عجائب الأجنة في الأرحام!

عجائب الأجنة في الأرحام!

كان أقصى ما لدينا من علم، عن حياة الجنين في الرحم، أن نبتة صغيرة، تنمو في ظلمة حالكة، وصمت مطبق، بمعزل عن الحياة وراء جدران الرحم! وكثيرا ما كنا نقرأ أو نسمع أن الحياة في الرحم هي السكينة بعينها. ففي هذا المكان الصغير من جسم الأم، ترقد مضغة صغيرة، في دلال منقطع النظير، حيث يحيط بها سائل دافيء، ويصل إليها الغذاء والهواء في غير عناء!

فهل الأمر كذلك؟ وهل حقا يبقى الجنين في الرحم بمعزل عن الحياة، إلى أن يخرج إليها، فيعلو صراخه منها عند أول لقاء؟! هل يرقد الجنين في الرحم في «سكينة خالدة» و«صمت مقدس»، بينما تدب الحياة في أوصاله رويدا رويدا، أم أنه يشارك الأحياء حياتهم فيعكر سكينةَ روحِه صَخَبَهُم، ويكسر جدرانَ صمتِه عجيجُ حياتهم؟!

هذا ما أراد العلم الحديث أن يعرف الإجابة عنه. ولا غرو أن يفتش الإنسان عن أسرار الحياة، حيثما كانت حياة. ففضول المعرفة والبحث عن المجهول، غريزة حميدة في الإنسان. ولولا إشباع هذه الغريزة، لبقي الإنسان يضرب على عمى في كهوف الجهالة ووديان العجز.

وقد انقطعت فرق من الباحثين، في مراكز علمية عدة، ترقب في صبرٍ حياةَ الجنين في الرحم. ولم يكن الغرض إحصاء أنفاس الحياة على هذه المخلوقات الوديعة في أرحام أمهاتها، لكنه إشباع فضول المعرفة، وإرضاء غريزة اختراق حجاب المجهول.

وقد شملت الأبحاث خلال عدة سنوات، حياة الأجنة في أرحام بعض الحيوانات ذات المنزلة المختلفة على سلم تصنيف مملكة الحيوان، فشملت أجنة الطيور والزواحف في البيض، كما شملت حياة الأجنة في أرحام الحيوانات ذوات الأثداء، وعلى رأسها الإنسان.

وعلى الرغم من أن هذه الأبحاث لاتزال مستمرة، فإن ما كشفت عنه إلى الآن يعتبر إنجازًا علميا طريفا بحق، نعرض جانبا منه على السطور التالية.

تكوُّن الجنين

رحم أنثى الإنسان عضو عضلي صغير، يشبه ثمرة كمثرى مقلوبة، ويوجد في أسفل البطن في المنطقة من الجسم المسماة «بالحوض». وفي كل شهر، وقبل نضج «البويضة» في مبيض الأنثى، يتهيأ الرحم لاستقبال «ثمرة الحياة» (البويضة المخصبة) فتنشط خلايا بطانة الرحم، وتتكون منها أعداد غفيرة لتكون بطانة وثيرة للقادم المنتظر.

فإذا خرجت البويضة الناضجة من مبيض الأنثى، ومضت في طريقها إلى الرحم دون إخصاب، فإن كل الاستعداد الذى قام به الرحم ينهدم، وتموت خلايا البطانة وتخرج من جسم الأنثى مع البويضة غير المخصبة، فيما يعرف باسم «الحيض» أو «الطمث». وتكرر هذه الأحداث مرة كل شهر، في حياة الأنثى البالغة، هو ما دعا إلى إطلاق اسم «الدورة الشهرية» عليها.

أما إذا أخصبت بويضة الأنثى بحيوان منوي من ماء الزوج، فإن هذا الحدث المَعْلَم يأخذ مكانه في قناة «فالوب»، وهي القناة التى تنقل البويضة من المبيض إلى الرحم. ثم تزف البويضة المخصبة إلى الرحم الذى تهيـأ لهذا الحدث الجلل: إنشاء حياة جديدة.

