة كأس العالم ونحن نتفاءل بأشبيلية، لذلك قرر الاتحاد الإسباني إقامة المباراة هنا.. وما أن حل الليل واقتربت عقارب الساعة من بعضها البعض عند منتصف الليل حتى انقلبت الشوارع رأسا على عقب، ولم تنم إسبانيا كلها ليلتها، فما بالك بإشبيلية فقد انتصر المنتخب الإسباني على منتخب الدانمارك وتأهل لنهائيات كأس العالم والتي تقام الآن في أمريكا.

قرطبة

ليتني أستطيع مخاطبة الحجر، وليتني أفهم لغة الطيور، وليتني أعرف همسات تنفس الصباح وأدرك خلجات عسعسة الليل، ليت هذا الحجر الجامد أمامي ينطق ليخبرني بالحكاية كاملة، وليت لهذا الحائط روحا تحفظ ما توارد عليها من أجيال.

وقفت أمام أهم حجر في التاريخ، أقرأ ما كتب عليه، لا أعلم لماذا وأنا أقرأ أحسست بأن روحي انفطرت عن جسدي، وأن عقلي تاه مني، وأن عيني لم تكن لي، وأن سمعي لم يعد يدرك ما يدور حوله:

أغار عليك من عيني ومني

ومنك ومن زمـانك والمكان

ولـو أني خبأتك في عيـوني

إلى يوم القيامة ما كفانيولادة

يا من غدوت به في الناس مشتهرا

قلبي يقـاسي عليك الهم والفكر

إن غبت لم ألق إنسـانا يؤانسني

وإن حضرت فكل الناس قد حضروا

ابن زيدون

إن هذا الحائط يحكي واحدة من أهم قصص العشق والغرام في التاريخ، إنها حكاية الوزير ابن زيدون الذي عشق ولادة بنت المستكفي الخليفة الأموي الذي خلعه أهل قرطبة يقول ابن بسام صاحب كتاب "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة" وفي ولادة "كان مجلسها بقرطبـة منتدى لأحرار العصر، وفناؤها ملعبا لجياد النظم، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب إلى حلاوة عشرتها"، ولقد اشتهرت حكاية ابن زيدون وولادة ليس في قرطبة فحسب بل في جميع أنحاء الأندلس، وكانت مضربا للمثل، ومثالا للغزل.

إن مدينة قرطبة التي شهدت واحدة من أهم قصص الحب والعشق في التاريخ شهدت كذلك أمجاد العرب والمسلمين، التي مازالت آثارها ظاهرة جلية لا تخفى على عين. تقع مدينة قرطبة بين جبلين في واد عريض يعرف باسم "قواد كويفير"، وقـرطبة هي أول مدينة أعلنها عبدالرحمن الداخل إمارة مستقلة عن سلطة العباسيين في الشام. وقد عرفت قرطبة في عهد الأمويين بـ "الدولة العامرية " و"الدولة الحمودية "، وبعد انتهاء الحكم الأموي نهض بالأمر "بنو جهور" فأسسوا "المدينة الجهورية" لكنها سرعان ما سقطت بيد "العباديين" بعدما مضى قرابة أربعين عاما على قيام الدولة الجهورية.

ولقرطبة علامات مميزة عديدة فبالإضافة إلى حائط العشاق، فهناك تمثال ابن رشد وقصر الأمير عبدالرحمن الثالث الذي زرع فيه بعض الأشجار ما زالت موجودة كان قد أحضرها من الشام تعرف باسم "الميسو"، كما أن مسجد قرطبة يعتبر مفخرة من مفاخر الزمان.

ولقد بدأ العمل في مسجد قرطبة في عام 785 م، وتبلغ مساحته 22400 متر مربع، ويتألف المسجد من ثلاثة أقسام هي "المئذنة، وقاعة الغسيل والوضوء، وقاعة الصلاة"، ويبلغ طول المئذنة 23.5 متر، وقد بنيت قبة المسجد من الحجارة، لذا كان لزاما على البنائين أن يبنوا جدرانا سميكة لدعم القبة السميكة، ويوجد في المسجد حاليـا 856 عمودا، وقد كان عدد الأعمدة أثناء حكم المسلمين 1013 عمودا، ويعلو محراب المسجد سبع نوافذ وهي تعبير عن السموات السبع، وللمسجد تسعة عشر بابا، وقد حول المسجد الآن إلى كنيسة كاتدرائية ومتحف، ويوجـد في منتصف المسجد حائط مكتوب عليه الآية الكريمة شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم..، وما زالت موجودة حتى الآن.

وقد كان يوجد في قرطبة في القرن العاشر حوالي ثلاثة آلاف مسجد، أما الآن فلا يوجد سوى مسجد واحد يؤدي فيه المسلمون الذين لا يزالون يعيشون في قرطبة والبالغ عددهم حوالي 200 مسلم صلاتهم.

مدينة الزهراء

تقع مدينة الزهراء على بعد ثمانية كيلو مترات شمال غرب قرطبة، وقد بنيت المدينة في القرن العاشر للميلاد، وأصبحت إحدى أهم المدن الفخمة وأجملها في جميع أرجاء العالم. وقد بدأ البناء في المدينة عام 936 م أثناء حكم عبدالرحمن الثالث، وبني حول المدينة جدران خارجية ضخمة للدفاع عنها وحمايتها من الغزاة ولكن ذلك الجدار لم يحمها، إذ تعرضت المدينة إلى العديد من الأضرار الجسيمة على يد البربر، حتى تم تدميرها بالكامل في القرن الثاني عشر للميلاد. وبعد مئات السنين من النسيان وتحديدا في عام 1854 وبسبب أعمال التنقيب عن الآثار في المنطقة تم العثور على موقع مدينة الزهراء، وفي عام 1911 م بدأت أعمال الحفريات لاستعادة المدينة التي بلغت مساحة سطحها 112 هكتارا، "والهكتار يساوي عشرة آلاف متر مربع"، وهذه المساحة لا تشكل سوى 10% من المساحة الإجمالية للمدينة. وعندما تتجول في هذه المدينة التاريخية التي لم يبق من ذكرها سوى بعض الأطلال فإنك تشعر بالتاريخ وكأنه يتحدث إليك ليخبرك بالأيام الماضية، وعندما ترى فريقا من العمال وهم يعملون على إعادة بناء التاريخ من خلال أعمال التنقيب والترميم التي يقومون بها لآثار هذه المدينة وما تبقى منها فإنك تشعر بالزهو لأن الإنسان الحديث قد أولى ذلك التاريخ اهتماما بالغا.

إن إسبانيا اليوم لا تألو جهدا في إظهار التاريخ كما كان، وتعمل جاهدة على إبراز معالم تلك الفترة التاريخية المهمة من دولتهم، بل إنهم يحترمون ويقدرون الأعمال التي قام بها العرب والمسلمون، ويقرون بأنهم استفادوا كثيرا من مرحلة الحكم الإسلامي في العلوم والآداب والفنون.. وكثير من المجالات.

غرناطة

آخر مملكة إسلامية عربية في الأندلس، وهي آخر صفحة طويت من صفحات أمجاد العرب والمسلمين في الأندلس، وباستسلام مدينة غرناطة في عام 1492 م لقوات ملكي قشتالة الكاثوليكية، انتهت نحو ثمانية قرون من الحكم الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية، ولقد أسس المسلمون هذه المدينة بعد سقوط مدينتي قرطبة بأشبيلية على يد فرناندو الثالث ملك كاستيا، وأهم ما يميز غرناطة هو أسطورة فن البناء العربي "قصر الحمراء"، وقد بدئ في بناء القصر أثناء حكم محمد بن الأحمر 1238 م، ويبلغ اتساع قصر الحمراء حوالي 104 آلاف متر مربع. ويقال إن اسم الحمراء أطلق على القصر بسبب الأرض التي شيد عليها والتي تحتوي على الحديد، أو ربما إلى لون الحائط الخارجي، أو إلى انعكاس أنوار المشاعل التي كانت تنير للعمال أثناء البناء في الليل.