وتبدأ أولى مراحل إنشاء الحياة بانغماد البويضة المخصبة في جدار الرحم. وسرعان ما تأخذ هذه النطفة في الانقسام والنمو، كأن فيها عطشا سرمديا للحياة. ويتكون غشاء رقيق حول الجنين النامي، يسمى «السّلَى» «Amnion». ويكون بين الغشاء وبين الجنين فسحة أو مسافة فاصلة، تعرف باسم «التجويف النُّخْطِي» ويمتلأ هذا التجويف بسائل اسمه «السائل النخطي» «Amniotic Fluid».

وبتعبير آخر، فإن الجنين وهو ينمو داخل الرحم يكون في محفظة مملوءة بالسائل. وهذا السائل إحدى معجزات الخالق، ذلك أنه يوفر للجنين حماية كبيرة من أي صدمة أو ارتجاج نتيجة حركة أمه!

وفي هذه البحيرة الطبيعية الصغيرة، المدفَّأة دائما باعتدال، يقضي الجنين حياته في الرحم، فيسبح تارة ويلعب تارة أخرى، وينام تارة ويصحو تارة أخرى. ومن الطريف حقا أن الجنين يتعلم «فن العوم» في رحم أمه، وبالتحديد في هذه المحفظة من السائل النخطي! ففي بعض مستشفيات فرنسا وروسيا - غير التقليدية - تضع الحوامل صغارهن في حوض ماء دافيء. وقد اتضح أن الجنين يستطيع الاحتفاظ بجسمه طافيا فوق الماء، فور خروجه من بطن أمه، وبينما «الحبل السري» لا يزال يربطه إلى «المشيمة» في جوف أمه!

وقد كشفت الأبحاث أن الجنين في رحم أمه هو جزء من كل، وليس كائنا معزولا عن الحياة. فهو يتأثر بانفعالات أمه، فيغضب لغضبها ويفرح لفرحها. وبمراقبة الجنين في بطن أمة في حالة غضب، اتضح أن نبضات قلبه تسرع مع خفقان قلبها، وأن حركته تزداد عن المعدل الطبيعي، وتعكس نوعا من القلق والتوتر!

ومعروف أن الاضطرابات العاطفية عند الحامل يمكن أن تؤدي إلى الإجهاض، أو إلى ولادة مبكرة لجنين غير تام النمو. ويعتقد أن السبب وراء ذلك راجع إلى اضطراب في نسب الهورمونات في جسم الحامل، من جراء اضطراب نفسيتها. لكن لم يكن معروفا من قبل أن الجنين يستجيب لانفعالات أمه على ذلك النحو المثير للدهشة! والحق أن الجنين لايستجيب لانفعالات أمه فحسب، بل إنه يتأثر كذلك بحركاتها الجسدية. فقد كشفت الأبحاث أن الجنين يستيقظ من نومه، عندما تصاب أمه بنوبة سعال (كحة) أو قيء، وحتى عندما تنحني أو تثني جذعها!

الجنين يسمع!

ما يبدو مذهلا بحق، هو ما كشفت عنه الأبحاث الجديدة بشأن حاسة السمع عند الجنين. ويبدو أن الجنين كان مغبونا حين ذهبت الظنون إلى أنه يعيش في صمت مطبق. والحقيقة أنه يستطيع استقبال ترددات صوتية، لا تتمكن آذان أبويه من التقاطها! فأذن الإنسان البالغ تستقبل أصواتا تتراوح تردداتها بين ثلاثين وثماني عشرة ألف ذبذبة في الثانية «30 - 18000 ذ/ث». بينما تستقبل أذن الجنين أصواتا تتراوح ذبذبتها بين ست عشرة إلى مائة وثمانين ألف ذبذبة في الثانية «16 - 180000 ذ/ث»!!

اتضح من الأبحاث أن جنين الإنسان يتفق مع جنين الحوت في هذه الحساسية الفائقة للأصوات! ما وجه الشبه بين الاثنين في هذا المجال؟! وأين تذهب حساسية الإنسان الفائقة لاستقبال الأصوات، بعد خروجه من الرحم وتقدمه على سلم الحياة؟! تبقى هذه الأسئلة موضع بحث واستقصاء. وإن كانت إحدى النظريات الحديثة تفترض أن الجلد - وليست الأذن - هو الذى يتأثر بالتموجات الصوتية ويلتقطها أثناء الحياة في الرحم!