ويقدر المؤرخون عدد العرب الذين سكنوا غرناطة في تلك الفترة بحوالي 400 ألف نسمة، توافدوا إلى العاصمة من أماكن عدة. وتعد غرناطة أهم مدينة عرفت الأدب، وقد اشتهر فيها عدد كبير من الشعراء والأدباء من أمثال لسان الدين الخطيب، وهو أهم شاعر في فترة بني الأحمر.

العودة إلى الحاضر

إن أمجاد العرب والمسلمين التي امتدت لمئات السنين لا يمكن ذكرها أو حصرها أو حتى الحديث عنها كما نفعل، ولكن بكل تأكيد إن زيارة ما تبقى من تاريخ الأجداد تجعل المرء غاية في الزهو والفخر لما خلده الأوائل من حضارة ما زالت مضربا للأمثال.

إن الأندلس لم تكن أرض قصور وقلاع، بل كانت أرض علم وفن وأرض اكتشاف واختراع، أرضا انحنى التاريخ إعجابا وتقديرا لمن وطأها، أرضا لفتت أنظار العالم إليها وما زالت، أرضا تميزت وتفننت وأعطت وأكرمت. لقد جذبني التاريخ إليه ولم أعد قادرا على تركه، ولقد شدتني الحضارة العربية إليها فلم أعد متمكنا من الانفكاك عنها، حتى تمنيت لو أنني أعيش في ذلك العهد، لأشهد حكاية ابن زيدون وولادة، وأحضر ليالي المعتمد بن عباد، وأشهد معارك عبدالرحمن الداخل، وأستمع إلى حكم عبدالرحمن الثالث.. ولكن لا مفر من الذي لا بد منه، العودة إلى الحاضر أمر لا خلاص منه، فتركنا الأندلس بما فيها، وعدنا إلى مدريد العاصمة الإسبانية الحالية.

العرب والإسبان

في مدريد كنت بحاجة إلى من يجيبني عن بعض الأسئلة والاستفسارات، وقد تولى الإجابة سفير دولة الكويت لدى إسبانيا السيد عبدالرزاق الكندري، الذي رحب بنا ، وبما نحمله من أسئلة واستفسارات.

سألت السفير الكندري عن مدى الاهتمام الإسباني بالحضارة العربية والإسلامية، فأجاب: أحب هنا وأنا أتحدث لمجلة العربي الواسعة الانتشار أن أدعو الدول العربية والإسلامية إلى التآخي والتعاون خاصة في شبه القارة الإيبيرية، هذه القارة التي أضاف لها العلماء العرب والمسلمون الكثير من العلوم والاختراعات والاكتشافات، وجلبوا إليها حضارتهم وثقافتهم التي وصلت إلى مرحلة متقدمة من النهوض والتقدم الفكـري والعلمي. ولقد كان أهم ما يميز الفترة الإسلامية في العهد الأندلسي التسامح، فقد كان التسامح هو الركيزة الأساسية في معاملة الدين الإسلامي لجميع الديانات الأخرى، وبهذا استطاعوا أن يؤثروا ويتأثروا بما هو موجود في ذلك الوقت من حضارات في أوربا، وأضافوا إليها الكثير من فكرهم الإسلامي والعربي، كما استطاعوا أن يبدعوا النظريات الجديدة في العلوم المختلفة مثل الجبر والطب، وكذلك العلوم الإنسانية. ومما لا شك فيه أن ثمانمائة سنة من الوجود العربي والإسلامي جعلهم يساهمون مساهمة فعالة فيما وصلت إليه أوربا من تقدم ملموس في الوقت الحاضر. وفي الواقع فإن هناك رموزا عديدة من رموز الحضارة والعلم في أوربا يعترفون بهذه الحقيقة، ولكن ومع الأسف الشديد فقد حاولت جهات كثيرة أن تطمس هذا الدور العربي والإسلامي فيما وصلت إليه الحضارة الأوربية بشكل عام في وقتنا الحاضر، ولكننا لاحظنا في السنوات الأخيرة أن هناك إدراكا متزايداً واعترافا متناميا لهذا الدور العربي والإسلامي المساهم في الحضارة الأوربية، وتلا ذلك الاعتراف والاهتمام برموز ومعالم الحضارة الإسلامية والعربية في إسبانيا بشكل خاص، كما لاحظنا الاهتمام بالأماكن الأثرية التي يرجع بناؤها إلى تاريخ المسلمين الأوائل في زمن الدولة الأموي وصارت إسبانيا تفتح أبوابها للناس كي يطلعوا ويعرفوا مقدار ما ساهمت به الحضارة العربية والإسلامية في نهضة إسبانيا وتقدمها الفكري والحضاري. وعلى سبيل المثال فإن مكتبة "الأسكوريال" تمتلئ بالعديد من كنوز الكتابات العربية والإسلامية في مختلف المجالات، وهناك العديد من أعمال العلماء المسلمين موجودة في هذه المكتبة.