على أن هذه النظرية لا تنفي أن حاسة السمع تنمو عند جنين الإنسان في وقت مبكر. فجنين في الشهر الخامس من الحمل يمكن أن يقفز في جوف أمه قفزة هائلة، إثر سماعه ضوضاء عالية مفاجئة، مثل صوت انصفاق باب بعنف!

بل أكثر من هذا، استطاع بعض الباحثين الكشف عن الصمم عند أجنة في الشهر السادس من عمر الحمل! وقد فعلوا ذلك بوضع جهاز صغير على جدار بطن الحامل، تصدر منه تموجات صوتية ذات أنغام مختلفة. وراقبوا نبض قلب الجنين مع تغير التموجات والنغمات!!

وفي تجربة طريفة، قام بها الباحثون في معهد «فسيولوجيا الحيوان» التابع لجامعة كامبريدج «في بريطانيا» تم وضع «مكبرات صوت مائية «Hydrophones»، داخل محفظة جنين «نعجة» حامل. ولدهشة الباحثين، اتضح أن أصوات المحادثة العادية تخترق الرحم! ولدهشتهم كذلك، فإن الصوت الوحيد الذى توقعوا سماعه، وهـو صوت نبضات قلب النعجة الأم، لم يكن له وجود!

ولعل ظهور ضربات قلب الأم الحامل في بعض الدراسات المماثلة، راجع إلى استخدام مكبرات صوت عادية «ميكروفون» خارج محفظة الجنين. وعلى أي حال، فإن أصحاب التجربة لا يزعمون أن ما جرى في حال النعجة الحامل، يجب بالضرورة أن يجري مع الجنين البشري. ولكن التجربة تعطي انطباعا بأن الجنين يسمع من الأصوات أكثر بكثير مما كان يعتقد في الماضي!

وفي تجربة أكثر إثارة للدهشة، قام بها فريق من الباحثين في جامعة شمال كارولاينا «الولايات المتحدة»، اتضح أن عددا من الأطفال حديثي الولادة «أعمارهم جميعا أقل من ثلاثة أيام» يقبل على الرضاعة بنشاط أكبر عند سماع أصوات أمهاتهم! ولما وضع المواليد أنفسهم تحت رعاية نسوة أخر، انخفض الإقبال على الرضاعة. وعندما استمع المواليد إلى أصوات أمهاتهم من جديد، زاد الإقبال على الرضاعة مرة أخرى!

وحتى تكون التجربة بمعزل عن أي عوامل مؤثرة أخرى، فقد روعي أن يتغذى جميع المواليد بالرضاعة الصناعية. وتظهر التجربة أن الطفل حديث الولادة يستطيع التعرف على صوت أمه، وتمييزه من بين أصوات نسوة آخرين! ويعزو بعض الباحثين قدرة المولود على تمييز صوت أمه إلى أنه يألف صوتها بينما لايزال في رحمها!

وعلى الجملة، فيمكن القول إن الجنين في الرحم مستمع جيد، بل وقادر على تمييز الأصوات! والسؤال الذى يطرح نفسه الآن هو: إذا كان الحال كذلك، فما هو أثر المشاجرات العنيفة بين الزوجين على الجنين في الرحم؟ وما تأثير برامج التلفاز العنـيفة، وضوضاء الحياة اليومية على الكائن الوديع؟!

هذا ما ستتناوله الأبحاث في المستقبل إن شاء الله.

هل يحلم الجنين؟!

كان يعتقد أن مخ الإنسان لا يبدأ في العمل حتى يخرج الجنين من رحم أمه. ولكن عميد كلية طب ستانفورد «الولايات المتحدة» أثبت أن مخ الانسان يبدأ في العمل في وقت مبكر، وبالتحديد في الشهر السابع من الحمل، وذلك حين التقط على جهاز «رسام المخ الكهربي» الموجات الصادرة نفسها عن مخ طفل حديث الولادة!

ليس هذا فحسب، بل إن أطوار أو مراحل النوم، التى يمر بها الأطفال والإنسان البالغ على السواء، يمر بها الجنين كذلك، بما في ذلك مرحلة «حركة العين السريعة» المعروفة اختصارا بالحروف REM!

ومعروف أن مرحلة «حركة العين السريعة» تصاحب الأحلام في النوم. فهل يحلم الجنين؟! وبماذا يحلم؟! وإذا كانت مادة الأحلام مبنية على تجارب وخبرات سابقة، فما هي مادة أحلام الجنين؟! يبدو أن ظلمات الأرحام تلف غموضا لا نهاية له!! وصدق الله العظيم: - وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا .

كذلك كشفت الأبحاث أن الجنين يتنفس، بينما يسبح في «السائل النخطى» في رحم أمه! فالصدر يعلو ويهبط في إيقاع منتظم، كذلك الذى يحدث أثناء تنفس الإنسان البالغ! وقد أمكن رصد هذه الحركات بتسجيل صدى الأصوات ذات التردد المنخفض، والتي التقطت للجنين بالموجات فوق الصوتية. فقد أظهرته وهو يمص إبهامه تارة، ثم وهو يقبض على «الحبل السرى» تارة أخرى! كما ظهر من الصور نفسها أن الجنين يبتسـم، ويتمدد، وينطوي، ويركل بأطرافه الصغيرة! فهل يستعد الجنين لممارسة هذه الأفعال بعد الميلاد؟!

الآن يأخذ الطب الحديث بعين الاعتبار، نشاط الجنين في الرحم باعتباره مؤشرا للنشاط بعد الميلاد. كما يؤخذ اضطراب نشاط الجنين مؤشرا على اضطراب بيئته الداخلية - الرحم. وأصبح مفهوما الآن أن «الولادة» لاتعني بداية حياة الإنسان، بقدر ما تعني تغيير البيئة. فالحقيقة أن حياة الإنسان تبدأ قبل لحظة الولادة بكثير. ويبدو أن الصينيين القدماء صدقوا في قولهم: «يكون عمر الإنسان عامًا وقت ولادته»!

وظيفة المشيمة

أما أعـظم الاكتشافات العلمية الحديثة، التي تمخضت عنها أبحاث الأجنـة في الأرحام، فهى أن «المشيمة» «السخ» تحتوي على المادة المسماة «بيتا - إندورفين» «Beta - Endorphins»، وهى مادة طبيعية شبيهة بالمورفين، وينتجها مخ الإنسان. وتبلغ قدرة هذه المادة الطبيعية على تسكين الآلام ثلاثة أضعاف قوة المورفين. وقد وجد أن نسبة هذا المسكن للألم في دم الأم الحامل، ترتفع مع اقتراب موعد الوضع!

والجديد بشأن «المشيمة» كذلك أنها ليست «حاجزا» بالمعنى الدقيق للكلمة. فقد كان يعتقد في الماضى أن «المشيمة» سد يحول دون وصول أي مادة ضارة من دم الأم، إلى جسم جنينها. بيد أن البحث أظهر أنها أقرب إلى «غربال» «منخل» يمكن أن تخترق عيونه بعض المواد، مثل الفيروسات والبكتيريا.

وفي إحدى دراسات الأجنة، اتضح أن الأمهات اللاتى أعطين هورمون الذكورة أثناء الحمل، بهدف الحيلولة دون الإجهاض أو الولادة المبكرة، ولدن أطفالا ذوي ميول عدوانية! واستنتجت الدراسة ذاتها أن هورمون الذكورة تسرب من «المشيمة» إلى الجنين، فأدى إلى رفع منسوب هذا الهورمون في دمه، مما انعكس على سلوكه!

و«المشيمة» «placenta»، هي شبكة معقدة من أوعية دموية وأغشية رقيقة، وعن طريقها يصل الغذاء والأكسجين من دم الأم إلى دم الجنين. وعن طريقها كذلك يتخلص جسـم الجنين مـن الفضلات والنفايات التى يحملها منه دم الأم، إلى حيث يتخلص منها جسم الحامل عبر المخارج الطبيعية.

ومما لا شك فيه أن أبحاث الأجنة أضافت الكثير من المعلومات الجديدة والطريفة، عن أعقد وأعجب عملية تتم في جسم الكائن الحي: تخلُّق حياة جديدة، فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ .

 

 

عبد الرحمن عبد اللطيف النمر 




صورة مقطعية للرحم توضح الجنين في شهوره الأولى وموضع ارتباط الحبل السري بالمشيمة





جنين مكتمل النمو داخل الرحم





 





الوضع الذي يتخذه الجنين استعدادا للولادة





أجهزة التصوير الحديثة بإمكانها مراقبة جميع الحالات التي يمر بها الجنين وتدفع الباحثين للتساؤل عن أحلامه