إن الأصدقاء الإسبان اليوم يعتبرون الحضارة الإسلامية والعربية جزءا لا يتجزأ من تاريخهم الإنساني.

ما هو في رأيك الدور العربي والإسلامي المطلوب للمحافظة على هذا التراث؟.

- في رأيي الشخصي يجب ألا يكون اهتمامنا منصبا فقط على الإعجاب التاريخي بهذا التراث والتغني به، ولكن يجب علينا أن ننشره في تعاون آني وتعاون مستقبلي، ويجب أن نعتبره رافدا جيدا لهذا التعاون في الحاضر والمستقبل، لكل ما من شأنه أن ينمي العلاقات والتعاون بين إسبانيا والدول العربية. ويجب أن ندرك أن المسلمين عندما وصلوا إلى إسبانيا بدأوا من الجزيرة العربية والشام، ومروا بالمغرب العربي، ووصلوا إلى إسبانيا.

هذا التعاون الذي تم بين تلك الأطراف يجب أن يتم كذلك في الوقت الحاضر، وأعتقد أن إسبانيا يمكن أن تلعب دورا مهما في ذلك، فيمكن أن تكون قناة جيدة التوصيل من أجل تعاون عربي أوربي أشمل.

وأعتقد أن السبيل إلى ذلك هو أن يعرف أولاً كل منا الآخر، فيجب أن تعرف إسبانيا ما يجري في عالمنا العربي والإسلامي، ويجب علينا أن ندرك ونتفهم ما يجري في إسبانيا، فهذا التواصل سوف يثمر نتائج إيجابية.

هل تم عقـد لقاءات بين العرب والإسبان؟

- إن ملتقى طليطلة الذي عقد في شهر نوفمبر 1992 هو الأول من نوعه الذي يحضره مجموعة من مفكري الوطن العربي وأوربا، وخاصة من إسبانيا

ولقد اختيرت طليطلة لهذا الملتقى لما لها من مكانة ترمز إليها كمكان لملتقى الأديان السماوية الثلاثة، الإسلام والمسيحية واليهودية، والشواهد على هذا التلاقي موجودة في طليطلة، وهذا الملتقى هو حوار فكري وثقافي وسياسي، تطرح فيه كل المشاكل وكل العناصر التي يمكن أن تؤدي إلى تقارب في الأفكار وتقارب في المبادئ بين الوطن العربي وأوربا بشكل عام وإسبانيا بشكل خاص.

كما أن هناك ملتقى آخر أقيم في مدينة "مدريد" عن صورة الوطن العربي في وسائل الإعلام الأوربية، أعتقد أن هذه الحوارات طريقة جيدة للتحليل والتفكير لكيفية الوصول إلى وضع أفضل وأمثل لعملية التلاقي، ولا شك في أن عنصر الفكر في عملية التلاقي عنصر مهم للغاية، وخاصة أن هذا الفكر يمثل حضارات متعددة وعادات وأفكارا ثقافية وسياسية متنوعة فالحصيلة من هذه اللقاءات ستكون ما لدى هؤلاء المفكرين من ثقافة ومبادئ إنسانية، وبالتالي أعتقد أن هذه الملتقيات ستؤدي إلى تفهم وتفاهم، وبالتالي إلى إدراك أن التعاون هو السبيل الأمثل لتكوين علاقات صحية بين هذه الدول، ونرجو أن تتكرر هذه اللقاءات في مدن عربية أخرى كما حدث أخيرا في مدينة الرياض، حيث عقدت ندوة عن الفكر الأندلسي ومساهمته في الحضارة الإسلامية وإذا نحن قلنا الفكر الأندلسي فإننا نعني الفكر الأندلسي الإسلامي وغير الإسلامي، وبشكل عام نقصد الفكر الأندلسي الإنساني بكل روافده الدينية والحضارية والفكرية فهذه اللقاءات هي ظاهرة صحية يجب أن نشجعها ونطورها ونحسن أيضا عنصر الأداء فيها بشكل أفضل.

يا زمان الوصل

حان موعد الفراق، وأصبح لزاما علينا أن نودع الماضي والحاضر لنكمل طريقنا، فلم تبق سوى لحظات على موعد إقلاع الطائرة، وإذا ظللنا نسرح بعبق الماضي، ونسمات الحاضر فلن نرى المستقبل، حملت حقائبي، واتجهت إلى سلم الطائرة، وأنا أتمتم بموشح أندلسي قديم:

جادك الغيث إذا الغيث هما

يا زمان الوصل بالأندلس

لم يكن وصلك إلا حلما

في الكرى أو خلسة المختلس

 

ماضي الخميس

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




صورة الغلاف





خريطة توضح الأماكن التي قامت بعثة العربي بزيارتها





قاعة الأسود في قصر الحمراء في غرناطة





آيات قرآنية وزخارف أندلسية في إحدى قاعات قصر الحمراء في غرناطة





إحدى بوابات المسجد الكبير في قرطبة والذي تحول حاليا إلى كنيسة ومتحف





الأقواس كانت نوعا من أنواع العمارة الإسلامية التي تميز بها المسلمون الأوائل





صورة للمسجد الكبير في إشبيلية ويظهر جزء من الكاتدرائية حاليا وكانت في السباق مئذنة للمسجد وتعتبر ثاني أطول برج لمعبدفي أوربا





عدد من السياح يتابعون باهتمام فن العمارة الإسلامية





أحد أركان قصر المعتمد بن عبادة في إشبيلية





جانب من أركان قصر ابن عباد في إشبيلية حيث الابداع العربي في فن العمارة والبناء





مدينة طليطلة جزء مما تركه المسلمون الأوائل





مجموعة من الطالبات وهن يخرجن من جامعة إشبيلية





فتاة إسبانية تمتاز بملامح عربية من سكان إشبيلية تقول أن أجدادها من أصل عربي





كتابات عربية وإسلامية ونقوش زخرفية على معظم حوائط القصور والمساجد والقلاع الإسلامية العربية





الحائط الخالد الذي نقشت عليه أجمل قصة حب وقصائد ولادة ابن زيدون





تمثال ابن رشد رائد من رواد الفلاسفة في العصر الإسلامي في الأندلس





إن الاسبان حاليا يستخدمون نفس الخطوط والنقوش في المباني الحديثة





مدينة الزهراء التي تم اكتشافها أخيرا، إحدى المدن الإسلامية التي تمتاز بالجمال





أحد الصناع الاسبان وهو يقوم بعمل نقوش إسلامية على إحدى التحف





أحد الشبابيك التي يظهر تأثرها بفن العمارة الإسلامية





سفير الكويت لدى إسبانيا عبدالرازق الكندري يتحدث للزميل ماضي الخميس